استمرار هذا الاستقطاب في المستقبل ما لم يتم قطع الطريق عليه سيكون سبباً في جلب الكوارث والحروب
كتب : محمد جميل أحمد
في الوقت الذي يستشرف فيه الشعب السوداني الذكرى الثانية لانطلاق ثورته المجيدة في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018 عبر المواكب العظيمة التي تنادي بتصحيح مسار الثورة، وعلى رأسها موكب أمس، يبدو شرق السودان، للأسف، كما لو أنه استثناء من ذلك المزاج الثوري الذي يتقلب فيه السودان، ذلك أن صراع القوى الاجتماعية ذات النزعة القبلية في شرق السودان أصبح صوتها هو الصوت العالي، سواءً عبر نشاط ما سمي “المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة”، أو “الآلية التنسيقية لعمد قبائل بني عامر”، وهي للأسف كلها قوى محسوبة على النظام القديم (نظام البشير) بشكل، أو بآخر.
البنية التي تعكس هوية قبائلية للحياة الاجتماعية العامة في شرق السودان، والتسخين الذي شهدته تلك البنية على مدى 30 عاماً، هو الذي جعل من الشلل الإرادي لقوى الثورة في شرق البلاد يبدو أكثر من ظاهر.
وفي طبيعة قراءتنا لخطوط الاستعصاء الثوري الذي يرزح فيه الشرق، لا بد أن نستصحب تلك البنية وما تعكسه من نموذج للتخلف، الذي أراد المركز في الخرطوم أن يتخبط فيه شرق البلاد منذ الاستقلال، لأنه من دون استصحاب تلك البنية لا يمكننا تفسير طبيعة الإعاقات السياسية للحراك الثوري هناك.
إضافة إلى ذلك، وفي علاقة عضوية به أيضاً، كان تصميم الاقتتال الأهلي في شرق السودان بعد الثورة، عبر تخطيط اللحنة الأمنية وقوى الثورة المضادة، قد لعب دوراً في زيادة الاحتقان والاستقطاب بين القوى والمكونات الاجتماعية، وحفزها لأن تلتف أكثر حول هوياتها الخام كالقبيلة والعشيرة.
هكذا، سنجد أن الأحزاب السياسية التي تكفل نظام البشير بتدمير بنيتها وزرع الانشقاقات فيها طوال 30 عاماً، ولا سيما في الأقاليم، كانت بمثابة خط من خطوط الاستعصاء الثوري في جملة حراكها المشلول بعد نجاح الثورة في شرق السودان. فالأحزاب التقليدية (كالحزب الاتحادي الديمقراطي وحزب الأمة) والأحزاب العقائدية (كالحزب الشيوعي والإسلاميين) والأحزاب ذات الهويات الإثنية المناطقية (كمؤتمر البجا، وحزب التواصل) كل تلك الأحزاب أصبحت اليوم لا نكاد نسمع لها صوتاً في تلك المنطقة، في حين تتلمس أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط (كحزب المؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي) طريقها في الخريطة السياسية الجديدة في شرق البلاد بحذر شديد، في واقع أصبح فيه النشاط القبائلي السياسوي المحموم على إيقاع موجات من الاقتتال الأهلي وسرديات التضليل المضاد، لأسباب سياسوية في حق بعض المكونات الأصلية هناك، أصبح هو المزاج العام للأسف، والذي أثر حتى على طبيعة سياسوية لخيارات بعض الأحزاب.
