جهد استشراقي كبير يلاحق آثار شهرزاد التي قاومت الموت بسطوة المخيلة
كتب : علي عطا
موسوعة الليالي العربية”، التي حررها أولريش مارزوف، وريتشارد فان ليفن، وصدرت بالإنجليزية في 2004، صدرت، أخيراً، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة بترجمة عربية انجزها السيد إمام وكتب لها مقدمة ضافية.
العنوان الأصلي لهذا العمل الضخم هوThe Arabian Nights Encyclopedia، وفضل السيد إمام ترجمته إلى “موسوعة ألف ليلة وليلة”، كما عبر في تقديمه له عن عدم اتفاقه مع زعم محرريه بأن له أصولاً فارسية وهندية، ترجع إلى ما قبل القرن التاسع الميلادي، “وربما يرجع تاريخ بعض حكاياتها إلى أبعد من ذلك؛ إلى ثقافة ما بين النهرين، والثقافة الهندية القديمة أو ثقافة مصر القديمة”، بحسب ما ورد في المقدمة التي كتبها أولريش مارزوف، الذي قاد العمل في إنجاز هذه الموسوعة على مدى ثلاث سنوات بمنحة ألمانية.
ويقول المترجم والناقد الأدبي المصري السيد إمام في تقديمه للترجمة: “لم أشأ أن ألتزم بالترجمة الحرفية لعنوان الموسوعة؛ “الليالي العربية”، وهو الاسم الذي عُرف به نص الليالي في أوروبا، وإنما أردت أن أعود إلى الاسم الذي اشتُهر به في العالم العربي والإسلامي؛ “ألف ليلة وليلة”، الذي يتفق والاسم الذي أطلقه الفرنسي أنطوان غالان على أول ترجمة للكتاب إلى إحدى اللغات الأوروبية”.
ويضيف إمام: “لم أرد أن أغفل الرقم ألف الذي كان لصيقاً بالنواة الأصلية لكتاب هزر أفسان “ألف خرافة”، وهو رقم يدل على الكثرة واستقر في أذهان النقاد وجمهور القراء طيلة عصور بدلالاته المختلفة، كما ارتبط بالعديد من المعارضات الأدبية للكتاب أو النصوص التي عمدت إلى التناص معه أو محاكاته، فضلاً عن أن العديد من الترجمات الأوروبية اعتمدت التسمية الأصلية”.
ولم يعمد إمام كذلك إلى ترجمة عناوين الحكايات المنقولة من الأصل العربي، ترجمة حرفية، بل اعتمد الأصل المنقول عنه في طبعة كلكتا الثانية أو طبعة بولاق المنقولة عنها، وهو المنهج نفسه الذي اعتمده في ترجمة المقتطفات المأخوذة عن المسعودي وابن النديم أو من رواية “سعيد أبي النحس المتشائل” لإميل حبيبي، وغيرها من نصوص عربية الأصل؛ “حتى لا تكون ترجمة فوق ترجمة، ويذهب الأصل المنقول عنه أدراج الرياح”.
أما بالنسبة إلى بعض عناوين الحكايات المنتحلة التي لم يضمها أي نص عربي، والتي يصعب ردها إلى أصل عربي أو هندي أو فارسي، فقد أوردها المترجم كما هي، مثل حكاية “ساتيلاطليس وحمامة نلواه”.
ثقافة ما قبل العصر الحديث
وبحسب مارزوف، أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جورج أوغست، في غونتين في ألمانيا، فإن هذا المصنف بلغ صورته الحالية بفضل ثقافة عربية تنتمي إلى ما قبل العصر الحديث، وعرف باسم “ألف ليلة وليلة”، ويتراوح تاريخه النصي من أقدم مخطوطة موجودة باللغة العربية بين القرن الـ15 الميلادي مروراً بمخطوطات أخرى عديدة ونسخ مطبوعة، وترجمات إلى العديد من اللغات، وصولاً إلى استقبال عالمي غير مسبوق في مجالات الأدب والفنون والمسرح والسينما والثقافة الشعبية.
