كريتر نت – العرب
عرفت أوروبا الكثير من التحولات خلال فترة ما بعد الربيع العربي على مختلف الصعد الإنسانية والأمنية والسياسية، ما أرغم أوروبا على الدخول في مواجهات عديدة، ولاسيما في ما يخصّ ملف الهجرة غير النظامية التي كانت لها انعكاسات مباشرة على الداخل الأوروبي الذي بات مهددا أكثر من أي وقت مضى بالانقسام. ومثلت الثورات التي اندلعت في العديد من الدول العربية اختبارا جادا لقيم القارة العجوز التي لطالما دافعت عن الحرية والديمقراطية.
لندن – بعد مرور عقد على انطلاق ما عرف بـ”الربيع العربي”، بدا جليا أن رياح التغيير هبّت على القارة الأوروبية أيضا، بسبب تداعيات وانعكاسات المشهد الجديد والمضطرب في المنطقة العربية، على أمن واستقرار ووحدة أوروبا.
وتحيي العديد من الأقطار العربية خلال هذه الأيام الذكرى العاشرة لانطلاق انتفاضات الربيع العربي وذلك رغم ما أعقبته من أحداث، حيث لا تزال العديد من هذه الدول غارقة في الفوضى على غرار ليبيا وسوريا واليمن، بينما تشهد دول أخرى ديمقراطية مثل تونس، صعوبات في تأمين المرحلة الانتقالية بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وأشارت أنشال فوهرا، الباحثة المختصة في شؤون الشرق الأوسط في تقرير لها بمجلة “فورين بوليسي” إلى أن “ثورات الربيع العربي كان لها تأثير كبير على أوروبا”.
وتشكل مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي، والانقسامات في السياسة الخارجية وصعود اليمين المتطرف، أبرز تداعيات الربيع العربي على القارة. وحسب رأي فوهرا فإن “ثورات الربيع العربي لم تفشل في جعل الدول العربية أكثر استقرارا فحسب؛ بل جعلت الدول الأوروبية أيضا أقل استقرارا”.
وتبين الباحثة أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان جزئيا ردّ فعل على أزمة اللاجئين، التي أثارتها الانتفاضة السورية، والحرب الأهلية اللاحقة، كما أن الأحزاب السياسية الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا استفادت من المخاوف المتزايدة من “الإسلام والتطرف”. وبسبب أزمة اللجوء، وتهديدات الجماعات المتطرفة للأمن القومي، طرأت تغييرات كبيرة في الخارطة السياسية الأوروبية على مدار السنوات التي تلت قيام الثورات العربية.
انقسامات حول الهجرة
في الوقت الذي تحيي فيه العديد من الدول ذكرى انطلاقة موجة الاحتجاجات التي اندلعت في 2011 من تونس قبل أن تمتدّ إلى مصر وليبيا وسوريا واليمن وغيرها من الدول، يواجه الاتحاد الأوروبي تحديّا لافتا يتمثل في الحفاظ على وحدته، ولاسيما بعد مغادرة بريطانيا للتكتل نهائيا.
وأحدثت معالجة ملف الهجرة انقسامات في السياسة الأوروبية، خاصة مع صعود نجم الشعبويين.
وفي العام 2015، وجدت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أنه من المشين حرمان السوريين الذين دُمّرت منازلهم ومدنهم بأكملها في موجة قصف جنونية من قبل نظام الرئيس بشار الأسد وحليفته روسيا.
وفتحت ميركل أبواب ألمانيا أمام اللاجئين، ودخلها ما يقرب من مليون شخص. وأشاد الكثيرون، خاصة الحقوقيين، بهذا القرار باعتباره الشيء الصحيح الذي ينبغي القيام به. لكن تداعياته كانت بعيدة المدى.
وقالت إيما سكاي، الزميلة في معهد جاكسون بجامعة ييل، إن “الحد من الهجرة كان الدافع الرئيسي للقرار البريطاني بمغادرة الاتحاد الأوروبي”، مشيرة إلى “استغلال الشعبويين ملف الهجرة في تحقيق مكاسب سياسية”.
وتابعت سكاي “نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال اليميني المتطرف مثلا تم تصويره وهو يقف أمام ملصق ضخم للاجئين السوريين على الحدود بين سلوفينيا وكرواتيا. كانت الرسالة واضحة: ما لم تغادر بريطانيا الاتحاد الأوروبي واستعادت السيطرة على حدودها، سيتدفق اللاجئون إلى بريطانيا”.
بموازاة ذلك، كانت هناك تغطية إعلامية متواصلة تنقل الاشتباكات بالمخيم المؤقت في كاليه بين الشرطة الفرنسية والمهاجرين اليائسين لمنعهم من الوصول إلى بريطانيا.
