بعد 250 سنة على ميلاده ما زال الموسيقي الكلاسيكي يثير الجدل حول حقيقة هويته الألمانية
كتب : صلاح أحمد كاتب وروائ
تمر علينا ذكرى ميلاد المؤلف الكلاسيكي العملاق لودفيغ فان بيتهوفن مصحوبة هذه المرة بجدال تدعمه حجج ليست واهية حول ما إن كان ألمانياً/ هولندياً أبيض– كما حدثنا كتُاب التاريخ– أم أنه كان في الحقيقة سليل عرق آخر يجد جذوره في القارة الأفريقية؟!
ومن الجدير ذكره هنا، أن التساؤل حول انتماء بيتهوفن العرقي ليس جديداً؛ إذ إنه بدأ في ثلاثينيات القرن العشرين على يد مؤرخ وناقد موسيقي أميركي وصحافي أسود، حيث قال في مجلة مرموقة، إن بحوثه في سيرة بيتهوفن تقود جميعاً إلى أن أصوله أفريقية، وفي الأغلب من بلاد السودان (وهي الحزام الذي يمتد من الحبشة شرقاً إلى السنغال غرباً، والسودان المعروف جزء منه).
لكن ذلك كان كمن “يؤذن في مالطا” كما يقال، وبسبب غرابة الزعم كاد يذهب أدراج الرياح، لولا أن وسائل التواصل الاجتماعي– منذ نحو خمس سنوات– أحيته بشكل أو بآخر. ووجد الأمر تربة خصبة، إذ إن شبكة الإنترنت أيضاً صارت تطفح في الآونة الأخيرة بسير المؤلفين الكلاسيكيين السود الذين أفردنا لبعضهم مقالة سابقة في “اندبندنت عربية” – (الموسيقى الكلاسيكية السوداء تسعى للتكريس في زمن الهيمنة البيضاء).
هل كان أفريقياً فعلاً؟
يسوق القائلون بأفريقية بيتهوفن حزمة من البراهين تبدأ بخلقته. فمن الثابت أنه كان داكن اللون بالقياس إلى بياض أهل العرق القوقازي وذا شفتين ممتلئتين وأنف أقرب للتسطح منه إلى النتوء.
أما عن عبقريته الموسيقية، فإن إنجازه الأكبر تمثل في كونه الجسر بين الموسيقى الكلاسيكية التقليدية– بقواعدها وقوالبها الصارمة– والموسيقى الكلاسيكية الرومانسية– المرتخية نسبياً– فهم يرجعون الفضل في ذلك إلى تمتع موسيقاه بإيقاعات داخلية وخارجية لم يعرفها الوعي الموسيقي الأبيض من قبل، مما يثبت أن دمه احتوى على الطبل الأفريقي مثلما احتوى على البيانو والكمان القوقازيين. وهل من قبيل الصدفة البحتة أن أغاني “الراب” الآفروأميركية التي استلفت مؤلفات كلاسيكية فعلت ذلك من معين بيتهوفن أكثر من غيره، أم لأن إيقاعات بيتهوفن جعلتها الحاوية الأرحب للراب الذي يقوم أصلاً على الإيقاع؟
ثم يمضي القائلون بأفريقية بيتهوفن للإشارة إلى أن الأذن المصغية تجد تشابهاً روحياً بين أعمال بيتهوفن وأعمال مؤلفين كلاسيكيين سود مثل جورج بريدجتاور (1778– 1860). ولنذكر هنا أن صداقة قوية جمعت بين هذين الموسيقيين حتى أن بيتهوفن ألف سوناتا الكمان التاسعة لصديقه الأسود هذا وسماها “سوناتا بريدجتاور”. تلك صداقة لم يُفت عضدها إلا تعليق أطلقه هذا الأخير على امرأة يبدو أن بيتهوفن كان مغرماً بها، فغير اسم السوناتا من “بريدجتاور” إلى “كرويتزر” (هدية إلى رودلف كرويتزر عازف الكمان الفرنسي الشهير ونكاية في صديقه القديم).
مغاربي موريسكي؟
تحت هذا الضوء وجدت مؤسسات داخل حظيرة الإعلام الغربي أنه من المستحيل عليها تجاهل الموجة العاتية الآتية من بحر الإعلام الاجتماعي القائلة بسواد بيتهوفن. وعليه توجهت “كلاسيك إف إم” (وهي إحدى إذاعتين بريطانيتين متخصصتين في الموسيقى الكلاسيكية) بالسؤال إلى جون سوشيه، أحد أبرز نجومها الخبراء عله يفتي في الأمر. فقال “بالنظر إلى أن أسلاف بيتهوفن كانوا هولنديين، فلا أستبعد أن دماً موريسكياً كان يجري في عروقه، ورثه عن أبيه، ولكن ليس والدته لأنها من بلدة صغيرة على ضفة الراين شمال بون ولا معلومات عندي تشير إلى أنها كانت موريسكية هي أيضاً”.