لماذا تُعرف هذه المجموعة، تحديداً بـ”الليالي العربية”، كيف تحولت إلى الظاهرة التي تشكلها الآن، كيف استطاعت أن تفتن أجيالاً من القراء والمستمعين في ثقافات عديدة على مدى فترة تربو على الألف عام؟ تلك هي الأسئلة التي برزت على أساسها- كما يوضح مارزوف– فكرة تأليف الموسوعة، التي رُتبت في أقسام عدة، وكان الهدف من وراء ذلك هو تقديم معلومات واسعة وموثوق بها حول موضوعها.
ويؤكد مارزوف كذلك أنه قد تم تصور الموسوعة- التي جاءت ترجمتها إلى العربية في مجلدين ضخمين- على أساس أنها لا تشكل عملاً فردياً من أعمال الأدب بقدر ما تشكل ظاهرة تضم تجليات متباينة تتخذ أشكالاً مختلفة للتعبير الإبداعي.
ويرى مازروف أن هذ عمل قابل للتطوير، “فإن بحثاً أبعد سوف يؤدي إلى استبصارات جديدة تلقي الضوء على جوانب من الليالي العربية لم يتطرق إليها أحد حتى الآن”.
إن الهدف من القسم الأول- يقول مارزوف– الذي يضم أربعة عشر مقالاً حول “الليالي” هو أن يكون “غذاءً للفكر”، إذ يقدم استعراضات قصيرة، يعالج كل منها مجالات لموضوعات محددة أو أسئلة بعينها ذات صلة بدراسة “الليالي”. لقد كتب هذه المقالات باحثون معروفون عالمياً بأبحاثهم في الدراسات الإسلامية ومتخصصون في دراسة “الليالي العربية”. ويضم القسم الثاني المعنون بـ”ظاهرة الليالي العربية” استعراضاً مرتباً لـ551 حكاية (تشمل عدداً من القصص المطابقة) المدرجة في العديد من المخطوطات والنسخ المطبوعة والترجمات الأوروبية لهذا العمل. ومع أن هذا القسم- يقول مارزوف– لا يكفل معالجة كل تلك الحكايات، “إلا أنني بذلت كل الجهود الممكنة لإنجاز معالجة شاملة للحكايات التي نشرت بالإنجليزية”.
ويلاحظ أن مداخل هذا القسم ثنائية عادة، تضم ملخصاً مبدئياً لمحتوى كل حكاية، يتبعه استعراض بحثي مكثف للحكاية المعنية. لقد أُعطي اهتماماً خاصاً بالمعلومات ذات الصلة بالبحث الحكائي الفلكلوري المقارن، ويشمل هذا الذِّكر الانتقائي موتيفات حكائية، وقائمة كاملة بأنماط الحكايات العالمية المقابلة، وإشارات إلى معالجة حكايات أو موضوعات محددة في موسوعة “حكايات الجن” التي تعد الأشمل في هذا المجال. وتورد الإشارات الببلوغرافية في نهاية كل مدخل معالجة إحدى الحكايات في الاستعراض الببلوغرافي البزري لـ”الليالي العربية” 1892– 1922 الذي قام به شوفان، ثم قائمة بالدراسات الأساسية نوعاً ما حول الحكاية بالترتيب الهجائي. ويؤكد مارزوف في هذا الصدد أنه ينبغي أن يكون واضحاً أنه في الوقت الذي تُدرس فيه الحكايات المعروفة جيداً بشكل متكرر، فإن كثيراً من الحكايات في العالم الحكائي لليالي العربية لا يزال بحاجة إلى البحث.
عالم الليالي العربية
ويقع القسم الثالث تحت عنوان “عالم الليالي العربية”، ويضم مسحاً أبجدياً لـ270 مدخلاً تتعلق بالأصل، والشخصية، والسياق وما أعقب “الليالي” من آثار. وفي الوقت الذي يرقى فيه هذا القسم في بعض نواحيه لأن يكون موسوعة صغرى حول العالم الإسلامي، تركز المداخل على الفترة السابقة على العصر الحديث، واضعة في الحسبان التطورات الحديثة بصفة أولية، الخاصة بالآثار التي أعقبت ظهور “الليالي” والانعكاسات المترتبة عليها.
