خرب الدورة الحضارية في المشرق وشمال أفريقيا وتعداهما إلى البلدان الأوروبية
كتب : أمين الزاوي
للفقيه صورة خاصة لدى العامة الريفية والمدينية على السواء، فهو آخر صورة، ربما، لما نطلق عليه المثقف الكلاسيكي الموسوعي، إذ لا ترتبط صورته في ذهنية مسلمي المشرق وشمال أفريقيا بدوره الديني فقط، بل تتجاوز ذلك إلى مجالات أخرى، مجالات يلامسها من دون إثارة الفتنة، فالفقيه إضافة إلى أنه يقوم بدور تحفيظ القرآن للصغار والمراهقين أو ما يطلق عليهم في شمال أفريقيا بـ”القنادز”، وهو اسم يطلق على طلبة الكتّاب ومفرده قندوز، يعلمهم أيضاً الكتابة والحساب والإملاء.
وللفقيه كمثقف عضوي دور اجتماعي أيضاً، فهو الذي يحضر الخطوبة، ويقرأ الفاتحة، وهو من يصلح ذات البين بين الأهالي المتخاصمين، وهو الذي يخفف عنف الطلاق، وهو في ذلك كله لا يتعدى على عمل الإدارة المدنية أو القضاء، أي مؤسسات الدولة الرسمية، فالطلاق كالزواج قضية مدنية بالأساس، يجب أن تسجل في الحالة المدنية، لذا فالفقيه هو خطوة نحو هذه المؤسسة لا بديل عنها.
والفقيه أيضاً مثقف اجتماعي، فثقافته لا تتوقف عند النصوص الدينية، فأشهر الفقهاء عرفوا أصلاً بالكتابة عن الشعر أو بعضهم كانوا شعراء، كما أنهم عرفوا بجرأة الحديث، فأحاديثهم مفتوحة على النكتة والطرائف التي قد تصل إلى حد الوقاحة الفنية، ويُعرَف الفقيه أيضاً بأنه شخصية “مُحَدِّثَة” أي يعرف فن “الجلسة” و”السهرة”، ويسترسل في طيب الحديث المتصل بالاجتماع والمرأة والزرع والأسفار والجسد وما إلى ذلك، فهو من صانعي حلقات “الإمتاع والمؤانسة”، على حد تعبير أبي حيان التوحيدي.
وشخصية الفقيه، بشكل عام، شخصية فكهة، مريحة، مبتسمة، ضاحكة، غير معقدة، متفتحة على الرجل والمرأة على السواء، وهذا راجع للمرجعية التي يغرف منها، فقراءاته ليست دينية فقط، بل أدبية عالمة كانت أو شعبية، وهو متصل أيضاً بثقافة الحياة العامة في باب الزرع والحرث والصيد والخيل والفروسية وما إلى ذلك.
بهذا المفهوم قد يكون الفقيه هو آخر المثقفين الموسوعيين الكلاسيكيين، أي الربط بين حقول معرفية كثيرة، وهو ما عبر عنه القدامى: “من كل بستان زهرة”.
وغير بعيد زمنياً، كان الفقيه ينزل بقرية غير قريته لتدريس الصغار فيها، فيقيم بمسكن يمنح له مجاناً من الأهالي، أو يقيم في المصلى/ الكتّاب نفسه، ويأكل من موائد الأهالي، يطعمونه يومياً، فيأكل مما يأكلون، ويشرب مما يشربون، ويعيش أفراحهم وأتراحهم على السواء، ولم يكن يربطه بالأهالي عقد مكتوب ولا راتب محدد، فالعقد الذي يربطه بالأهالي هو عقد رمزي وأخلاقي وفي الوقت نفسه اجتماعي، فقد درجت العادة عندنا في شمال أفريقيا أن يقدم المتعلم “القندوز”، له كل يوم أربعاء ما قد يتوفر عند الأهل من قطعة نقدية صغيرة عند الأسرة، وهو ما كنا نسميه بـ”الربعية”، وقد تكون قطعة نقدية وقد تكون حبة بيض أيضاً.
أما الفلاحون، فمع فصل الدرس وتحصيل الجني، فكل فلاح وبشكل طبيعي وعفوي وأخلاقي، يقدم للفقيه جزءاً من محصوله بحسب قيمة المحصول السنوي، من القمح والشعير والبازلاء والفول والحمص، ويلتزم الجميع ذلك من دون انتهاك لهذا الإجراء الأخلاقي – الاجتماعي، ولا أحد يراقب أو يحاسب أحداً، والكل يقدم ما عليه للفقيه بكثير من السرية ومن دون تبجح أو استعراض، ويتولى الفقيه جمع هذه المحاصيل التي تقدم إليه في المصلى نفسه أو المدرسة الكتّابية، ومع نهاية الصيف، يغادر القرية عائداً إلى أهله، حيث يحمل معه ما جمعه، ويساعده في ذلك الفلاحون بإعارته دابة لنقل ذلك، ويقضي الفقيه فترة زمنية مع أهله، ليعود مع بداية الخريف وانطلاق موسم الحرث عادة.
