كريتر نت – العرب
فتحت مناورات حركة النهضة الإسلامية، سعيا للإفلات من الضغوط السياسية، المجال أمام نتائج عكسية تجسّدت في مواصلة تراجع شعبيتها لدى التونسيين، وسط دعوات متجددة من طيف واسع من الطبقة السياسية لإبعاد رئيسها راشد الغنوشي عن رئاسة البرلمان بعد أن أثبتت اصطفافاته أنه الطرف الرئيسي في إطالة أمد الأزمة.
تُظهر تطورات المشهد السياسي التونسي اتساعا ملحوظا في دائرة عزلة حركة النهضة الإسلامية، التي خسرت المزيد من النقاط في تقارير سبر الآراء، تزامن مع تزايد متاعب رئيسها راشد الغنوشي، الذي تجددت الدعوات لسحب الثقة منه كرئيس للبرلمان.
وترافقت هذه التطوّرات مع حراك اجتماعي واسع يدفع نحو بروز توازنات حزبية جديدة مُغايرة لحسابات حركة النهضة، بدأت تفرض إيقاعها من خلال تسليط الضوء على مناطق الظل والعتمة في علاقة هذه الحركة الإسلامية مع حليفها الحالي، حزب قلب تونس برئاسة نبيل القروي.
والقارئ لخفايا الوضع يدرك أن الضغوط السياسية المتزايدة على تيار الإسلام السياسي، والتي تسربت إلى الأوساط الشعبية بسبب اتباعه سياسة الهروب إلى الأمام، ستجعله يدور في حلقة مفرغة بحثا عن مخرج لهذه الورطة، خاصة مع ما تتعرض له النهضة داخل قواعدها وأيضا من الأحزاب المعارضة لسياساتها.
ضغوط سياسية
عبير موسي: رفض البرلمان إصدار موقف ضد الإرهاب أمر خطير
كل الشواهد التي تطبع الحياة السياسية في تونس حاليا تعطي لمحة واضحة عن السبب الرئيسي وراء ما يحدث هي حركة النهضة، نظرا لاتباعها أساليب المراوغة وهذا ما دعمته آخر استطلاعات الرأي على المستوى الوطني.
وكشفت نتائج سبر آراء أجرته مؤسسة سيغما كونساي لشهر ديسمبر الجاري، نشرتها الثلاثاء صحيفة “المغرب” المحلية، عن تصدر الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسي نوايا التصويت في الانتخابات التشريعية، بفارق شاسع عن حركة النهضة.
ووفقا لتلك النتائج، عزز الحزب الدستوري الحرّ موقعه في صدارة نوايا التصويت بحصوله على نسبة 36.9 في المئة، مقابل 17.2 في المئة لحركة النهضة، و11.4 في المئة لحزب قلب تونس، و8.4 في المئة لائتلاف الكرامة، و4.4 في المئة لحزب التيار الديمقراطي.
وتعكس هذه النتائج تواصل تراجع ثقة الناخب التونسي في حركة النهضة الإسلامية، التي فقدت الكثير من مصداقيتها نتيجة سياساتها التي تستهدف إحكام سطوتها على البلاد، لفرض نفوذها بأساليب مُلتوية تقوم على التضليل والمراوغة والخطاب المزدوج والمناورات المحكومة بأجندات إخوانية.
وتتالت خلال الأيام القليلة الماضية، المشاهد التي تُؤكّد فشل حركة النهضة في ترميم صورتها لدى المواطن التونسي، عكستها الشعارات التي تخللت الاحتجاجات الشعبية، وخاصة منها شعار “خبز وماء والنهضة لا”، الذي تردد صداه عاليا في غالبية مناطق البلاد.
ويعود هذا الفشل إلى إمعان هذه الحركة المحسوبة على جماعة الإخوان المسلمين في مُحاولاتها للهيمنة على الأوضاع العامة في البلاد، غير آبهة بحسابات الواقع السياسي المُتغير، وما يلحق بها من توازنات تتداخل فيها الكثير من العوامل الشعبية والسياسية، وكذلك أيضا الحزبية.
وتتضح ملامح هذا الفشل أكثر فأكثر في علاقاتها الحزبية، وخاصة منها تحالفها مع حزب قلب تونس، الذي بدأت الخلافات تُحيط به مع تجدد التحركات لسحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان، التي تزامنت مع ارتفاع الأصوات وتزايد المبادرات المطالبة بعقد مؤتمر وطني لإنقاذ البلاد.
