ذهب بعض الباحثين والدارسين إلى استخدام المنهج في حقول الدين والعلم والسياسة
كتب : عماد الدين الجبوري
إن الشك أو الريبة ناتج عن نزعة نفسية أكثر منها عقلية، غير أن صياغة الشكوكية بمفاهيم وقوانين فكرية، صارت مذهباً فلسفياً يبحث في المعرفة والأخلاق والطبيعة وما وراء الطبيعة.
وذهب بعض الباحثين والدارسين إلى استخدام المنهج الشكي في حقول الدين والعلم والسياسة وغيرها، وفق مبدأ استخراج الزائف ودحض المتناقض بما يتعلق بالمعتقدات أو الممارسات، التي يدعون أنها حقيقية.
وعلى الرغم من أن أفكار الشكوكية قديمة العهد، لكنها تأسست وفق مذهب فلسفي له نزعته الخاصة على يد الفيلسوف اليوناني بيرّون الإليس (365-275 ق.م)، وبحسب تصوره، أن الحقيقة لا يمكن الوصول إليها، والرجل العاقل يرجئ حكمه، ويبحث عن الطمأنينة لا عن الحقيقة.
فالعقل والحواس والإدراك والمفاهيم لا يمكن لها أن تحدد الحقيقة. بالنسبة إلى العقل فهو خادم الشهوات المخالط المخادع، والحواس تشوه الشيء الخارجي حين تحسه.
كما أن كل قياس منطقي يصادر على المحمول لأن قضيته الكبرى تفترض صحة النتيجة.
إذ “كل علّة لها علّة تقابلها وتناقضها”. وعليه، فإن التجربة الواحدة قد تكون سارة بحسب الظروف المحيطة بها ومزاج صاحبها. وكذلك العمل الواحد قد يُعد فضيلة أو رذيلة بحسب المكان والزمان الذي نحيا فيه.
والآلهة نفسها قد تكون أو لا تكون تبعاً لاعتقاد أمم الخلائق المختلفة. فلا شيء حقيقي قط، بل آراء متشابكة ومتنوعة، لذلك علينا ألا ننحاز لأفكارنا أو أن نميل إلى طرف على حساب طرف آخر.
كما أن البحث عن طريقة جديدة، والنظر إلى الماضي أو المستقبل بعين الحسد، فالرغبات كلها خداع وباطل. والحياة نفسها خير غير مؤكد، والموت أيضاً ليس شراً مؤكداً، والأفضل للإنسان أن يقبل الدنيا كما هي بهدوء واطمئنان.
ومع أن بيرون تأثر بفلسفة ديموقريطس (460-370 ق.م)، لكن المبادئ الثلاثة التي صاغها في الأخلاق والسلوكية ونتائجها في طلب السعادة، جاءت مشابهة لتعاليم في الديانة البوذية، لهذا يرى بعض الباحثين أنه تأثر بالفكر البوذي خلال الفترة التي قضاها في الهند، إذ سار مع جيش الإسكندر المقدوني (356-323 ق.م) في غزو الشرق.
والعمق التاريخي الفلسفي للشكية يعود إلى الحركة السوفسطائية، التي تقوم على الخطابة والبيان والبلاغة من منطلق الإقناع في الحوار الخطابي، وليس وفق مبدأ البرهان العلمي والمنطقي، لذلك اتسمت بالجدل والمغالطة والشك في المعرفة.
وكان من كبارها بروتاغوراس وجورجياس وسقراط، الذي رفض طريقة منهجهم السفسطائي أو المغالطي، فتخلى عن النزعة الشكية لصالح العقل.
وإذا كانت الفلسفة الشكية في العصر اليوناني ليست لها ذلك البُعد العلمي، فإنها في العصر الإسلامي أخذت نهجاً علمياً ملحوظاً، خصوصاً في فلسفة الإمام الغزالي. وفي العصر الحديث، جاء ديكارت وطور الشك وفق منهج علمي جديد مستقل عن العصور السابقة، ومنه أخذ فلاسفة الغرب الشكيين ينهلون ويتشعبون في بحوثهم وأرائهم.
بروتاغوراس (481-411 ق.م)
يعد بروتاغوراس أول السوفسطائيين وزعيمهم، وهو صديق ديموقريطس الفيلسوف وبيريكليس السياسي، ونص في فلسفته على قصور العقل وعجزه عن تحصيل المعرفة، لأن “الإنسان هو مقياس جميع الأشياء الموجودة، وإن الأشياء ليست هي مقياس ذاتها”. لذلك، فإن أي نتيجة معرفية تكون ناقصة نظراً إلى القياس الناقص الناتج عن عجز العقل أصلاً.
بمعنى آخر، يرى بروتاغوراس أن الأشياء ليست مطلقة ولها وجود مستقل عن الإنسان، وإنما هي نسبية أولاً، ومتغيرة ثانياً، وتختلف تبعاً للزمان والمكان ثالثاً. وكذلك القول نفسه عن السلوكية والتربية والبيئة والمنزلة العقلية والاجتماعية.
