كتب : هيثم حسين
لا يمكن أن نقيم في مدينة من دون أن نربط نوعا من العلاقات مع أي كان فيها، علاقات عابرة، أو دون كلام، أو علاقات عميقة ولقاءات ومحادثات، المدينة كما أنها شبكة من الطرقات والمباني والأسلاك وغيرها من المرافق، هي في الحقيقة شبكة علاقات، من دون هذه العلاقات حتى ولو كانت مع غرباء، يتسرب إلى الفرد إحساس بارد بالوحدة، وغيره من المشاعر الغريبة التي يسردها بدقة الروائي الإنجليزي آيان مكيوان في روايته “الارتياح للغرباء”.
يتناول آيان مكيوان في روايته “الارتياح للغرباء” صوراً وأصداء من تأثير الغربة على الناس، ومن جماليات السفر والترحال، كيف أن الغريب يبدأ بنسج خيوط علاقات مع محيطه الجديد الذي يجد نفسه فيه، في محاولة منه للاندماج مع واقعه، وتبديد اغترابه المتعاظم، عسى أن يستدل إلى طريقة لتهدئة نيران غربته ووحشته.
كأنما مكيوان يتماهى في روايته مع بيتين للشاعر امرئ القيس يقول فيهما “أجارتنا إنا غريبان ههنا/ وكل غريب للغريب نسيب/ فإن تصلينا، فالقرابة بيننا/ وإن تصرمينا فالغريب غريب”. ويمهد آيان مكيوان لروايته بمقطع لبافيزي يقول فيه إنه ثمة جانب متوحش في السفر. وهو أنه يدفعك للثقة بالغرباء، ويسلبك الارتياح الأليف للبيت والندماء.
ويضيف: أنت فيه تتطوح خارج أي اتزان، وليس في يدك مما تملك سوى عناصر الضرورة: الهواء؛ النوم؛ الأحلام؛ الشمس؛ السماء، تلك العناصر التي ترنو في تكوينها إلى الأبدية، أو على الأقل ما نتصوره عنها.
أحلام واكتشافات
في المشهد الأول يكون الحديث عن نشاط كولين وماري الذي يبدأ حين تحل ساعة الغروب، وتنشط المدينة بأكملها وراء درفات نوافذ فندقهما الخضراء الداكنة، حيث إنهما كل مساء، خلال ساعة التأمل التي يقضيانها في الشرفة، قبل أن ينطلقا خارجين إلى المدينة بحثاً عن مطعم، كان أحدهما يصغي بصبر للآخر بينما يروي أحلامه، منتظراً ترف أن يروي بدوره ما رأى أيضا.
صور من تأثير الغربة على الناس
يفترض أنه لو كان كل واحد منهما وحده، لأمكنه اكتشاف المدينة بمتعة، ستكون النزوة دليله، سيسلم نفسه للطرقات، ولن يأبه أكان تائهاً أم لا، ولربما أفرحه ذلك. ثمة ما يكتشف هنا، الكثير منه، على المرء أن يتنبه فقط ويبقي ذهنه مشتعلاً. لكنهما يعرفان بعضهما معرفتهما نفسيهما. والحميمية التي بينهما، والتي يشبهها بحقائب أمتعة كثيرة يتوجب عليهما حملها، كانت مصدر قلق لكليهما.
يلفت إلى أنّ بطليه يتابعان بصمت اكتشاف أزقة المدينة الملتوية، وانفراجاتها المفاجئة المفضية إلى مساحات عامة واسعة، وهكذا مع كل خطوة يخطوانها داخل المدينة، فإن المدينة تبتعد عنهما، تبتعد بقدر ما ينغلق الواحد منهما عن الآخر وهما معاً.
يشير مكيوان إلى أن الجنس ما عاد بينهما شغفاً محلول الوثاق. وأن المتعة غدت في بطئه دون عجل، في اللطافة، في ألفة طقوسه وأساليبه، في الأمان، حين ينطبق الجسدان وتتداخل الأطراف بدقة، في الراحة، كأن أحدهما قالب والآخر قد صب فيه. يصفهما بأنهما كانا سخيين على بعضهما ومسترخيين، لا إلحاح ولا ضجة.
يصور كيف يرتحل كولين وماري بين أزقة المدينة، ويلتقيان روبرت الذي يدعوهما للشراب، ويجالسهما، ويشرع في الحديث معهما، وكيف أنهما كانا في البدء يستثقلان الإجابة ويتمنعان، أخبراه عن اسميهما، وأنهما ليسا متزوجين، ولا يعيشان معاً. وأفصحا عن مهنتيهما، وأفصحت ماري عن عمرَي طفليها.
ويصور كذلك كيف أن بطليه راحا يختبران شعوراً ممتعاً يخص السياح وحدهم، وهو أنهما عثرا أخيراً على مكان خال من السياح، وكان ذلك اكتشافاً حقيقياً من قبلهما. استرخيا وتكيفا مع الضجة ودخان السجائر. وبدآ بطرح أسئلة جادة ومقصودة على روبرت، شاعرين أنهما أخيراً يتبادلان الحديث مع مواطن محلي جدير بالثقة.