وعلى الرغم من الأهمية الكبرى التي يمكن أن يناط بها دور لجان المقاومة الثورية في شرق السودان، فإن دورها، الذي هو في العادة دور يزدهر في واقع مستقر وآمن، بدأ ينكمش على وقع الاقتتال الأهلي الذي انخرطت فيه بعض المكونات المحلية في شرق السودان، وما صاحب ذلك من استقطاب قبائلي وعصبيات انحيازية أثر في خيارات الأفراد واستقلالهم ووعيهم المفترض بأدوار المواطنة وحقوقها. لهذا فقد أدى انكماش أدوار لجان المقاومة في ظل موجات الاقتتال الأهلي، لا سيما في مدينة بورتسودان التي شهدت خمس موجات اقتتال، خصماً على مسار الثورة وتعطيلاً لمشروعها. ولهذا على الرغم من الواقع الذي يعج باستقطابات قبائلية في شرق السودان، لا بد للجان المقاومة من تحمل مسؤولياتها ليس فقط في العمل الثوري باعتباره زخماً وطنياً منفعلاً بالمركز فحسب، بل كذلك من خلال إصرارها على احتلال المجال العام وعدم تركه للقبائليات والعصبيات التي تعمل على شل الثورة، إضافة إلى قيادة مبادرات صلح أهلي واستعادة زمام العمل الثوري. إن الافتراض الذي ربما اقتنع به كثير من الناشطين في قوي الثورة بشرق السودان والذي مفاده: بما أن هذه الصراعات بين القبائل التي تحدث صراعات ليس للجان المقاومة دخل في الخوض فيها إيجاباً، ليس افتراضاً صحيحاً، لأن أي تفكير صحيح في أسباب ذلك الاقتتال والاستقطاب القبائلي، ستقود نتائجه إلى قناعة بأن هناك مخططاً يستهدف الثورة وحقوق المواطنين والهوية المدنية لشرق السودان، وكل تلك الاستهدافات عنوانها اليوم هو التسريع المستمر في المزيد من زرع الفتن وتجديد الاشتباكات الأهلية، عبر تخطيط قوى الثورة المضادة التي لا تزال تعمل بكل جرأة في شرق السودان، وخصوصاً في مدينة بورتسودان، على الرغم من وجود والٍ يفترض فيه أن يعكس المزاج الثوري للمدينة، وأن يعمل على اقتلاع اللجنة الأمنية التي لعبت أدوراً خبيثة في ضرب الاستقرار شرق البلاد، ولا سيما مدينتي بورتسودان وكسلا.
اللجنة الأمنية، وخصوصاً في كل من ولايتي البحر الأحمر وكسلا، هي العدو الأول للثورة في شرق السودان، وهي في تخطيطها لذلك تعرف تماماً أن مزاج التعصب القبلي العالي في تلك المنطقة هو مزاج قابل للتفجير، ولذلك تشتغل عليه بخبث ومكر، مستغلةً في ذلك تاريخاً من السلطة والإدارة الأمنية للشرق في ظل نظام المخلوع عمر البشير. وعليه، نرى أنه في ظل غياب أي نشاط مدني وسياسي متكامل من قوى الثورة كافة، وعلى رأسها لجان المقاومة في كسلا وبورتسودان، لا يستهدف العمل من أجل إسقاط اللجنة الأمنية، فلن يكون هناك واقع سياسي يعبر عن الثورة في شرق السودان، لذا على كل القوى المدنية والسياسية المنظمة ولجان المقاومة، أن يكون شعارها ونشاطها في شرق السودان مجتمعاً على الدعوات المتواصلة لإسقاط وإقالة اللجنة الأمنية التي كان من المفترض أن يقيلها الوالي الجديد لولاية البحر الأحمر عبد الله شنقراي، ولكن هذا للأسف لم يحدث حتى الآن، وهو أمر سيعوق الحراك الثوري في الشرق، وسيجعل منه مرتعاً للاستقطاب القبائلي باستمرار، وصولاً إلى حرب أهلية شاملة، لا سمح الله.
