كريتر نت – العرب
تجد فرنسا نفسها في خضم استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب في الساحل الأفريقي مضطرة إلى التماهي مع ما يتماشى مع مصالحها للحصول على مكاسب، ما بدا في الظاهر ترويجا لنجاحاتها ضمن قوة برخان لكنه يفتح الباب أم توريط حلفائها في المنطقة مثل مالي والنيجر من خلال مواجهة الجهاديين بمفردهم بشكل مباشر، الأمر الذي قد يزيد من تعقيد أي مهمة لدحر الجماعات المتشددة التي من الواضح أنها باقية وتتمدد.
باريس – يظل حزام الساحل الأفريقي، الذي يفصل شمال القارة عن بلدان جنوب الصحراء الكبرى وهي موريتانيا وتشاد ومالي والنيجر وبوركينا فاسو، إلى حد بعيد خارج مجال الرادار الدولي رغم الجهود التي تقودها فرنسا ضمن قوة برخان لمكافحة التهديدات الإرهابية.
ففي تلك المنطقة يموت الجنود كل أسبوع تقريبا في عمليات تنفذها مجموعة البلدان الخمس الكبرى (جي 5)، التي أوكل إليها تحت المظلة العسكرية الفرنسية جعل هذه المنطقة الأساسية لشمال غرب أفريقيا في مأمن من الإرهاب الجهادي مؤقتا.
وتكبدت قوة برخان الفرنسية المتمركزة في مالي لمواجهة الجهاديين في الساحل الأفريقي خسائر كبيرة منذ انتشارها هناك في العام 2013، ورغم ترويج باريس للنجاحات التي حققتها في العام الماضي، إلا أن النكسة التي تعرضت إليها استراتيجيتها تبدو في مقدمة الدوافع التي جعلت وزيرة الجيوش، فلورانس بارلي، تعلن أن بلادها ستخفض قوتها في المنطقة.
وتلقّت تلك القوّة ضربة جديدة في مالي السبت الماضي، مع مقتل جنديّ وجندية من عناصرها في هجوم بعبوة ناسفة، وذلك بعد مقتل ثلاثة جنود الاثنين في ظروف مماثلة.
ترتيب الأولويات
فلورانس بارلي: سنضطر على الأرجح إلى تعديل انتشار جنودنا في الساحل
لا يقتصر التحدي الذي تواجهه قوة كهذه على مالي بعد مقتل خمسة جنود فرنسيين مؤخرا، ففي بوركينا فاسو المجاورة ما زالت قوات الأمن عاجزة عن وقف تقدم الجهاديين، في وقت أعلنت فيه مجموعات جهادية عن اندماجها.
كما أن النيجر تشكل مسرحا لاستهداف المتطرفين، والذي كان آخرها مقتل مئة شخص في هجمات على قريتين في غرب البلاد، في ما قد يكون أسوأ مجزرة بحق المدنيين في البلد الذي تستهدفه مجموعات جهادية ويشهد انتخابات رئاسية.
ومن الواضح أن فرنسا تمارس ضغوطا على حلفائها من خلال تهديداتها بسحب قواتها المتمركزة في مالي، ليس ذلك فحسب بل وأيضا تضغط على شركائها الأوروبيين الذين تعتبرهم مقصرين في مواجهة الجماعات الجهادية هناك، على الرغم من الدعم اللوجستي لهذه الدول.
وتريد باريس من شركائها الأفارقة دورا أكبر في عمليات مواجهة الجهاديين بسبب تكبدها بمفردها الخسائر الأكبر في العتاد والرجال، ومن المؤكد أن أي خطوة لتخفيض قواتها في الساحل الأفريقي ستورط دولا مثل مالي والنيجر في مواجهة المتشددين.
وخلال مقابلة مع صحيفة “لو باريزيان”، الاثنين، قالت بارلي “سنضطر على الأرجح إلى تعديل هذا الانتشار، فالتعزيزات بحكم تعريفها، إجراء مؤقت”، بعد إرسال تعزيزات قوامها 600 جندي ليصبح عديد القوة 5100 جندي في العام الماضي. وكشفت أن القرار سيتخذ في القمة المشتركة المقبلة بين فرنسا ودول الساحل الخمس الكبرى في فبراير المقبل في نجامينا.
ورغم أن الوزيرة اعتبرت أن قوة برخان حققت في العام 2020 “نجاحات عسكرية كبيرة سواء من خلال قتل عدد من كبار المسؤولين في الجماعات الإرهابية أو من خلال مهاجمة سلاسل التوريد الخاصة بهم”، غير أن بعض المراقبين لما يحدث يرون أن ذلك لا يعكس الحقيقة، فالجماعات الجهادية لا تزال تنشط بشكل كبير.
وتعتمد الإستراتيجية العسكرية الفرنسية في مالي على شقين، كما قال رئيس الأركان الفرنسي الجنرال فرنسوا لوكوانتر، أولهما إضعاف الجماعات الجهادية “ما يسمح بجعلها في مستوى القوات المسلحة المالية التي يجب أن تواجهها بمفردها أو بمواكبة أقل من قوة برخان” الفرنسية لمكافحة الجهاديين.
