كريتر نت – متابعات
شهد الشرق الأوسط، قبل عشر سنوات، ثورات شعبية تسببت في انهيار سريع لأنظمة بدا أن الخلاص منها مستحيل، وأيقظت أحلاما بالديمقراطية والحرية. ثم أعلن تنظيم “الدولة الإسلامية” إقامة ما أسماه “دولة الخلافة” على أراض واسعة من سوريا والعراق، وما لبث أن أفل نجمه بعد سنوات أثار خلالها الرعب في العالم.
وأطلق على هذا الزلزال السياسي والجغرافي الذي هزّ المنطقة بدءاً من 2011 اسم “الربيع العربي”، وقد أدى إلى نتائج متفاوتة. فالتظاهرات الشعبية الحاشدة في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا تبعتها إصلاحات مخيبة للآمال في أحسن الأحوال، أو ردود فعل قمعية من أنظمة دكتاتورية، ولكن أيضا نزاعات دامية.
ومع ذلك، فإن روحية الثورة لم تمت بعد، وهو ما تجلّى بعد ثماني سنوات في اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات الشعبية في كل من السودان والجزائر والعراق ولبنان.
مهد الربيع العربي
البداية كانت من تونس، بعود ثقاب أشعله البائع المتجول محمد البوعزيزي بجسده بعد صب الوقود على نفسه في ولاية سيدي بوزيد احتجاجاً على احتجاز السلطات المحلية بضاعته في 17 كانون الأول/ديسمبر 2010.
وانطلقت الاحتجاجات من تونس وسمع صداها في ليبيا ومصر وسوريا حيث حُمّلت أحيانا مسؤولية إحداث فوضى وعنف، غير أنها تبقى في قلوب من شارك فيها محطة جميلة زرعت بذور الأمل بتحقيق حلم الحرية.
“ثأر”
ليلة رحيل بن علي، غزت مقاطع فيديو تظهر المحامي الناصر العويني منتشيا بخبر هروب الرئيس في الشارع دون الاكتراث بقرار حظر التجول الليلي المفروض آنذاك، مواقع التواصل الاجتماعي. وكان يصرخ مهللا “بن علي هرب”.
كان شارع الحبيب بورقيبة في العاصمة التونسية مقفرا، حين خرج العويني وسط الشارع يصرخ “أيها التونسيون المقهورون، أيها التونسيون المحرومون، بن علي هرب، بن علي هرب”.
وتم بث مقطع الفيديو على شاشات القنوات الإخبارية، حتى أن بعضها اعتمده مقدمة لبرامج حوارية حول الانتفاضات العربية.
ويقول المحامي اليساري لوكالة الأنباء الفرنسية “كان ذلك بالنسبة إلي ثأر من 18 عاما تعرضت خلالها للمضايقة والسجن”. ولكن العويني يفصح أنه يشعر اليوم “بالإحباط”.
في تونس، البلد الوحيد بين دول “الربيع العربي” الذي نجح في مساره الديمقراطي، لا تزال البطالة والتهميش والتضخم وهي الملفات التي أوقدت فتيل الاحتجاجات في العام 2011، على حالها، فيما الطبقة السياسية في البلاد تنخرها التجاذبات السياسية الحادة.
شرارة تونس تصل إلى مصر
في الشهر ذاته، اندلعت احتجاجات مطالبة بالحرية والديمقراطية في كل من مصر وليبيا واليمن. (عدن الان)
عندما امتدّ الغضب إلى شوارع القاهرة، المدينة الأكبر في المنطقة وعمقها السياسي التاريخي، أطلق على عدوى التظاهرات اسم “الربيع العربي”. وخرج مئات الآلاف إلى شوارع مصر للتعبير عن تطلعهم إلى الديمقراطية ومطالبتهم بتنحي حسني مبارك الذي كان رئيساً للبلاد منذ عام 1981.