إذ لا يوجد شيء يكون بذاته ومن أجل ذاته، بل كل ما هو موجود إنما يكون وجوده إلى الإنسان فحسب. وعلى هذا الأساس جعل بروتاغوراس أن يكون الإحساس هو معيار الحقيقة، وشك بغير ذلك من المعارف. فالحقيقة وفق رأيه، يكون إدراكها بالإحساس المباشر للإنسان فقط. ومن هنا، فإن معرفة الحقيقة تكون في متناول كل فرد من العالمين تبعاً لحواسه الخمس لا غير.
أما عن الماورائيات، وكل ما يتعلق بالعالم العلوي والحقائق الإلهية فهي محجوبة، وبذلك تحجب عنا المعرفة المؤكدة، فلا نعرف حقيقتها إن كانت موجودة فعلاً أم لا. وفي كتابه “في الآلهة”، يوضح بروتاغوراس قائلاً “في ما يتعلق بالآلهة، لا يمكنني التأكد من أنها كذلك أو أنها ليست كذلك، ولا ما هي في الشكل، فهناك أشياء بشرية تعيق المعرفة المؤكدة، وغموض الموضوع وقصر الحياة البشرية”. (تاريخ الفلسفة الغربية، طبعة إنجليزية).
كما أن الحقيقة الكلية المطلقة عنده وعند سائر السوفسطائيين، ليست متمثلة في الإنسان الكلي المطلق، وإنما في الفرد الجزئي المحسوس وفق زمان ومكان معينين ومحددين، وليس الوجود الذهني.
ويرفض بروتاغوراس القوانين الوضعية والأخلاقية، فالأولى وفق تصوره، تتعارض مع قوانين الطبيعة، لأنها تحمي الضعفاء من جبروت الأقوياء، لهذا لا بأس من الخروج عليها طالما كانت من صنع الإنسان وليست ثابتة في طبائع الأشياء.
أما الثانية فهي نسبية المعاني، بحسب الغريزة والمنفعة واللذة وما يعتريها من تغيير يقترن بتغير الشخص والحالة التي يكون فيها زمنياً ومكانياً. فليس هناك من سلوكية مطلقة، بل نسبية وعلى ضوئها يكون تشخيص الحقيقة الخلقية. ولهذا فإنه يؤكد على أن الفضيلة هي اللذة، وأن الإنسان له الحق بأن يعمل وفقاً لما يراه لذيذاً.
وشن سقراط (470-399 ق.م) هجوماً ضارياً ونقداً لاذعاً على الحركة السوفسطائية برمتها، وسار على منواله تلميذه أفلاطون (428-348 ق.م)، وقالا في شكوكية بروتاغوراس، بأنها مأخوذة من إلقاء الشك على العقل للوصول إلى الحقيقة، وهذا نهج خاطئ ومغالط تجاه طلب الحقيقة.
صفوة القول في شكية بروتاغوراس أنه:
1- نظر إلى العالم فوجده مشكلة مستعصية لا سبيل إلى حلها، وأن الآراء التي دارت حولها متضاربة ومختلفة بين المذاهب الطبيعية والرياضية والماورائية.
2- وجد أن المنازعات القائمة بين تلك المذاهب والمدارس المتعددة لا تدل إلا على عجز العقل في تحصيل المعرفة.
3- بما أن مجموع المذاهب لا يوجد بينها ما هو الأفضل والأكفأ، لذا فإن الشك فيها أمر لا بد منه وفقاً إلى سياق التفكير الصحيح، بالإضافة إلى أن الشك بمثابة المشعل الذي نلتمس به الطريق.
4- إذاً فلا حقيقة إلا الإنسان، فهو مقياسها بحسب حواسه من ناحية، وبحسب الظروف الزمنية والمكانية والحياتية التي يعيشها كونه فرداً جزئياً محسوساً من ناحية أخرى.
وهكذا اتخذ بروتاغوراس من الشك مسلكاً نقل فيه التفكير الفلسفي من عالم الطبيعة إلى عالم الإنسان، وجعل الحواس هي وحدها تكون محك الحقيقة.
فالمعرفة هي ذاتية داخلية، وليست واقعية خارجية. كما أن المعرفة ليست ثابتة بقدر ما هي متباينة دائماً، إذ تكون مختلفة وفقاً للأفراد، وكذلك تتأثر بالمعطيات الحسية المتغيرة أيضاً. لذلك، فإن أحكامها على الشيء الواحد تكون متفاوتة تبعاً لأحوال الشخص العقلية والثقافية والصحية والاجتماعية في حياته الزمنية والمكانية. (نرجئ التقييم إلى نهاية الدراسة).
نقلا” عن أندبندنت عربية