وأضاف “في ما يتعلق بملامح بيتهوفن، فالمؤكد أنه كان ذا بشرة غامقة بشكل ملحوظ، وكانت هي السبب في تلقيبه بـ(الإسباني). وبعيد وصوله فيينا ونجاحه في اختراق البلاط أطلق عليه الأمير أنطون ايسترهازي لقب (الموريسكي)”.
لماذا هذا التستر؟
وعلى أي حال، لو كان بيتهوفن أسود أو مغاربياً موريسكياً فعلاً، فلِم تتستر كتب التاريخ على هذا الأمر؟ الإجابة أوردناها في مقالتنا السابقة عن المؤلفين الكلاسيكيين السود وتتلخص في أن الموسيقى الكلاسيكية ظلت مؤسسة بيضاء تولى أهلها (المؤرخون والإعلاميون) مهمة بقائها “نقية خالصة”. ولذا فقد أهملوا بالكامل– بل حاربوا– مؤلفين سوداً عمالقة كجوزيف بولونيا (1745– 1799)، وجورج بريدجتاور– صديق بيتهوفن- وصمويل كوليريدج تيلور (1875- 1912)، وفلورنس برايس (1887– 1953) على سبيل المثال وليس الحصر. أما الفضل في تحول الهمس عن أصول بيتهوفن إلى حديث علني على المنابر العامة، فيعود إلى الإنترنت. فالإعلام الاجتماعي ليس هو الإعلام الغربي التقليدي وليس مملوكاً لأحد يتحكم في مساره ويقرر ما يمكن أن يقال، وما لا يمكن أن يقال كما كان الحال في عهود الإعلام التقليدي القديم.
عبقري بغض النظر
مهما كان من أمر وبغض النظر عن انتماء بيتهوفن العرقي، فلا جدال حول عبقرية الرجل وحول أن تركته تمثل جزءاً مهماً من التراث الثقافي الإنساني. فقد كان من أوائل المؤلفين الذين ابتدعوا تطوير البناء الموسيقي من “طوبة” أو جملة موسيقية واحدة. واشتهر أيضاً بتجديده سائر الأشكال الموسيقية التي مستها يداه. وشملت هذه السيمفونية والكونشيرتو وسوناتا البيانو وسوناتا الكمان والرباعي الوتري وموسيقى الصالونات والموسيقى الكنسية… إلى آخره.
وتأثر في إنتاجه الغزير هذا (خصوصاً في مرحلته المبكرة) بهايدن وموزارت على الرغم من أنه لم يكن مقلداً لأي منهما. بل إنه فرد جناحيه في عالمه الخاص وألف أعمالاً لا تحمل غير بصمته الفريدة. وبلغ به الأمر في هذا الشأن أنه يعتبر جسراً بين الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الرومانسية التي تمردت على القوالب الحسابية الصارمة التي تميزت بها تلك الأولى.
حياته
ولد لودفيغ فان بيتهوفن في ديسمبر (كانون الأول) 1770 في بون، الثاني وسط سبعة أبناء، مات منهم أربعة في طفولتهم المبكرة. والده هو يوهان فان بيتهوفن، ووالدته ماريا ماغدالينا كيوريتش، وكانا يحتفلان بعيد ميلاده في السابع عشر من الشهر (يوم تعميده)، لأن يوم ولادته ليس معروفاً على وجه التحديد.
كان معلمه الموسيقي الأول هو والده يوهان الذي احترف الغناء الأوبرالي في بلاط بون. وكانت موهبة الصبي جلية للعيان. ففي سن الثامنة كان يدرس الأورغن والفيولا (الكمان الكبير) إضافة إلى البيانو. وكان أهم معلميه في هذا الوقت هو كريستيان نيفه الذي كان عازفاً للأورغن في البلاط الإمبراطوري. ومع بلوغ بيتهوفن سن الحادية عشرة صار نائباً لمعلمه، بل ساعده على نشر بعض مؤلفاته الموسيقية.
عام 1787 سافر بيتهوفن إلى فيينا، لكونها عاصمة الموسيقى وقتها وقبلة المؤلفين، ولكن بالنسبة له كان دافعه الأكبر سعيه الدؤوب إلى التتلمذ على يد موزارت. لكنه لم يحقق أمنيته هذه. ذلك أنه لم يمكث أكثر من أسبوعين في المدينة واضطر للعودة إلى بون بسبب الأنباء التي وردت إليه تفيد بمرض والدته. وبعد وفاتها وجد الفتى أنه مسؤول عن تربية أخويه الصغيرين، لأن والده كان في حالة سكر دائمة لا تسمح له بالعمل.