وهو مجلس يرأسه ناظر واحد (وليس كل نظار البجا وعمودياتهم كما يوهم عنوانه) وينطلق في حراكه السياسوي المضلل من منطلقات عنصرية وإقصائية، تعتبر امتداداً لأعمال النظام السابق في ممارسة السياسة عبر القبائلية، لكن ما زاد الطين بلة هو أن المجلس استتبع معه بعض قادة مؤتمر البجا، مثل موسى محمد أحمد، وبعض عناصر النظام السابق للإخوان المسلمين في البحر الأحمر، مثل المدعو سيد علي أبو آمنة، وأصبح هذا المجلس بمثابة حجر عثرة للعمل الثوري عبر ما يضخه من خطاب للكراهية، سمم أجواء السلم الأهلي ولعب دوراً بارزاً في استقطاب القبائل في الشرق، عبر سرديات مضللة وأفكار مغلوطة ومضادة لمبادئ الدستور والمواطنة، الأمر الذي يعكس لنا مدى الأزمة التي أصبحت عليها اليوم تلك الناحية من السودان، بحيث أصبح هذا الشرق هو الإقليم الوحيد الذي ليس لديه تمثيل حتى الآن في (مجلس شركاء المرحلة الانتقالية) لأن العناصر كافة التي تنشط في هذا المجلس، عناصر ليست لها علاقة بالثورة، بل هي خصم للثورة.
وهذه الآلية هي جسم قبائلي سياسوي مُوازٍ للمجلس الأعلى لنظارات البجا، وهي كذلك امتداد لنشاط التسييس القبائلي الذي صممه النظام البائد، وجزء منها حلفاء لخالد شاويش الذي هو أحد قادة مسار شرق السودان المثيرين للجدل، كما أن سعى الآلية عبر استقطاب أبناء القبائل والزج بهم في صراع سياسي، لا يؤهلها للاضطلاع باستحقاقات عمل سياسي دقيق تحتاج إليه المرحلة الثورية الجديدة.
والغريب في الأمر هو أنه في الوقت الذي أدرك فيه أغلب نظار القبائل في شرق السودان أن المسبب الذي زج بهم في عملية التسييس (نظام عمر البشير) قد زال، وبالتالي عرفوا أنهم غير قادرين على الاستجابة لتحديات مرحلة سياسية ليسوا أهلاً لها، نرى تلك الأجسام التي تأسست بعد الثورة (كالمجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة، والآلية التنسيقية لعمد قبائل بني عامر) تحاول أن تستعيد تجريب المجرب، ما يدل على أن الخراب المديد لنظام الإنقاذ في تدمير البنية السياسية لشرق السودان كان كبيراً.
في تقديرنا، الذكرى الثانية لثورة 19 ديسمبر (كانون الأول) هي مناسبة قوية في شرق السودان، لكي تهب القوى الثورية من أحزاب سياسية، ولجان مقاومة، وقوى المجتمع المدني الأخرى، لتستعيد زمام المبادرة في المجال العام، وتشحذ جميع طاقات المواطنين الذين هم الأغلبية الصامتة هناك، وأصحاب المصلحة الحقيقيين في مبادئ الثورة في العدالة والسلام والحرية. ولحسن الحظ لقد لاحظنا أمس تظاهرة كبيرة للجان المقاومة في مدينة بورتسودان بمناسبة الذكرى الثانية.
ليكن واضحاً للجميع، وخصوصاً لجان المقاومة في شرق السودان والقوى المدنية الأخرى، أن ترك المجال العام لنشاط العنصريين من أمثال قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا وغيره سيكون خصماً عليهم، وسيؤدي بهذا الشرق إلى هاوية مؤكدة لن ينجو منها أحد. إن قوة الشعب في أي إقليم هي جزء من إدراكه لمصالحه ولوعيه الثوري الذي يسعى من أجل تحقيق تلك المصالح المتعينة، كالسلام والحرية والعدالة، ولهذا فإن شعب شرق السودان هو اليوم جميع مكونات مواطنيه، وأن أكبر عنوان سياسي اليوم لأولئك المواطنين هو: لجان المقاومة والأحزاب السياسية والقوى المدنية، فلا بد من دعم هذه القوى لأنها صمام الأمان للثورة. وبغيرها لن تتحقق أهداف الثورة في شرق السودان، وسيظل عرضةً للاستقطاب القبائلي والعصبيات الضيقة، ما يعني أن استمرار هذا الاستقطاب في المستقبل، ما لم يتم قطع الطريق عليه، سيكون سبباً في جلب الكوارث والحروب إلى الشرق، وغني عن القول إنه إذا ضاع شرق السودان فعلى الثورة السلام في الخرطوم!
نقلا” عن أندبندنت عربية