ومع قيام مئات الآلاف من اللاجئين بالسير وركوب القوارب وقضاء شهور وسنوات في معسكرات ضيقة للوصول إلى برّ الأمان، رأى الشعبويون، الذين كانوا على الهامش في السياسة الأوروبية، فرصتهم حيث قاموا باستغلال مخاوف العديد من الأوروبيين من أن وظائفهم قد يحصل عليها اللاجئون أو أن وجود أناس من ثقافات مختلفة، وفي الغالب من دين واحد وهو الإسلام، قد يغيّر أسلوب حياتهم.
وتشير الباحثة فوهرا، إلى أن “نتيجة لذلك نشأ العداء تجاه اللاجئين من الإسلاموفوبيا المتأصلة بعمق في أذهان العديد من الأوروبيين”.
وتضيف “مع ذلك، فإن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق وسوريا، وسلسلة الهجمات الإرهابية التي نفذها أعضاء الجماعة أو مؤيدوها في أوروبا، ساعدت الشعبويين أكثر. وأدت الهجرة إلى تفاقم المخاوف من هجمات المتطرفين وغيرت وجه السياسة الأوروبية، ربما إلى الأبد”.
وينقسم النظام السياسي بشكل عام بين أولئك الذين يشعرون بالميل أخلاقيا لمساعدة اللاجئين وأولئك الذين يرونهم عبئا، وكذلك بين أولئك الذين يفرقون بشدة بين الإسلام والتطرف الإسلامي، وأولئك الذين يرفضون الإسلام بشكل عام.
كما اختبر العقد الماضي قيم السياسة الخارجية الأوروبية المعلنة، التي تدافع عن الحرية والديمقراطية ولكنها تفتقر بشكل متزايد إلى الإرادة للترويج لهما في الخارج. ويشعر العديد من الشباب العرب الذين يتطلعون إلى أوروبا بخيبة أمل، ويرون أن الحكومات الأوروبية تخدم مصالحها الذاتية قبل كل شيء.
قيم على المحك
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان جزئيا ردّ فعل على أزمة اللاجئين، التي أثارتها الانتفاضة السورية، كما أن الأحزاب الشعبوية في جميع أنحاء أوروبا استفادت من المخاوف المتزايدة
مع اندلاع موجة العنف التي هزت استقرار العديد من الدول العربية وما نتج عن ذلك من تنامي لنشاط الجماعات المتطرفة، أصبحت أوروبا تميل أكثر نحو تغليب مصالحها خلال أي تحرك من خلال دعم الاستقرار في بعض الدول كمصر وغيرها دون التطرق إلى مسألة الديمقراطية وسجّل حقوق الإنسان المثير للجدل.
وعكست زيارة الرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، إلى فرنسا مؤخرا وما تمخض عنها، رهان باريس على الحفاظ على مصالحها بالرغم من الضغوط التي تكرسها جماعات حقوقية ووسائل إعلام من أجل إثارة واقع حقوق الإنسان في مصر خلال لقاء ماكرون والسيسي.
وبدا ماكرون واضحا عندما قال إنه لن يضحي بالمصالح الفرنسية لأجل “خلافات في الرأي”، أي لأجل تقييم واقع حقوق الإنسان في مصر.
وحسب رأي جوليان بارنز – داسي، مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن “الربيع العربي قدم فرصة لإعادة تشكيل التطورات على أرض الواقع، لكن أوروبا فشلت في تحقيق ذلك”.
وقال “تركز أوروبا فقط وبشكل متزايد على تحديات الأمن والهجرة مع تراجع الثقة في أي قدرة على دفع النظام السياسي في المنطقة نحو اتجاه أكثر إيجابية”.
كما حتّم دخول تركيا على خط التوترات في بعض الدول العربية على أوروبا دعم قادة آخرين لا يتبنون الديمقراطية، فالمهم بالنسبة إلى هؤلاء الحفاظ على الاستقرار لتطويق ظاهرة الهجرة غير النظامية وكذلك خطر الجماعات الجهادية.
وفي ليبيا، أطاحت فرنسا مع تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة بريطانيا، بالعقيد الراحل معمر القذافي. ولكن، نظرا إلى أن فراغ السلطة أدى إلى نشوب نزاع بين الفرقاء الليبيين في شرق وغرب البلاد، فقد انزلقت ليبيا في حالة من الفوضى.
وبعد طي صفحة القذافي، كان من المتوقع أن تدير أوروبا التداعيات وتقود ليبيا نحو انتقال سياسي ديمقراطي. لكن موقفها كان غير فعال لأنه ليس لديها مصلحة ولا خطط لتحقيق الاستقرار في البلاد.