بعد خمس سنوات سافر بيتهوفن إلى فيينا مجدداً مستقراً فيها ومتلقياً العلم من أنتونيو سالييري. وكانت في هذا الأمر مفارقة كبيرة لأن ساييري كان ألد خصوم موزارت الذي سعى إليه بيتهوفن في المقام الأول. وعاش الفتى حياة رخوة نسبياً إذ وجد حظوة لدى الطبقة الأرستقراطية في فيينا، وكان يكتفي لعيشه بإحيائه حفلات علية القوم الخاصة من دون اضطرار للعزف للعامة.
وقيل، إن عزفه البيانو كان “في سخونة النار وسطوع الشمس مليئاً بالفرح وبالشجن وحاملاً على الدوام شيئاً من آفاق جديدة”. وشهدت هذه الفترة المسماة “المرحلة المبكرة” (أو الكلاسيكية) في حياته الموسيقية (1799– 1802) مولد بعض أهم أعماله مثل سوناتا البيانو الثامنة “باتيتيك”، وسوناتا البيانو الرابعة عشرة “ضوء القمر” إضافة إلى ثلاثة كونشيرتات للبيانو وسيمفونيتيه الأولى والثانية وستة مؤلفات للرباعي الوتري.
الموسيقي الأطرش
منذ عام 1796 بدأ بيتهوفن يسمع رنيناً في أذنيه أفسد عليه تمتعه بالموسيقى وأبعده عن التخاطب، وشيئاً فشيئاً راح يفقد قدرته على السمع. وبحلول عام 1802 كان الصمم قد لفه تماماً فكتب ما يشبه وصيته الأخيرة لأخويه؛ إيماناً منه باقتراب أجله. لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه مقتنعاً بأن خلاصه من أشجانه إنما يكمن في التأليف الموسيقي نفسه وبغض النظر عن العوائق. فألحق بالبيانو رقاقة معدنية كان يعض عليها حتى ينقل ذبذباته الصوتية إلى فكه.
وتسمى الفترة 1802– 1815 من حياته الموسيقية “المرحلة الوسطى” (أو البطولية) التي ألف فيها سيمفونيته الثالثة “ايرويكا” (البطولية) والخامسة الشهيرة بمطلعها المسمى “القدر يطرق على الباب” والسادسة والسابعة. أضف إلى هذا كونشيرتو البيانو الرابع والخامس وكونشيرتو الكمان وأوبراه الوحيدة “فيديليو”. وكانت هذه أعمال أكدت مقامه الرفيع وسط عظماء المؤلفين.
غير أن السنوات القليلة التالية لعام 1812 تميزت بقلة إنتاجه. فقد عانى من الاكتئاب ليس بسبب صممه وحسب، وإنما لإخفاقه في آماله العاطفية ومعارك قانونية أجبر على خوضها حول مساعيه لرعاية ابن شقيقه أيضاً. لكنه استطاع الصمود ليبدأ في عام 1815 مرحلته الثالثة المسماة “المتأخرة” (أو الرومانسية).
هذه هي الفترة التي جعلت من بيتهوفن ذلك الجسر بين الكلاسيكي والرومانسي وتميزت أعمالها بالعاطفة العميقة واللوعة وعمق التراكيب الموسيقية وسعيها للتمرد على قبضة التقاليد الموسيقية القديمة.
تشمل هذه المرحلة مجموعة جديدة من سوناتا البيانو، وعددها سبعة ومزيداً من الرباعيات الوترية إضافة إلى سيمفونيته التاسعة التي يذهب البعض إلى اعتبارها أهم أعماله على الإطلاق. ويذكر أنه خرج فيها على التقليد المتبع في السيمفونيات إذ أدخل الكورال في حركتها الأخيرة.
كما يذكر، أنه لما قدم سيمفونيته التاسعة هذه للجمهور لأول مرة، دوت القاعة بالتصفيق والهياج في ختامها. ولما أدير مقعده حتى يتمكن من رؤية رد فعل الحضور، راح يجهش بالبكاء بسبب عجزه عن سماع الضجيج الذي كان يعلم أنه يملأ المكان.
قلب كسير
على الرغم من النجاح المدوي الذي ناله بيتهوفن وعبور صيته حدود فيينا إلى أطراف أوروبا من سانت بطرسبرغ الروسية إلى لندن، فإنه عاش سنوات عمره الأخيرة كسير القلب، خصوصاً بعد ما أفقده القضاء الحق في رعاية ابن أخيه. وراحت حالته الصحية تتدهور حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بفيينا في 26 مارس (آذار) 1827. وسار في جنازته أكثر من عشرة آلاف شخص، في حدث لا سابقة له مع أي شخصية عامة أخرى مهما علا شأنها. وعلى الرغم من مرور قرنين ونصف القرن على مولده، فإن سيرته تتجدد بما لم يخطر على بال، ومن يدري ما ستأتي به البحوث التي بدأت في هويته الحقيقية.
نقلا” عن أندبندنت عربية