وجسدّت الصور وأشرطة الفيديو التي انتشرت في المنطقة والعالم والشعارات الممزوجة بالأمل والعزم والشجاعة، إرادة تبدو وكأنها تضع حدا لما اعتبر دائما قدرا محتوما للشرق الأوسط، وهو جمود الحياة السياسية. وظنت الشعوب أنها قادرة على كل شيء.
الأمل
في ذلك الحين، كتبت الروائية المصرية أهداف سويف في صحيفة “غارديان” البريطانية “أنظروا إلى شوارع مصر الليلة، هذا ما يبدو عليه الأمل”.
وأطاحت الانتفاضات الشعبية بدكتاتوريات متجذرة حكمت لعقود بقبضة من حديد. وحرّكت الحناجر التي كانت تصدح بهتاف مشترك “الشعب يريد إسقاط النظام”، مشاعر الملايين في كل أنحاء العالم. واختصرت رغبة جيل كامل كان يجهل حتى الآن قدراته، بالحرية والتحرّر من الخوف.
وُلد نموذج جديد للشرق الأوسط مستند الى إدراك جماعي بأن الطغاة لم يعودوا في أفضل أحوالهم، وأن التغيير يمكن أن يحدث من الداخل، وليس فقط كنتيجة لتغير في الخارطة الجيوسياسية العالمية.
وتتذكر لينا منذر كيف أنّ الأيام الأولى للثورات الشعبية بدّدت الشعور بـ”الهزيمة العربية” الذي تناقله جيلان بعد موت جمال عبد الناصر ومشروعه القومي العربي. .
وتقول لوكالة الأنباء الفرنسية “كان ثمة انطباع أننا كعرب بشكل أو بآخر كسالى ومتعبون لكي نتمكن من الانتفاض ضد الاستبداد، وبأننا قبلنا حكم الطغاة لقصور فينا، أو لأننا جُبلنا بطريقة لا تمكننا من التخلص من الخنوع للاستعمار والتدخل الغربي”.
الشعب أسقط النظام
وحدث ما لم يكن متوقّعاً في 11 شباط/فبراير 2011، حين استقال حسني مبارك.
وتروي منذر “ليلة سقوط مبارك، بكيت من الفرح. لم أصدّق مدى شجاعة الشعب المصري وجماله. بدا ذلك وكأنه فجر عهد جديد”. وتضيف “ثمّ أتت سوريا. كنت سعيدة لمصر ومتفاجئة بها، لكنني شعرت بالذهول والنشوة إزاء سوريا”. قبل ستة أشهر من اغتياله في إسطنبول في تشرين الأول/أكتوبر 2018، قال الكاتب والمعارض السعودي جمال خاشقجي إن الثورات العربية وضعت حداً بشكل قاطع للرأي السائد بأن العرب والديمقراطية لا يلتقيان. وأضاف في مداخلة خلال مؤتمر شارك فيه “انتهى الجدل حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية بشكل قاطع مع قدوم الربيع العربي”.
إلى جانب بن علي ومبارك، أطاح الربيع العربي بمعمر القذافي في ليبيا وعلي عبد الله صالح في اليمن، وفي الموجة الثانية بعمر البشير في السودان العام الماضي. وبلغ مجموع حكم هؤلاء الخمسة 146 عاماً، من دون احتساب حكم صالح كرئيس لليمن الشمالي لمدة 12 عاماً قبل توحيد البلاد عام 1990. لوهلة، بدا وكأنّه لا يمكن وقف انهيار الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، كما بدا قبل ذلك أنّه لا يمكن المسّ بقادتها.
“الشتاء العربي”
ولكن ثمار “الربيع العربي” المنتظرة لم تزهر كما توقعت الشعوب. في 2019 ، عنون الكاتب الأمريكي نوا فيلدمان كتابا حول الموضوع “الشتاء العربي”، وهو مصطلح ظهر هنا وهناك مع عسكرة الثورات وصعود التطرف الديني واندلاع الحروب والنزاعات.
