انتصرت النهضة كما دعا إليها تلامذة الأزهر على حساب النهضة العلمانية التي كانت تربتها بلاد الشام وهو ما عاد على لغة الضاد بالتقهقر
كتب : أمين الزاوي كاتب ومفكر
العربية لغة، كما كل اللغات العالمية، ظهرت في منطقة جغرافية معينة، ثم ككثير مثلها هاجرت عن طرق الاقتصاد والتجارة والعلوم والفنون والحروب أيضاً، وأما العربية فقد رحلت عبر الفتوحات الإسلامية أساساً، ونزلت في بلدان أخرى وثقافات أخرى، وزاحمت بعض لغات شعوب عريقة وصلت إليها، بعضها قبِل بها لغة أو فُرضت عليه، ومع تطور السياسة وتغير أحوال الأمم، وتقاطع المصالح، ظل الصراع خفياً، يخبو تارة ويظهر أخرى كما في بلدان شمال أفريقيا، أما في بعضها الآخر فلم تستطع الهيمنة على اللغة الأصلية كما في تركيا والهند وإيران وإندونيسيا وغيرها.
كيف تخنق الأيديولوجيا الدينية اللغة الدنيوية؟
وصلت اللغة العربية الأركان إلى ما وصلت إليه على ظهر الدين، بما سمي الفتوحات الإسلامية، لم تخرج من جغرافيتها الأولى في الجزيرة العربية، مسقط رأسها، ومكان تشكلها، عن طريق التجارة مثلاً أو السياحة، بل كانت مرتبطة في توسعها ومنذ 14 قرناً بانتشار الإسلام في المقام الأول. صحيح أن كثيراً من العلماء المسلمين أوصلوا هذه اللغة، في مراحل تاريخية معينة، إلى العالم من أمثال الأسماء الأساسية: ابن سينا وابن الهيثم وابن رشد والكندي وغيرهم، لكن غالبية هؤلاء العلماء كانوا يكفَّرون في بلدانهم من قبل الفقهاء الذين أصبحوا عين السلطة في قمع الفكر الحرّ والتنوير.
وبقدر ما كان العامل الأيديولوجي الديني التبشيري سبباً في البداية في توسع رقعة العربية واستقرارها في بلدان وبين قوميات مختلفة، إلا أنه وابتداء من الربع الأول للقرن العشرين، وأساساً بعد بداية ظهور الإسلام السياسي مع “الإخوان المسلمين” في مصر، تحول الدين الذي حمى العربية ونشرها إلى عائق في وجه تقدمها وانتشارها.
وانطلاقاً من ارتباط اللغة بالدين السياسي، بل تأميم العربية من قبل الإسلام السياسي، ساد خوف كبير على اللغة، كأن ما قد يلحق بها من تفريط أو تغيير أو تحوير يلحق بالدين وبالتالي بالكتاب الأساس وهو القرآن الكريم.
كل النقاشات التي نتابعها على وسائل التواصل الاجتماعي والتي تدّعي الدفاع عن العربية، تنطلق من أطروحة مركزية وهي أن هذه اللغة “لغة الجنة”، بالتالي فضياعها أو تطويرها هو ضياع للمؤمن في الجنة، بل ضياع باب الجنة أصلاً، وكأن الله تبارك وتعالى لا يفهم ولا يتكلم إلا لغة العرب، وأن الشعوب الأخرى والقوميات الأخرى التي تتحدث لغات هي أعرق من اللغة العربية، ستكون في حيرة من أمرها أمام الله تبارك وتعالى يوم القيامة؟
هذا التفكير المشوب بالخوف على العربية سببه حملة تقوم بها مجموعة من الدعاة المدعين الذين يتحدثون في كل شيء ولا يتحدثون في شيء، فهذا “المتدروش” يقول “جميع لغات العالم توجد في الجهة اليسرى من دماغ الإنسان واللغة العربية وحدها في الجانب الأيمن” وهذا يقول “إن الجنة لن يدخلها إلا من يتكلم العربية”، وذاك يقول إن “الولايات المتحدة الأميركية وألمانيا واليابان والدول العظمى، تحفظ أرشيفها باللغة العربية لأنها اللغة التي ستظل بعد أن تختفي جميع اللغات من على وجه الأرض” وكثير من الخرافات تملأ وسائل التواصل الاجتماعي وتخلق بلبلة لدى الأجيال الجديدة.
قد ينسى أو يتناسى البعض أن اللغة العربية أسبق وجوداً وتاريخاً من الدين الإسلامي نفسه، وقد ينسى البعض الآخر أن الذين طوّروا اللغة العربية المعاصرة بشكل واضح من خلال النصوص الإبداعية أو من خلال القواميس والترجمة الأولى، هم المسيحيون العرب في بلاد الشام بشكل خاص. وأن الحداثة العربية بشكل عام أسس لها المسيحيون العرب من أمثال عائلة البستاني، جبران خليل جبران، خليل حاوي، إيليا أبو ماضي، ميخائيل نعيمة، جورجي زيدان، مي زيادة، وغيرهم كثير.