وخطاب الفقيه خطاب اجتماعي حضاري وتربوي يحافظ على مسافة واضحة بينه وبين الخطاب الأيديولوجي العاري. وهو لا يتعدى على دور المؤسسات الأخرى مثل الإدارة أو القضاء أو المدرسة الرسمية أو الحزب السياسي أو المستشفى أو الطبيب.
مع زحف تيار “الإسلام السياسي” فقد بدت صورة الفقيه، المثقف الكلاسيكي الموسوعي، مهددة من قبل صورة “الداعية”، الذي هو صنيع السياسة في الدين أو ناطق باسم الدين السياسي، وخطاب الداعية الإسلامي خطاب أيديولوجي بالأساس، وهو يقوم مقام لسان حال زعيم الحزب ويقوم مقام القاضي ويقوم مقام المؤسسة الإدارية المدنية، أو يعمل على ذلك.
وإذا كان الفقيه الكلاسيكي يبحث عن جمع الشمل في المجتمع من خلال الدين الشعبي البسيط، الدين الثقافي، فإن الداعية ينبش في النصوص التراثية ليستخرج أغرب ما فيها، ويدعو إلى تطبيقها أو يروج لها بين الناشئة، وغير الناشئة، مما يحدث الفتنة بين الناس، بين الرجل والمرأة، بين أبناء البلد الواحد الذين قد يكونون من معتقدات دينية مختلفة.
وإذا كان خطاب الفقيه خطاباً جامعاً، فخطاب الداعية خطاب تفرقة، وإذا كان الفقيه يدعو إلى التسامح من خلال مرجعياته التي يعتمدها، فالداعية يثير النعرات ويشيع الكراهية بين “المختلفين” من أبناء الأمة الواحدة أو البلد الواحد أو الأسرة الواحدة.
وقد وفرت أحزاب الإسلام السياسي غطاء أيديولوجياً وشعبياً لأفكار الداعية، لأنها تصب في وعائها الأيديولوجي، كما منحت التكنولوجيا مجالاً واسعاً لهذا الداعية كي يوصل أفكاره، فبدلاً من أن تكون هذه التكنولوجيا الغربية نعمة تحولت بين أيدي دعاة الإسلام السياسي إلى نقمة، فقد كثرت القنوات التلفزيونية وقنوات اليوتيوب والمواقع والبوابات التي يستثمر فيها دعاة الإسلام السياسي من أجل التفتين في مجتمعات المشرق وشمال أفريقيا.
وبقدر ما كان الفقيه يحترم المرأة بما تمليه ثقافة المجتمع المحلية ويحترم العادات والتقاليد بما فيها من طريقة عيش وطريقة لبس وطريق لغة وعلاقات عائلية، فالداعية السياسي الإسلامي لم يترك شاذاً إلا وأحضره من كتب التراث الديني المدخولة بكثير من الأخطاء والتحريفات التي تراكمت عبر الأزمنة، التي كان الأمراء يأمرون بتكريسها في المتون كي تحفظ مكانتهم وسلطتهم وتهيج العامة ضد أعدائهم، -أحضر- هذه الترسانة من النصوص للتشويش على كل ما هو إيجابي، وبالأساس مهاجمة المرأة والحرية الفردية ومؤسسات المجتمع المدني.
وإذا كان الفقيه لا يتدخل في حياة الناس الشخصية ولا يحشر أنفه في ما لا علاقة له به، فإن الداعية السياسي يتدخل في كل شيء، من اللباس الخاص والأكل والشراب، ويصل إلى أَسِرَّة الناس، مفتياً في كل شيء، في الطب فهو قادر على شفاء الأمراض المستعصية كالسرطان والسكري، وهو يفتي في الفيزياء فالأرض لا تدور في فتاويه ويفتي في الأجرام، ويفتي في علم الطعام، ويفتي في الجنس ويفتي في الاقتصاد.
لقد خرب الإسلام السياسي، من خلال شخصية الداعية، الدورة الحضارية في المشرق وشمال أفريقيا وتعداهما إلى البلدان الأوروبية، وليس من السهل إعادة القطار إلى السكة، والعالم يدفع اليوم فاتورة الاستهزاء بمثل هذه الظواهر السياسية التي تهدم العالم انطلاقاً من تخريب العقول وغسلها.
نقلا” عن أندبندنت عربية