كريتر نت – العرب
لم يخف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اقتناعه بأن علاقة بلاده مع مصر مبنية على المصالح، وأنه لن يضحي بها لأجل “خلافات في الرأي”، أي لأجل تقييم واقع حقوق الإنسان في مصر، مثلما تطالبه بذلك منظمات حقوقية ووسائل إعلام فرنسية.
وتعكس كلمة ماكرون في مؤتمر صحافي مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، حقيقة أن باريس قد تخلت عن الأسلوب القديم في التعامل مع دول العالم الثالث بتوظيف ورقة حقوق الإنسان للحصول على تنازلات.
واختار الرئيسي الفرنسي منهج الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب الذي يعلن باستمرار أن مصالح بلاده من استثمارات وصفقات بيع الأسلحة أهم من التقارير والمواقف الناقدة لأداء دول مثل مصر أو السعودية.
وقال ماكرون “لن أجعل تعاوننا الدفاعي أو الاقتصادي مرهونا بهذه الاختلافات في الرأي، لأنني أولا أؤمن بسيادة الدول واحترام مصالحنا المشروعة والمتبادلة”.
ويعتقد مراقبون أن كلام الرئيس الفرنسي يكشف عن أهمية الرئيس المصري بالنسبة إلى الفرنسيين، وهي أهمية متعددة الوجوه، ولعل أبرزها ما تعلق بالحرب التي شنّتها باريس على الحركات الإسلامية المتشددة، وتحتاج فيها إلى خبرة مصر ومعلوماتها وتفاصيلها.
ولا تتعلق الخبرة التي تبحث عنها باريس بالأداء الأمني أو القضائي في مواجهة العناصر المتطرفة، وإنّما تتصل بالحصول على المعلومات التي تمتلكها القاهرة حول تحرك الإخوان في أوروبا وشبكات الدعم والتمويل، وعلاقتها بدول مثل تركيا وقطر، استنادا إلى خبرات الأجهزة الأمنية والاستخبارية المصرية في تتبع الشبكات الإخوانية العابرة للدول.
واتهم الرئيس المصري تنظيم الإخوان، ضمنيا، بنقل التطرف إلى فرنسا والعالم، مشيرا إلى أن مصر دفعت ثمنا باهظا جراء الإرهاب والتطرف.
واستفاق الفرنسيون خلال حملات تفتيش لمقار كيانات إسلامية ومنازل بعض العناصر المتطرفة، في عدة مدن فرنسية، على أهمية نصائح القاهرة بشأن مراقبة جمعيات ومراكز دينية، وكذلك أنشطة استعراضية لمنظمات طلابية إسلامية توحي بتمويل كبير.
وتحتاج باريس كذلك إلى دعم دول إسلامية ذات وزن ديني في معركتها ضدّ الجماعات المتطرفة وقطع الطريق أمام محاولات إظهار الموقف الفرنسي وكأنه معركة ضد الإسلام باعتباره دينا للجالية، وهو ما يحاول المتطرفون التخفي وراءه.
ويمتلك موقف مصر أهمية لاعتبارات متعلقة بالثقل الديني للأزهر بوصفه مرجعيةً دينية سنية سبق أن رفعت الغطاء عن أنشطة الإخوان داخل مصر وخارجها. كما تحتاج باريس كذلك إلى دعم السعودية والإمارات، وهو ما ظهر في مواقف جددت فيها الدولتان التأكيد على خطر الإخوان، وذلك بالتزامن مع التحرك الفرنسي.
وحرص الرئيسي الفرنسي على تأكيد أن مبيعات الأسلحة الفرنسية لمصر لن تكون مشروطة بتحسين حقوق الإنسان، وعزا ذلك إلى أنه “لا يرغب في إضعاف قدرة القاهرة على مكافحة الإرهاب في المنطقة”. لكن الهدف، وفق مراقبين، هو قطع الطريق على الانتقادات التي يمكن أن توجهها المنظمات الحقوقية، وتأكيد أن ملف حقوق الإنسان سيكون ثانويا إذا تقاطع مع مصالح فرنسا.
وقال عمرو الشوبكي، الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، إن الملفات الحاضرة على طاولة المباحثات وضعت قضية حقوق الإنسان في إطارها الطبيعي وسط جملة من الملفات الأخرى الحاضرة بقوة على الساحة الإقليمية، في مقدمتها التدخلات التركية ومواجهة التطرف والإرهاب، وأيضاً أزمة الرسوم المسيئة للرسول.
ولفت الشوبكي، في تصريح لـ”العرب”، إلى أن الزيارة كشفت عن توافق مصري فرنسي حول عدم تأثر علاقة البلدين بأي انتقادات موجهة إلى الحكومة المصرية بشأن ملف حقوق الإنسان.
وحسمت الزيارة الجدل الدائر في فرنسا منذ أيام عديدة حول إمكانية ربط العلاقات العسكرية والسياسية والإستراتيجية بملف المنظمات الحقوقية، وكشفت أن هناك حوارات عديدة تجري في هذا المجال دون أن يفرض فيها أحد رؤيته على الآخر.
وعزا مراقبون الاهتمام الفرنسي بزيارة السيسي إلى توقيتها المتزامن مع تصعيد باريس خطابَها ضد تركيا في ما يتعلق بملفات شرق المتوسط وناغورني قره باغ، وقبل ذلك الملف الليبي، في تأكيد على التحالف الموضوعي بين البلدين تجاه هذه القضايا.
وذكر الشوبكي أن مصر حققت هدفا رئيسيا من وراء الزيارة، يتمثل في التأكيد على أن لديها حلفاء دوليين يدعمون رؤيتها بخصوص مواجهة الأزمة الليبية ومكافحة الإرهاب وموقفها من العلاقات مع تركيا، ولن تكون بمفردها حال اتخذت قرارات متصاعدة بشأن تلك الملفات.
كما دعمت مصر التحركات الفرنسية الفاعلة ضمن عملية “إيريني”، وتمكنت بمقتضاها من كشف العديد من الانتهاكات التركية ووثقت عمليات نقل المرتزقة إلى الداخل الليبي، ورصدت الاتفاقيات التي وقعها الرئيس رجب طيب أردوغان لتثبيت أوضاع تركيا في ليبيا.
وهو ما أشار إليه خالد عكاشة، عضو المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب، الذي قال في تصريح لـ”العرب” إن “القاهرة وباريس منزعجتان من التدخلات التركية وخروقات أنقرة للقوانين الدولية وتأثيرها السلبي على الملف الليبي الذي حظي باهتمام كبير في قمة ماكرون – السيسي في باريس”.
وكان السيسي قد شدد خلال كلمته في المؤتمر الصحافي المشترك مع ماكرون على ضرورة حل الميليشيات في ليبيا، وأقرّ بأن الحل السياسي هو السبيل الوحيد للاستقرار في هذا البلد.