ينوه إلى أنه مع تغلغل مفعول الشراب وتنامي تأثيره عليهم، بدأ الشريكان بطرح أسئلة على روبرت الذي كان يجيب بأريحية وصراحة، وكيف أنه عانى في طفولته، وكان يلجأ لوالدته التي كانت بمثابة الحامي له من شرور العالم الخارجي، وبخاصة من عقوبات والده له، وحالته حين كان يعيش ذعراً دائماً جراء الرهاب الذي استوطن داخله.
يتحدث روبرت بأريحية عما يتوقع أنه طباع الرجال والنساء وصفات كل جنس من وجهة نظره، ويقول إن الرجال باتوا يشكون في أنفسهم، يكرهون أنفسهم، أكثر مما يكره بعضهم بعضاً، وإن النساء يعاملن الرجال كأنهم أطفال، لأنهن لا يأخذونهم على محمل الجد، لكنهن يعشقن الرجال، مهما كان الذي يعتقدن أنهن يحببنه، وإنهن مفتونات بالقوة والعنف والطاقة في الرجال، وإن هذا أمر في أعماق أذهانهن.
أسرار وفضائح
في روايته يرى آيان مكيوان أن النساء يشتهين أن يحكمهن الرجال رغم أنهن يكرهن أنفسهن إذا شعرن بذلك
يصف مكيوان النساء بشيء من الرعونة بأنهن ينجذبن إلى رجل ناجح، وإنه لو كان كلامه خاطئاً لخرجت النساء في تظاهرات ضد الحروب، لكنهن عوضاً عن ذلك، يدفعن رجالهن إلى القتال. ويؤكد أن دعاة السلام والمعارضين دائماً هم من الرجال. ورغم أنهن يكرهن أنفسهن إذا شعرن بذلك، فإن النساء يشتهين أن يحكمهن الرجال، ويتمادى بالقول إن هذا أمر مغروس في أعمق أعماقهن، لكنهن يكذبن على أنفسهن، يتحدثن عن الحرية فيما يحلمن بالعبودية.
يقود الحديث كولين وماري إلى والدَي كل منهما، وما الصفات التي ورثاها عن أبويهما وتلك التي عن والدتيهما، وكيف تنزلت علاقة الأب والأم إلى حيواتهما وأثرت في علاقاتهما الشخصية. وشعرا أن كلمة علاقة تكررت كثيراً من قبلهما حتى وصلا إلى درجة الملل منها، لكنهما يتفقان على أنه لا وجود لاستعاضته عنها مناسبة.
تتحدث ماري عن نفسها كأم، ويتابع كولين حديثها كأب مستعار لطفليها، الفرضيات كلها والأشجان والذكريات، قادها كل واحد منهما لخدمة نظريات قيد التشكل حول شخصيته وشخصية الآخر، وكأنه وجب عليهما أن يعيد أحدهما اختراع ذاته، أن يسمي نفسه وليداً، أو شخصاً.
يلتقي الشريكان بكارولين، زوجة روبرت التي تحكي بدورها عن جوانب من شخصيتها، ومعاناتها مع روبرت، وكيف أنه يبالغ طوال الوقت حين يحكي عن ماضيه ويحوّله إلى قصص على طاولة المشرب، لكن طفولته كانت مريبة، على عكس طفولتها، حيث كانت سعيدة وبريئة، وكانت ابنة وحيدة لوالديها. وتزوجت روبرت وهي في العشرين.
تكشف كارولين لماري سبب عدم قدرتهما على الإنجاب، تبوح لها بمكنونات قلبها وأسرارها، وكيف كان روبرت يؤذيها أحياناً، وكانت تكتم الأذى ولا تبوح به، واستغرقها ذلك وقتاً طويلاً، وحقيقة استمتاعها بالألم، والمازوشية التي اجتاحتها لفترة، وأنها شعرت بالعار من نفسها، وسريعاً شعرت بلذة من عارها، وأحبت أن تتم معاقبتها.
تسرد أنهما أكملا حياتهما هكذا لبعض الوقت، تغلف جسدها الكدمات، والجروح والرضوض، كسرت ثلاثة من أضلعها، كسر روبرت سناً لها، بالإضافة إلى كسره إصبعاً من أصابعها، ولم تجرؤ على زيارة والديها، وبالنسبة لأصدقاء روبرت كانت مجرد زوجة أخرى تتعرض للضرب، وهذا كما كانت عليه حقاً.
تعترف أيضاً أنه لطالما تاق روبرت إلى سحق جسده وتقليله إلى مجرد بذرة، ووصلا إلى حد باتا معه يتقدمان دوماً باحثين عما لم يفعلاه بعد. وتعلن أمراً صادماً، حين اعترف لها روبرت ذات ليلة أن هناك أمراً واحداً يتوق إليه حقاً، أراد أن يقتلها أثناء مضاجعته لها.
يشير مكيوان إلى أن الأماكن التي يمر بها المرء قد تتحول إلى محطة للراحة بعد البوح والاعتراف والاسترسال في ذلك، بحيث تغدو تلك الأماكن بمثابة عتبات شافية لمَن يعبرونها، لأنهم يخففون عن أنفسهم عناء الكتمان، ويبوحون بما يقضّ مضاجعهم، من دون أن يعود عليهم بالأذى والفضيحة، لأنهم يلقون أسرارهم ويرتحلون إلى عوالمهم السابقة، ويتركون تلك الأمكنة بكل ما ومن فيها.
كلاهما يبحث عن ذاته (لوحة للفنانة زينة مصطفى سليم)
نقلا” عن العرب اللندنية