ويقول مازروف، إنه مما يدعو للأسى، عدم وجود تقديم كامل مناسب باللغة الإنجليزية لليالي العربية معد مباشرة من اللغة العربية في الوقت الراهن. ففي الوقت الذي تكون فيه ترجمة إدوارد لين 1839 انتقائية، وحافلة بالأخلاقية الفيكتورية، ومثقلة بالحواشي والشروح الإثنوغرافية، يزخر نص ريتشارد بيرتون بشتى أنواع الممارسات الجنسية. وعلى الرغم من ذلك- يقول مارزوف- وقع الاختيار على طبعة بيرتون المترجمة كمرجع أساسي للمسح الموسوعي الراهن، لأنها تشكل الطبعة الإنجليزية الأكثر اكتمالاً. إنها لا تمثل فقط ترجمة كاملة لطبعة كلكتا الثانية (1839 – 1842)، وإنما تقدم أيضاً في مجلداتها التكميلية حكايات من مصادر متنوعة. وفضلاً عن ذلك، فإن ترجمة بيرتون موجودة على الإنترنت، ومن ثم تشكل أكثر النصوص المتاحة للاسترشاد سهولة ويسراً، وعلى الرغم من هذا، فإنه يتعين تحذير القراء من وجود قدر ما من الألفاظ القديمة، والغريبة والصعبة التي تستعصي تقريباً على الفهم بالنسبة إلى جمهور معاصر.
إن الترجمة الأكثر أمانة باللغة الإنجليزية من نسخة أصلية مكتوبة باللغة العربية- يقول مارزوف– هي الترجمة (الجزئية) التي أعدها حسين حداوي 1990، ونظراً إلى أن هذه الترجمة، إضافة إلى ترجمات إلى لغات أخرى، تتأسس على طبعة مخطوطة جالان التي أعدها محسن مهدي 1984، فإن الإشارة تقتصر فقط على الأخيرة. وقد يكون من المفيد بحسب محرر الموسوعة تنبيه القارئ إلى وجود طبعات أخرى باللغة الإنجليزية، مثل الطبعة التي أعدت من نص جوزيف شارل ماردوس المكتوب باللغة الفرنسية (1899 – 1904) التي لا تزال تُقرأ على نطاق واسع في وقتنا الراهن، أو طبعات شعبية مثل الطبعة التي نشرها أندرو لانج 1898، علماً أن ما يقدم للقراء في هذه الطبعات ليس بالضرورة نصاً مماثلاً للمحتوى أو الصياغة الأصليين، وإنما بالأحرى عينات من تشكيلة كبيرة من النسخ التي أُعدت لتلائم ذوق وتوقعات جمهور محدد من القراء.
هاجس اللغة وهاجس الأخلاق
وفي تقديمه للترجمة، يقول إمام: “إن الهاجسين اللذين ظلا يحكمان المشهد النقدي العربي والإسلامي في تقييم الليالي طيلة القرون التي تفصل بين ابن النديم ومحمد عبده ومن جاء بعده من المتزمتين، هما: هاجس اللغة من جهة، وهاجس، الأخلاق من جهة أخرى، فضلاً عن عنصر ثالث أفاض في ذكره العلماء هو عنصر الكذب أو عدم المطابقة مع الواقع وجنوح القاص الشعبي إلى الغلو والإغراق في الخيال ووصف المحال”. وبالنسبة لذلك العنصر الأخير، فإن السيد إمام يقول: “لا نظن أنها- أي الليالي- أكثر غرائبية من قصة يونس الذي ابتلعه الحوت ومكث في جوفه أياماً أو أسابيع، بحسب بعض الروايات، أو قصة أهل الكهف الذين مكثوا في نومهم في كهفهم بشكل متصل لمئات السنين، أو قصة النبي سليمان الذي كان يتمتع بالقدرة على مخاطبة الحيوانات والطير وسائر صنوف المخلوقات، وسخر له الله الرياح والجن”.
