كتب : محمد أبوالفضل
يتصوّر البعض أن الصراع في إقليم تيغراي، والتوتّر الحدودي بين إثيوبيا والسودان، أزمتان وحيدتان في منطقة القرن الأفريقي، لأن الأضواء مسلطة عليهما، فهناك أزمة مثيرة بسبب ما يتردّد عن تدخل كبير لإريتريا في حرب تيغراي، وما تنطوي عليه من تداعيات بعيدة، وأخرى متفجرة بين نيروبي ومقديشو وصلت إلى حدّ سحب السفراء، فضلا عن أزمة الصومال الأم، المتشابكة مع الكثير من القضايا الإقليمية.
قضت التوتّرات الحاصلة الآن في إثيوبيا، ومع جارتها السودان، على جانب معتبر من التفاؤل الذي ظهر قبل عامين، منذ توقيع اتفاق السلام بين أديس أبابا وأسمرة، الذي رأت فيه دوائر عدة نواة للأمن والاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، ومقدمة لتدشين مشروعات تنموية واعدة بين دول من داخل الإقليم وخارجه.
غير أن التطورات الحالية أوقفت التفاؤل السابق، وفرضت على القوى التي راهنت على إمكانية طي الصفحة الماضية إعادة النظر في تصوراتها، الأمر الذي يشي بفشل التوجه نحو زيادة حصة الاستثمار، فالمنطقة لن تبارح حروبها المباشرة أو بالوكالة.
أكدت صعوبة تسوية النزاعات في هذه المنطقة أن أزماتها عميقة وممتدة، وتحتاج إلى غوص في جذورها، ولن تفيد معها الأمنيات والأحلام، فغالبية الدول تعوم في بحور من المشكلات الهيكلية، ولا يهم بعض قادتها تنمية أو استقرار بقدر ما يهمهم عدم زحزحة الأرض من تحت أقدامهم أو تبني تصورات تتصادم مع رؤاهم.
مشروعات متصادمة
في الوقت الذي كانت فيه الوساطات الخارجية عنصرا إيجابيا لإيجاد حلول لأزمات المنطقة، أسهمت في زيادة استنفار قوى تسعى لتثبيت نفوذها، وبدا منهج التسويات السياسية الصاعد مصدر قلق لها، وعملت على وقف زحفه بوسائل مختلفة.
ولذلك كانت هذه القوى من أكثر الجهات سعادة كلما انفجر صراع هنا أو هناك، لأنه يعزز فكرة أن استقرار القرن الأفريقي يصبّ في صالح الدول التي تعمل في هذا الاتجاه. الدول التي تعتقد أن المستقبل لمشروعات التعاون بدلا من ترتيبات الحرب.
كما أن الاستقرار نفسه وما يصطحبه من أمن وتنمية، يفرض على قيادات بعض دول المنطقة استحقاقات، تملصوا منها دوما بذريعة استمرار التهديدات، التي أصبحت من مصادر تكريس النفوذ، فالحصول على الهدوء بأي وسيلة يفتح أمام شعوب المنطقة طاقة لمطالبات سياسية تكاد تكون غائبة أو منسية وسط شيوع الصراعات.
لا يعني ذلك أن هناك افتعالا كبيرا للصراعات، لكن يعني وجود توظيف سياسي ملحوظ لها، خاصة أن بعض القيادات استمدت/ تستمد، استمرارها في قلب السلطة من هذا الباب، الذي يمكنها من اللجوء إلى التسويف.
فوتت دول القرن الأفريقي فرصة ثمينة خلال العامين الماضيين، والآن تواجه مآزق عدة، فلا توجد دولة قادرة على حلّ مشكلاتها
ومع أن إثيوبيا وإريتريا وقعتا اتفاق سلام أنهى فترة طويلة بينهما من التوتر، إلا أن البلدين لم يتخذا خطوات حقيقية لتعزيزه أو اصطحابه بحزمة مشروعات تنموية وسياسية تؤكد أهميته عمليا، بل وجدا في حرب تيغراي ملاذا لتقارب لا أحد يستطيع توقع أبعاده، لأن سيطرة الحكومة المركزية على الإقليم قد تمهّد لحرب جديدة، تتجاوز الحدود الظاهرة الآن، لاسيما إذا تداخلت مع ملفات وعرة في دول الجوار.
جاءت أزمة تيغراي فقط لتضاعف من التفاهمات بين إثيوبيا وإريتريا، ما يخدم الحرب ويجعلها مُقدمة على التنمية ودعائم السلام، كأن الصراع هو الذي يفرق بين الدول، وهو أيضا ما يمكن أن يجمع بينها.
