تبيع الأنظمة السياسية التي تخاف من الثقافة أوهاماً ثقافية للمثقفين كي تربح الوقت
كتب : أمين الزاوي
كذبة ثقافية عمرها 16 عاماً، وهي على مشارف الـ 17! لكم هو محزن حين يفقد المثقفون ذاكرتهم الثقافية، حين يضيع منهم ظلهم فيمشون بلا ظل، وقد ضيّعهم الخطاب السياسي الاستهلاكي، يمشون من دون بوصلة.
تبيع الأنظمة السياسية التي تخاف من الثقافة بوصفها أداة التنوير والمقاومة الناعمة/الصلبة، أوهاماً ثقافية للمثقفين كي تربح الوقت وهي في ذلك تمارس تلهيتهم باجترار مشاريع لا تقوم لها قائمة.
وكل كذبة ثقافية بميزان، هناك الكذب الثقافي الخفيف، وهناك الكذب من العيار الثقيل، والكذب على ابن خلدون يصنّف ضمن الكذب ذي المعيار الثقيل، فعالم غيّر مسار التاريخ الإنساني برمّته، مكتشف علم العمران وعلم الاجتماع وعلم التاريخ، لا يمكننا الكذب عليه، فهو رأسمال معرفي إنساني وإرث عالمي، خرج من دائرته العربية والشمال أفريقية والأندلسية إلى الدائرة العالمية.
أريد، هنا، أن أذكر بمشروع ثقافي ظل كذبة لها الآن 16 عاماً، وعلى مشارف الـ 17، لقد بلغت الكذبة السنّ القانونيية لحق الانتخاب، أو قريباً.
الكذب على ابن خلدون (1332-1406) تعاقب عليه محكمة التاريخ الإنسانية!
بدأت الكذبة الثقافية العلمية في يناير (كانون الثاني) عام 2004، نعم يناير 2004، بضجة إعلامية فلكلورية، تشبه أجواء سوق البيع بالمزاد العلني، حيث قدمت وزارة الثقافة في الجزائر مشروعاً “طموحاً” والمتمثل في إنشاء “المركز الوطني للدراسات الخلدونية”. مشروع مثير ومهم، ما في ذلك شك.
والإعلان كان في يناير 2004 وها نحن على مشارف يناير 2021!
لقد حُددت، آنذاك، مدة إنجاز المشروع الثقافي العلمي هذا بـ 18 شهراً! مهلة زمنية مقبولة، ورصدت له موازنة، وكان المشروع مبرمجاً ضمن ما أطلق عليه وقتها “برنامج تنمية الهضاب العليا”.
18 شهراً للإنجاز أصبحت 18 سنة، أو تقريباً، والمشروع لم ينطلق حتى يوم الناس هذا!
لا نكذب على ابن خلدون، أيها الناس، إنه يتألم حتى وهو في قبره من مثل هذا الفعل الشنيع الذي ينتسب لأهل الثقافة الإبداع والمعرفة.
عام 2004، تم اختيار قطعة الأرض التي يقام عليها المشروع، وقدم مكتب الدراسات الرسوم والمجسمات بالتفصيل: يتكوّن المشروع من مكتبة كبيرة عصرية متخصصة، من قاعات للمحاضرات، من مخابر بحث، من فندق خاص باستقبال الباحثين المقيمين وأيضاً لاستقبال المحاضرين والمشاركين في الملتقيات الدولية التي سينظمها المركز المذكور، من الجزائريين والأجانب… مدهش ومفرح!
وكي يكون الكذب بالألوان الفاقعة، اختار المشرفون على وهم “المركز الوطني للدراسات الخلدونية” بلدية فرندة لإقامته، وبالضبط في موقع قريب من “مغارة” تاوغزوت على بعد 50 كيلومتراً تقريباً من مدينة تيارت (تيهرت قديماً)، على بعد 40 كيلومتراً من مدينة الجزائر العاصمة! وهي المغارة التي لجأ إليها ابن خلدون هارباً من حكام فاس وتلمسان ومن الذين مسّتهم نار الغيرة والحسد مما وصل إليه، وهي الفترة الممتدة ما بين 1375-1379.
في هذه المغارة، التي تسمّى اليوم مغارة ابن خلدون أو تاوغزوت، كتب عبد الرحمن ابن خلدون كتابه الشهير “المقدمة”، وهي الفترة الأكثر غموضاً في حياة ابن خلدون.
لكم هو جميل وذكي أن يقام “مركز للدراسات الخلدونية” في مكان كتابة “المقدمة”.
لو لم يكن المشروع كذبة ثقافية وعلمية، لكان وضع المنطقة كلها على غير ما هي عليه الآن من إهمال وتدهور حال هذا المكان بكل ما فيه من رمزية تاريخية وثقافية.
لو، لكن هذه الـ”لو” لا تجبر المكسور ولكنها تمني النفس الثقافية المكسورة.
لو أن المشروع أقيم من 15 عاماً، لكان اليوم هذا التراب الذي مشى عليه ابن خلدون والمكان الذي كتب فيه “المقدمة”، محج الكثيرين من الباحثين المتخصصين ومن الفضوليين أيضاً، ولأضحت مدينة فرندة، التي بالمناسبة هي أيضاً المدينة التي ولد فيها المستشرق الكبير جاك بيرك مترجم القرآن إلى الفرنسية، مدينة أساسية في الدليل السياحي العلمي العالمي، ولتحوّلت إلى وجهة سياحية لا تشبهها وجهة أخرى، ولَفُكَّ الحصار على منطقة بكاملها اقتصادياً وثقافياً.
للعلم في عام 1949، كانت الإدارة الفرنسية آنذاك، والجزائر لا تزال مستعمرة، قد صنّفت مغارة تاوغزوت، أي مغارة ابن خلدون، ضمن التراث الطبيعي، كما تمت إعادة تصنيفها عام 1968 من قبل الجزائر المستقلة كمكان تاريخي مرتبط بابن خلدون، وقد نشر ذلك في عدد الجريدة الرسمية للجمهورية الجزائرية في 23 يناير 1968.
لو أن المشروع تحقق، لكانت الجزائر قد غيّرت كثيراً من نظرتها لما يسمّى “اقتصاد الثقافة” و”السياحة العلمية” و”الاستثمار الثقافي”، ولتمكّنت منطقة الهضاب العليا الفريدة بطبيعتها وآثارها ومن خلفها الجزائر من التحرر من العزلة الثقافية التي تعاني منها.
لو أن المشروع تحقق لكانت مغارة ابن خلدون، مغارة تاوغزوت بفرندة، وهي مكان إبداع “المقدمة”، الكتاب الذي غيّر مسرى التاريخ الفكري البشري، قد تم تسجيلها في سجل التراث الإنساني العالمي، ولكان قد أعيد إليها الاعتبار التاريخي والرمزي وأخرجت من مقبرة النسيان إلى سجل الأماكن الخالدة، فالمكان الذي كتب فيه ابن خلدون أهم مؤلفاته مكان يوزن ترابه بالذهب.
نعم، الجزائر بلد محظوظ من الطبيعة ومن التاريخ، لكننا كثيراً ما نجهل ما تحمله ذاكرة تراب هذا البلد، إننا أغنياء لكن جهلنا بِغِنانا جعلنا فقراء في الروح وفي المعنى.
نقلا” عن أندبندنت العربية