ويضيف أنه في الوقت ذاته لم يستبعد النقاد القدامى الكتب التي كانت تتناول كرامات الأولياء التي انطوت على قصص أكثر غرابة وغلواً وإغراقاً في الخيال أو وصف المحال من قصص “ألف ليلة وليلة”، لأنها تتناول أشخاصاً يتميزون بالزهد والصلاح، ولأنها كتبت باللغة العربية الكلاسيكية الفصحى المقدسة، لغة القرآن الكريم، ولم تلجأ إلى اللغة الدارجة الملحونة التي يتحدث بها العوام كم فعلت “ألف ليلة وليلة”، بل استوعبت مؤسسة الأدب ضمن سياقها نصوصاً مثل “الروض العاطر” للنفزاوي التي تحتوي ألفاظاً تخدش الحياء أو أوصافاً للأعضاء الجنسية للرجل والمرأة وطرق الجماع وكيفية الإمتاع!
ويبدأ القسم الأول الذي جاء تحت عنوان “مقالات تمهيدية”، بمقال لدانيال بومون عنوانه “الأسلوب الأدبي والتقنية السردية في الليالي العربية”، ويذهب فيه إلى أن أسلوب تضمين حكاية في حكاية أخرى، إنما يرجع إلى أصول هندية اتبعت المنهج نفسه مثل “الفصول الخمسة”. فيما جاء مقال حسن الشامي بعنوان “الروابط الشفاهية لليالي العربية”، وخلص إلى أن تحول هذه الحكايات التي كانت تنقل في وقت من الأوقات شفاهياً وتدرك سماعياً إلى الشكل الكتابي تم بفضل نساخ ذكور، امتلك معظمهم مهارات كهنوتية ومعرفة بالتحول على الرغم من عدم اكتمالها، ومخزوناً من المحسنات البلاغية اللازمة للإنشاء الأدبي، وعلى الرغم من توالدها صعوداً من مصادر شفاهية “أدنى”، فإن تلك الحكايات تنقل عادة عن طريق القراءة من نص مطبوع. ولأسباب دينية وأخلاقية، تنكر معظم المنتمين للنخبة العربية والمسلمة التقليدية لهذه المختارات القصصية، ومع ذلك أثار إعجاب الأوروبيين بالعمل في شكله المترجم والمعدل تحت اسم “الليالي العربية”، وبحكايات مماثلة تنتمي إلى التقاليد الشفاهية، اهتمام ممثلي النخبة من العرب والمسلمين المنبهرين بالثقافة والأدب الغربيين.
وكتب أبو بكر الشرايبي تحت عنوان “الموقف والدافعية والفعل في الليالي العربية”، وحمل مقال يان فان غيلدر عنوان “الشعر وألف ليلة وليلة”، وكتب هاينس غروزفلد تحت عنوان “تقاليد المخطوطة في الليالي العربية”، وتلاه مقال روبرت إروين “الليالي العربية في الإعداد السينمائي”، وكتبت رنا قباني عن “الليالي العربية بوصفها نصاً استشراقياً”، وكتب كازو كوباياشي عن “الرسوم التوضيحية في الليالي العربية”، وجاء مقال ريمكي كروك بعنوان “الليالي العربية والملاحم الشعبية”، وتلاه مقال فدوى مالطي دوغلاس “المثلية الجنسية والمغايرة الجنسية وشهرزاد”، وكتب جوزيف سدان عن “الليالي العربية واليهود”، وتلاه مقال راينهارد شولتزه “صورة الذكورة في الليالي العربية”، وحمل مقال بوعز شوشان عنوان “الحياة الاجتماعية والثقافة الشعبية في الليالي العربية”، وأخيراً، جاء مقال فيبكه فالتر “الأدب العربي الحديث والليالي العربية”.
نقلا” عن أندبندنت عربية