وكانت فرنسا قد أعلنت قبل أسابيع أن زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الجزائري عبدالمالك دروكدال، قتل في شمال مالي في يونيو الماضي، كما أعلنت في نوفمبر الماضي تحييد با أغ موسى، الذي وصفته بأنه “القائد العسكري” لـ”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” و”أحد الكوادر التاريخيين للتيار الجهادي في منطقة الساحل”.
ومع ذلك يؤكد كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في باريس أن الأوضاع الأمنية في الساحل لا تزال صعبة ووصفوا أن الإرهابيين يستخدمون “سلاح الجبناء” وأن هذه الأجهزة محلية الصنع يتم تفعيلها من دون تمييز بمرور المركبات المدنية والعسكرية.
وقد اعتبرت وزيرة الجيوش الفرنسية في تصريحاتها أنه “إذا تبنى الجهاديون هذه الأساليب المؤذية الخاصة بحرب العصابات، فذلك لأنهم يرفضون القتال، مدركين أنه لن يحالفهم الحظ إذا اضطروا لمواجهة جنود برخان في قتال منتظم”.
عبء مضاعف
تبدو القوات المشتركة لدول الساحل الخمس، التي تشكّلت في العام عام 2017، عاجزة أمام تصاعد قوة هذه الهجمات، في ظلّ تنافر هذه القوات ونقص تسليحها وسوء تشكيلها، فضلا عن تأخر دفع مساعدات وعد بها المجتمع الدولي. ولم تتلق القوة المشتركة سوى 300 من أصل 400 مليون دولار تم التعهد بها العام الماضي.
وهذا الوضع يضاعف الأعباء بغض النظر عن تمكن فرنسا من السيطرة على عمليات للجهاديين في شرق مالي في السنوات الأولى من دخولها المنطقة، حيث تبدو غير قادرة اليوم على منع النزاع من التمدد. ورغم تكثيف الفرنسيين لعملياتهم المضادة، فإن النجاحات العسكرية ليست بالقدر الكافي.
وحتى سنوات قريبة كانت مكافحة المتشددين تقتصر على جماعات بعينها وهي معروفة مثل جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وهي التحالف الجهادي الرئيسي في مالي وتنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، ولكن مع بروز جماعات موالية لتنظيم داعش بدأت الأمور تتحول نحو الأصعب.
وقد ظهر ذلك من خلال كلام وزيرة الجيوش بارلي، السبت الماضي، في بيان حين قالت “ما زال اندفاع الجنود الفرنسيين وتفانيهم وروحهم القتالية على حالها ضد الجماعات الإرهابية وشبكات داعش والقاعدة التي تبث الرعب والفوضى في مالي والساحل”.
وكانت باريس قد أعلنت في يناير الماضي أن داعش في الصحراء الكبرى هو العدو الرقم واحد وأنه ما من مفاوضات ممكنة معه وأنه لا أحد يطلب ذلك في المنطقة، وتبقى المسألة أكثر تعقيدا مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي أعلنت ولاءها لتنظيم القاعدة.
وذكرت تقارير استخباراتية وتحليلات لمراكز أبحاث غربية أن داعش سيتوسع على الأرجح في وسط أفريقيا وربما تكون المنطقة إحدى المناطق التي سوف يسعى التنظيم إلى تعزيز نفوذه فيها خلال العام القادم، مستنداً في ذلك إلى وجود مجموعات موالية له في غرب أفريقيا، على غرار جماعة بوكو حرام النيجيرية.
وقد كان لافتاً في هذا الصدد الهجوم الواسع الذي شنه التنظيم على سجن كانغباي المركزي في الكونغو الديمقراطية، في العشرين من أكتوبر الماضي، والذي أسفر عن فرار أكثر من 1300 من السجناء.
وأعلنت مجموعة الجهادي عدنان أبووليد الصحراوي، التي بايعت تنظيم داعش في منطقة الساحل الأفريقي قبل عامين أنها تتعاون ضد القوة المشتركة المؤلفة من خمس دول لمنع تمركزها في المنطقة.
وتبنت المجموعة التي تطلق على نفسها تسمية “تنظيم الدولة في الصحراء”، مجموعة من الهجمات بمنطقة الساحل وخصوصا ضد قوة برخان في مالي. وتنشط هذه الجماعة في منطقة المثلث الحدودي بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث تتركز عمليات القوة المشتركة لدول الساحل الأفريقي، فيما أشارت تقارير أمنية غربية إلى وجود تعاون ميداني معزز بين مختلف الجماعات الجهادية في منطقة الساحل.
وعلى الرغم من تشتت الجماعات الجهادية وطرد جزء كبير منها من شمال مالي منذ 2013، ما زالت مناطق بأكملها خارجة عن سيطرة القوات المالية والفرنسية وتلك التابعة للأمم المتحدة. وتستهدف الجماعات المتشددة، من حين لآخر، القوات الأمنية والعسكرية المتمركزة في المنطقة على الرغم من توقيع اتفاق للسلام في يونيو 2015، كان يفترض أن يسمح بعزل الجهاديين نهائيا.