ويدعم الأوروبيون بشكل ظاهري عملية سلام بوساطة الأمم المتحدة، لكن بعض سياساتهم تطيل الحرب الأهلية حيث تفيد التقارير أن ألمانيا، على سبيل المثال، باعت أسلحة لكلا الطرفين المتحاربين في الصراع الليبي، وفي نفس الوقت تزعم أنها لا تدعم أيا منهما من الناحية السياسية.
ويعتقد يوست هيلترمان، وهو مدير برنامج مجموعة الأزمات الدولية للشرق الأوسط، إن “أوروبا أساءت فهم طبيعة الربيع العربي منذ البداية كحركة تتجه نحو الديمقراطية”.
وأضاف هيلترمان “لم يكن الناس في الساحات يحرضون على الديمقراطية في المقام الأول، لكن الأوروبيين أرادوا ذلك. أراد المتظاهرون حكما أفضل بشكل كبير، وإذا فشلوا في ذلك، أرادوا الإطاحة بالأنظمة الفاسدة. وعندما أسفرت الاحتجاجات عن نتائج عنيفة وفوضوية، أصبح الأوروبيون أكثر حذرا، وألقوا باللوم على الإسلام في غياب التقدم الديمقراطي، وشددوا الضوابط الحدودية ضد اللاجئين والمهاجرين، الذين اشتبه في أنهم جهاديون يحاولون الوصول إلى أوروبا. وفي النهاية، أعادت الحكومات الأوروبية تبني نموذج الاستقرار الذي أدى في نهاية المطاف إلى اندلاع الانتفاضات الشعبية في المقام الأول”.
مراجعة السياسة الخارجية
تدفع العديد من التنظيمات السياسية في دول أوروبية نحو إعادة النظر في سياسات بلدانها الخارجية، ولاسيما في ما يتعلق باللاجئين المتواجدين في ألمانيا وكذلك استئناف التعاون الاستخباراتي مع بعض الأنظمة على غرار نظام الرئيس بشار الأسد.
وفي ما يتعلق بسوريا، يتوحد الموقف الأوروبي نوعا ما، ووفرت القارة الأموال لإعادة الإعمار مشروطة بالتحول السياسي على غرار قرار الأمم المتحدة عدد 2254 الذي يدعو إلى إشراك المعارضة في السياسة السورية، والإفراج عن السجناء السياسيين، والمساءلة عن جرائم الحرب.
لكن وراء الأبواب المغلقة، دعا الشعبويون في إيطاليا وعدة دول أخرى إلى استئناف العلاقات مع نظام الأسد. وبينما تريد إيطاليا التنسيق مع أجهزة مخابرات الأسد بشأن المتطرفين الذين ربما عبروا حدودها، يؤكد حزب المعارضة الألماني الرئيسي البديل لألمانيا، أن السوريين آمنون في عهد الأسد وقد حان الوقت لمغادرة اللاجئين. وبدلا من تغيير النظام، خففت أوروبا من توقعاتها فقط لتغيير سلوك النظام.
وحسب رأي أوليفييه غيتا، رئيس شركة أمنية تقدم المشورة إلى الحكومات في أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط، فإن رفض أوروبا التدخل عسكريا في سوريا هو الخطيئة الأساسية التي دفعت مسلمي أوروبا إلى أحضان تنظيم داعش.
ويستنتج المتابعون أنه حين اندلعت الاحتجاجات الشعبية في عدد من الدول العربية قبل عقد من الزمن، فشلت الحكومات الغربية في التقاط زمام المبادرة والمساهمة في تلبية تطلعات الشعوب إلى الحرية والديمقراطية، وفوّتت بهذا التلكؤ فرصة غير مسبوقة لهندسة إصلاحات حقيقية.
واستشهد هؤلاء بتعثر مسار الحل السياسي في ليبيا رغم الجهود الدولية ومبادرات الحوار على أكثر من جبهة، والتي تشارك فيها أوروبا، إضافة إلى الانقسامات بشأن التدخل العسكري في سوريا من عدمه.
وحكم نظام البعث السوري بقبضة من حديد ولم يسمح أبدا لأي معارضة سياسية ذات مغزى بالظهور. وجعلت الحقائق على أرض الواقع من الصعب على أوروبا والولايات المتحدة تنفيذ عملية عسكرية نهائية ضد نظام الأسد.
وعلى الرغم من كل إخفاقاتها، فقد أرسلت أوروبا المليارات من الدولارات كمساعدات وظلت ثابتة في الحفاظ على بعض حركات المجتمع المدني التي انبثقت عن الربيع العربي.
ويخلص مدير برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية بارنز – داسي، بالقول “يبدو أن الدرس الحقيقي هو أن الإصلاح الهادف يحتاج إلى رؤية طويلة المدى للتغيير، وهي فكرة تركز بشكل أكبر على ترسيخ التحول من القاعدة إلى القمة بدلا من سحب البساط فجأة من تحت أقدام الأنظمة الحالية”.