ونعتقد أن حركة الإصلاح التي تمركزت لاحقاً حول الأزهر هي من حجّمت بدرجة ما تطوّر اللغة العربية الجديدة على الطريقة الشامية، لأنها أعادت ربط العربية بالدين وليس بالحداثة الفلسفية والفكرية، فبقدر ما كان التحديث الشامي للغة العربية علمانياً بعيداً من الدين وقريباً من القومية والإنسانية، فإن الإصلاح النهضوي في مصر كان قريباً من الدين ومن الفصاحة.
وفي النهاية انتصرت النهضة كما دعا إليها تلامذة الأزهر على حساب النهضة العلمانية التي كانت تربتها بلاد الشام، وهو ما عاد على العربية بالتقهقر وبإعادة ربط مصيرها بالدين.
هل العربية لغة مثقفة؟
اللغة المثقفة هي اللغة التي تتقاطع مع اللغات الأخرى من خلال الترجمة أساساً، فالترجمة هي عبارة تمارين رياضية للغة، اللغات تتسامع بينها من خلال الترجمة، فكم أخذت اللغات الأوروبية كالإسبانية والفرنسية من اللغة العربية من دون عقدة، ولكن هذا الغَرف من لغة أخرى لا يكون إلا من خلال الترجمة، وللأسف فالعرب أمة لا تترجم، وإن ترجمت راقبت ومنعت، وما يترجم عندنا لا يخضع لضوابط مهنية واستراتيجية فلسفية وعلمية، فما يترجم فيه خلط ولغط، لذا نشعر بأن اللغة العربية تظل إلى حد ما لغة غير مثقفة، بمعنى أنها لا تتقاطع مع اللغات الأخرى على ساحة الفكر والجدل، وكلما تعددت الترجمة، بخاصة ترجمة الكتب الحديثة والأساسية في الفكر الإنساني، فإن اللغة تجد نفسها مضطرة لفتح مجالها لجملة من المصطلحات والمفاهيم الجديدة، التي عليها أن تأخذها كما هي وذلك بموثقتها داخل بنيات اللغة العربية.
وأعتقد أن الفوضى القائمة في “المفاهيم والمصطلحات” المترجمة إلى اللغة العربية سببها غياب “الفلسفة” في الحقل الثقافي في المشرق وشمال أفريقيا، فالعرب المعاصرون يخافون من الفلسفة، لأنهم يعتقدون بأنها عدوة الدين، وهو ما كرّسه الفقهاء في الذهنية العربية والإسلامية بشكل عام، كما أن كثيراً من مجامع اللغة العربية، إن لم أقل جلّها، هي مؤسسات تقليدية محافظة تعيش بعربية القرنين الأوليين للإسلام.
سيظل حال اللغة العربية، ضعيفاً كلما زادت الهوة بينها وبين اللغات الأجنبية التي يقوم عليها وفيها العلم والآداب والفنون، وبقدر ما تقترب العربية من هذه اللغات يتوسع مجالها واستيعابها الفكر والعلم.
كيف تنقذ العاميات اللغة الفصحى؟
هناك هاجس الخوف من “تلوّث” اللغة العربية، الخوف من تلوّثها بالعامي أو بالقاموس الأجنبي، هو هاجس ديني وقومي شوفيني، وكأن اللغة العربية كيان “صافٍ”، فالقرآن نفسه لا يخلو من كلمات أجنبية، وبالتالي فإن العربية إذا أرادت أن تجدد مفاصلها، عليها، إضافة إلى علاقتها باللغات الأخرى والأخذ منها، أن تنفتح على “العاميات” المختلفة والثرية في المشرق وشمال أفريقيا وتأخذ منها، لكيلا تجد نفسها في مرحلة تالية منفصلة عن واقعها، مرتبطة باللاهوت وخادمة له، فالعاميات كنزٌ، فيها عبقرية الإنسان في الإبداع اللغوي اليومي، وهو ما تستفيد منه جميع اللغات في العالم، بهذا المفهوم على العربية، من خلال المنشغلين والمشتغلين والمبدعين بها وفيها، أن ينظروا ويستمعوا إلى العبقرية الشعبية التي تنتج يومياً صيغاً وأساليب يمكنها أن تكون رافداً كبيراً ومهماً لتطوير العربية وتقريبها من الإنسان البسيط، فاللغة العربية يجب أن تقلّص المسافة الموجودة ما بين “عربية المدرسة” و”عربية الحياة”، وإذا لم تستفد العربية من العاميات فإنها ستتحوّل إلى لغة “خطبةِ” الجمعة في المساجد والجوامع.
نقلا” عن أندبندنت عربية