ولم يُبدد اصطفاف حزب قلب تونس إلى جانب حركة النهضة لإفشال عقد جلسة برلمانية عامة للنظر في مشروع لائحة تقدم بها الحزب الدستوري الحر برئاسة عبير موسي، للتنديد بالإرهاب والدعوة إلى تجفيف منابعه وحل التنظيمات التي تدعو إلى العنف والفكر الظلامي المتطرف، حالة التوجس التي ما زالت تحكم تلك العلاقة التي تُوصف بالمُريبة.
وتسبب ذلك الاصطفاف في إلغاء الجلسة البرلمانية العامة للنظر في مشروع اللائحة المذكورة الذي تقدم به الحزب الدستوري الحر، حيث حضر الجلسة 48 نائبا فقط من أصل 217، والحال أن اكتمال نصاب الجلسة يستوجب حضور109 نواب في بداية الجلسة، و73 نائبا لتمرير اللائحة.
ووصفت موسي إلغاء هذه الجلسة العامة بـ”المنعطف التاريخي”، لأن رفض البرلمان إصدار موقف ضد الإرهاب “يُعدّ أمرا خطيرا ويهم الأمن القومي”، مُهددة في نفس الوقت باتخاذ خطوات تصعيدية وتوسيع التحركات الاحتجاجية.
الهروب إلى الأمام
كشفت مصادر سياسية لـ”العرب”، أن ما حصل داخل قبة البرلمان، كان مُخططا له سلفا، حيث كثفت حركة النهضة ليلة عقد الجلسة العامة، من اتصالاتها ومشاوراتها مع حليفيها ائتلاف الكرامة وحزب قلب تونس، شارك فيها راشد الغنوشي، الذي تعمّد عدم الحضور إلى البرلمان، الثلاثاء.
واعتبرت موسي أن ما حصل تحت قبة البرلمان يُعد بمثابة السابقة الخطيرة، لأن رفض الإرهاب والتطرف والفكر الظلامي وحل الجمعيات والتنظيمات التي تدعو إلى العنف، هو قاسم مشترك للجميع، وعنوان لا يتعين الخلاف حوله، إلا إذا كان البعض يريد الإبقاء عليه رهينة لحسابات سياسية برسائل لا تخلو من التحدي والاستفزاز.
وربط مراقبون هذا التطور الخطير، بتوقيت طرح مشروع لائحة الحزب الدستوري الحر، مع عودة الحديث حول سحب الثقة من راشد الغنوشي كرئيس للبرلمان، الذي طفا على السطح من جديد، الأمر الذي أربك حسابات الغنوشي الذي فشل في إدارة شؤون البرلمان طيلة الأشهر الماضية.
وأثارت هذه الدعوة لسحب الثقة من الغنوشي، التي ترافقت مع تعدد المبادرات لإنقاذ البلاد من الأزمة التي تُحيط بها من كل جانب، استنفار حركة النهضة التي سارع قادتها إلى التنديد بها بخطاب تصعيدي في مسعى لمحاولة قلب موازين القوى، بدا ليس معزولا عن حالة الهستيريا التي تنتابهم منذ فترة.
واعتبر النائب البرلماني محمد القوماني، عضو المكتب السياسي للنهضة، أن هذه الدعوات “تربك الوضع السياسي، وهي جزء من الأجندة الفوضوية، ذلك أن الغنوشي كما قال سابقا لم يأت للبرلمان على ظهر دبابة”.
وخلال تصريحات سابقة، رأى القوماني أن تجدد الدعوات لسحب الثقة من الغنوشي “ستبقى قائمة ما دامت المناكفات مستمرة بالبرلمان”، لافتا في نفس الوقت إلى أن “تجدد المزاج الشعبي السلبي ستتفاعل معه بعض الكتل البرلمانية المخاصمة للنهضة ولرئيس البرلمان، لتستغل هذه الأجواء وتحمّله تبعات أقوال أو أفعال تحت قبة البرلمان ولا صلة له بها”.
وقبل ذلك، استنكر مجلس شورى حركة النهضة في بيان وزعه الاثنين الماضي، في ختام دورته الـ46، دعوات “التحريض والتشكيك” الصادرة عن أصوات وصفها بـ”غير المسؤولة” وبالداعية إلى “الانقلاب وحلّ البرلمان وتعليق العمل بالدستور”، معتبرا أنها تهدف إلى “نسف مكتسبات الشعب وإعادته إلى مربع الاستبداد”.