في الحالتين توجد ضريبة باهظة يدفعها كل طرف، لا علاقة لها بأسس الأمن والاستقرار الحقيقي، ولا علاقة لها بالقواعد اللازمة للتنمية، ولا علاقة لها بالحسابات المنطقية لدى القوى، التي تكبدت عناء في سبيل عودة الهدوء للمنطقة.
من نكبات منطقة القرن الأفريقي أن الهشاشة التي تموج بها جذبت قوى عديدة إليها، نجحت في تكوين شبكات مصالح سياسية واقتصادية وعسكرية. فتركيا التي تملك أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال، تعمل عكس اتجاه استقرار هذا البلد. وقطر التي سارعت نحو توثيق علاقاتها مع عناصر محلية تريد الحافظ على وجودها.
تعلم أنقرة والدوحة أن الهدوء يسير عكس مصالحهما، فتعمل كلاهما على تغذية التوتر في مناطق صومالية مختلفة عبر دعم قيادات متطرفة، والتحريض على الاقتتال الأهلي، وقطع الطرق على أي تلاحم وطني يمكن أن يعيد النظر في دوافع وجودهما في البلاد، حيث تحوّل إلى مركز استراتيجي تمدّان منه البصر إلى دول مجاورة.
حلول متوازية
تتعثر جهود توفير الأمن والاستقرار في القرن الأفريقي، طالما أن هناك أجندات داخلية وخارجية لها أهداف معينة لا تتحقق إلا في ظل مواصلة التوترات، بالتالي غاب عن القوى، التي بذلت هذه الجهود أو وجدت بارقة أمل، في التوصل إلى سلام إقليمي، أن نقطة البدء تأتي بالتوازي بين حل المشكلات المتفاقمة في الدول مع إيجاد حل لأزمة التكالب على المنطقة واستغلال الفراغ فيها.
قد تكون هذه المعادلة عصيّة على التفكيك بسبب التداخل وعلاقات المصالح المتنامية، غير أنها بيت الداء، فكل الآمال المعلقة على تمهيد الأرض لجلب السلام ذهبت سدى مع وجود تقديرات ترى في الأمن تهديدا، وفي التنمية عائقا للطموحات في المنطقة.
أصبحت خطوات الاستفادة من الفوضى في المنطقة تسبق تحركات وقفها، وكلما زادت وتيرة الفوضى انتكست طموحات السلام، ومع كل انتكاسة يتسع نطاق الدول الراغبة في المنافسة، وباتت المنطقة فضاء رحبا يجذب إليه قوى متعددة، ترى أن الأمن لا يزال بعيد المنال ما يدفعها نحو التطلع إلى سد الفراغ خشية أن يملأه آخرون.
انتقلت لعبة الأمم الكبرى إلى منطقة القرن الأفريقي منذ سنوات، لكنها كانت قاصرة على الولايات المتحدة وروسيا، وإيطاليا وفرنسا، ولكلّ منها مناطق نفوذ معترف بها، حتى لو أدت المناوشات السياسية إلى تغذية صراعات بعينها.
تراجعت اللعبة الدولية في العقود الماضية، مع تغير الكثير من التوازنات في المنطقة، وحلت مكانها لعبة إقليمية قوامها تركيا وإيران وقطر من ناحية، والسعودية والإمارات ومصر من ناحية ثانية، ووسط هذه اللعبة ألقت الصين بثقلها العسكري والاقتصادي.
بدأت روسيا تنصب شباكها للاقتراب منها، وقد يكون ما أعلن حول إنشاء نواة لقاعدة عسكرية لها في بورتسودان على البحر الأحمر في نوفمبر الماضي، بداية لمقاربة تؤدي بها إلى المشاركة في عواصف القرن الأفريقي.
ويضاعف هذا التطور من حدة التوترات، فالولايات المتحدة التي تبنت خطا للانسحاب من مناطق كثيرة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التسلل الروسي الجديد، ما يشير إلى عدم استبعاد أن تشهد المنطقة فصلا من صراعات إقليمية تكاد تكون سمة عامة حاليا.
لقد فوّتت دول القرن الأفريقي فرصة ثمينة كان من الممكن البناء عليها خلال العامين الماضيين، والآن تواجه مآزق مفتوحة على احتمالات متباينة، فلا توجد دولة في المنطقة قادرة على حلّ مشكلاتها الداخلية، فما بالنا بالخارجية.
في ظل انتفاء النموذج الذي كان يُعول عليه في إثيوبيا أو جنوب السودان، حيث تتوالى الأزمات في كليهما، تبدو منطقة القرن الأفريقي مرشحة للمزيد من التوترات التي تتعامل معها أطراف عديدة على أنها حبل إنقاذ لأنظمتها، ما يجعل قدرتها على الإطفاء مكبلة بهذه النظرة الضيقة، ومقيدة بحرص قوى إقليمية على استمرار النزاعات.
المصدر : العرب اللندنية