كتب : أحمد عبد اللاه
انحبس العالم بين جدران غليظة وتوقفت عقارب الساعة في روح الزمن حتى ظن الناس أنه تجمد في صورة فوتوغرافية قاتمة ليجدوا أنفسهم يرددون سؤلاً واحداً لا غير: متى ستكمل دورتك المؤلمة حول الشمس أيها الجرم الفلكي؟ كأن لياليك بكل مغار الفتل شدّت بقمة “أوليمبوس” المريخية!
في عالم ٢٠٢٠ بدت السماء وكأنها قريبة من رؤوس الأحياء.. ليس بروح غيماتها الندية وانما بفزع الناس الى ما احتفظ به ربُّ المشرقين وربُّ المغربين لذاته. لقد أصيبوا بالهلع والبؤس وغمرهم احساس بأنهم قد يصبحون على مقربة من مقدمات الانقراض الجماعي السادس في تاريخ الحياة على هذا الكوكب… فيما تخيل آخرون، في غمرة الوهن الإنساني، وكأن أجسادهم تطفوا على سطح تيار بارد مثل غثاء بيولوجي.
مقاربات سوداوية خيمت على أذهان الناس حول ما سيحدث في أيامهم القادمة دون أن يحتاج أحد منهم الى جلاء بصري فكل شي حاضر “وعما قليل سيكون لهم حاضر آخر” سبق وأن تحدث به في الماضي القريب أصحاب النبوءات المشئومة لولا “لعنة كاساندرا” التي تسللت من عصور الخرافة إلى عالمهم (الأصلي) المتحضر.. فلم يلتفت إليهم أحد!
لقد حلت واحدة على الأرض وبدأ اسمها يتردد في الشاشات بكل لغات العالم.. تنقلها أخبار الجرائد بصمت عال وكأنها نار تتسلل من شقوق مخيفة.
الجائحة تنبض تحت الشمس وها هو العالم يشاهد عرضاً حيّاً لتراجيديا الرحيل في كل بلد.. لا طقوس لا مراسيم لا جنائز، لا وقت لكل ذلك ولا سبيل لأحد بأن يقترب.. مشاهد لا حصر لها.
لكن وحدها شرفات روما تحاول، بصورة مدهشة، أن تواجه حالة الخوف، الذي لف الكوكب باثوابه الداكنة، حين تقرر أن تكسره بأوتار قيثارة.
هل كانت هي روما؟ لا هوية للمكان لولا الشرفات.. ولم يعد هناك فرق بينها وبين طليطلة أو قرطاج أو سمرقند إلا بالوجع.. فالعالم تجمعه حالة انتظار واحدة، والاغاني في نوبات الهلع والذهول تبدو كأنها أناشيد حياة منتظمة لكائنات اسطورية أو كأنها تصعد من حناجر “خورس” خلف مسرح خفي قد يقع في قلب عالم ميثولوجي، أو ربما يعوم على المتوسط أو يختبئ في دغل على المنحدرات الجنوبية لجبال الألب. أصوات تزهو باحزانها العالية لتمسح دموع اولئك الذين يقفون خلف شبابيك “الوداع” الرهيب لمن رحلوا قبل أن تكتمل الصلوات من أجل شفائهم، ويلوحون بأيديهم الى عربات داكنة وهي تحمل في موكب صامت توابيت باردة في شوارع خالية لا “يخرج إليها الياسمين من الحدائق”.
ذلك المشهد فاقت رمزيته بكثافتها وعمقها كل الأعمال الدرامية بجميع قوالبها المختلفة منذ حضارة الإغريق حتى زمن الكورونا.
ينسحب عام ٢٠٢٠ وكأنه مشرط مرّ على جسد وما يزال امتداده يذهب إلى القادم الغامض دون أن يعرف أحد هل سيتلاشى فيه أم يستزيد منه ليتضاعف مداه.
لقد كان ٢٠٢٠ عام “فيروس كورونا”، الزلزال البيولوجي الذي وضع أمماً في الحجر ورسم في ذروته حدوداً جديدة غير مسبوقة وعطل الكثير في الحياة وأربك إيقاعاتها وقبل ذلك ازهق ملايين من الأرواح وما تزال ارتداداته خطرة وغامضة.. لكن مع ذلك “لا يتبعنا” في العمر الباقي إلا شرفات ايطاليا واناشيدها ولحنها وأوجاع أوتارها وأقمارها الشاحبة الحزينة لتظل بروازاً للذاكرة حين لا تنسى من مكثوا في أبديتهم حتى يأذن لهم إله القيامة بالنهوض ثانيةً.
ظهر إنسان ٢٠٢٠ (في نطاق زمني مختلف) من بين المآسي بصورته المجردة عن كل اشيائه المكتسبة إلا الضرورية منها.. وأظهر، رغم الخوف، و في مواقع كثيرة قدراته على المواجهة.. لقد أثبت بأنه ليس مجرد “حثالة كيميائية” وأنه في المقابل أيضاً لا يعيش احلام الدناصير بل لديه ما هو أعظم من ذلك بكثير.. العقل والقيم والقدرة على التضحية من أجل الآخرين.