وعلى غلاف الكتاب الخلفي، كتب الأكاديمي البارز مايكل إغناتيف أن المؤلف يسلط الضوء على “أحد أهم الأحداث في عصرنا: الفشل المأسوي للربيع العربي”. فباستثناء مصر وتونس، لم تملأ أي إصلاحات ديمقراطية الفراغ الذي خلّفه سقوط الأنظمة، وعلا صوت العنف.
بشار الأسد ينجو من العاصفة
في سوريا، لم يأت دور بشار الأسد قط، فقد نجا من العاصفة وبات “قطعة الدومينو” الوحيدة التي لم تسقط. فقد تحولت الاحتجاجات في بلاده إلى حرب مدمرة، بينما بقي الرئيس السوري ونظامه القمعي في مكانهما.
بعد أسابيع من خروج أولى الاحتجاجات الشعبية في آذار/مارس 2011 في سوريا، كتب متظاهرون باللهجة المحكية على أحد جدران مدينة درعا في جنوب البلاد، “إجاك الدور يا دكتور”.
لكن الفتيان الذي تجرأوا على خطّ هذه العبارة اعتقلوا وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، ما أثار موجة احتجاجات غاضبة طالبت بالإفراج عنهم، وشكّلت شرارة انتفاضة في أنحاء البلاد قمعت بقوة وتحولت إلى نزاع دام قتل فيه أكثر من 380 ألف شخص، وتشرّد أكثر من نصف السكان.
في 2018، قال معاوية، رسام الكاريكاتور ضد الأسد في درعا، لوكالة الأنباء الفرنسية، “أفتخر بما قمنا به آنذاك، لكنني لم أتوقع أننا سنصل إلى هنا، أن يدمرنا النظام بهذا الشكل… كنا نتوقع أن نطيح به”. واستغل الجهاديون سلوك النزاع منحى طائفيا وقمعيا وعسكريا، ليستقروا في سوريا ودول أخرى في المنطقة.
ويقول روبرت وورث في كتابه “الغضب لأجل النظام”، “لم تحتج فلسفة اللاعنف في التظاهرات إلى وقت طويل لتختفي في ساحات القتال في ليبيا وسوريا واليمن”.
ويضيف أن “الجهاديين راقبوا انهيار الدولة في الدول الثلاث”. وبلغ صعودهم أوجه في العام 2014 حين أعلن أبو بكر البغدادي الذي قتل في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، قيام “الخلافة الإسلامية” في مناطق فاقت مساحة بريطانيا وامتدت بين العراق وسوريا.
“الصدمة”
غير أن مجدي الليبي الثلاثيني لم يندم قطّ على الخروج والتظاهر سلميا إلى أن سقط نظام الرئيس السابق الراحل معمر القذافي. ويقول اليوم إن الثورة “كانت مهمة ولا زلت أؤمن بها”.
في 15 شباط/فبراير 2011، كان مجدي طالبا حين فتحت قوات الأمن النار على عائلات تطالب بالعدل لأفراد منها مسجونين منذ 1996 في طرابلس ويتعرضون لمعاملة سيئة.
ويتذكر مجدي أن بلاده كانت تحت وقع “الصدمة” في “عدد من المدن” وتظاهرات الناس كانت “عفوية” وفيها “تضامن”. ويتابع “في بداية الانتفاضة، لم يكن مطروحا قلب النظام… فقط مطالب من أجل حرية وعدل وأمل أكثر”.
كذلك في سوريا، يقول دحنون، كانت المطالب “فقط من أجل الإصلاحات”. كان دحنون في الخامسة عشرة آنذاك ولا يزال تلميذا في الثانوية. وشاهد التظاهرات السلمية في بلاده تتحول إلى مجازر دامية تحت قمع النظام. ويقول لوكالة الأنباء الفرنسية “هاجمتنا مجموعات تابعة للنظام ومن قوات الأمن” في إدلب في شمال غرب البلاد، وهي المنطقة الوحيدة اليوم التي لا تزال خارج سيطرة نظام بشار الأسد.