الحبيب الأسود
جرائم انتهاك حرمات المقابر تتسع في منطقة غرب ليبيا على أيدي ميليشيات متشدّدة تعمل تحت إمرة داخلية حكومة الوفاق، فيما يزعم ما يسمّى بجهاز مكافحة الظواهر الهدامة أن ما تقوم به من نبش القبور هو نصرة للحق وردع للباطل وجهاد في سبيل الله.
يواجه المجتمع الليبي نذر فتنة عقائدية بسبب استقواء الميليشيات السلفية المتشددة بمراكز النفوذ السياسي والعسكري والأمني في غرب شرق البلاد على الجماعات الصوفية، واضطهاد المنتمين إليها، تحت شعارات من قبيل محاربة الشرك والسحر والبدع، وهو ما سبق وأشار إليه المجلس الأعلى للتصوف الإسلامي السني في ليبيا بالقول إن “الزوايا الصوفية لم تكن في معزل عن معاناة الوطن وأهله من التطرف والعنف والإرهاب، فقد قُتل بعض شيوخها وتلاميذها بأيدي الإرهابيين المتطرفين، من داعش والمقاتلة والإخوان والتكفيريين وغيرهم، واعتُدي على زواياها ومكتباتها وأوقافها، ونُبشت قبُور العلماء والشهداء والصّلحاء، كل ذلك بمباشرة من المتطرفين والإرهابيين وأذنابهم وداعميهم”.
والأحد، أعربت وزارة الداخلية بحكومة الوفاق الوطني عن استهجانها وإدانتها لـما حصل، فقالت إنه حدث نبش للقبور بأحد المقابر وإزالة الأضرحة بمدينة صرمان، غربي طرابلس، منبهة إلى أن تلك الأفعال “تثير الفوضى وتتسبب في الإخلال بالأمن العام وإثارة الفتن والقلاقل”.
وأكدت الوزارة التزامها «بمنع مثل تلك الأفعال والاعتداءات من نبش للقبور وإزالة الأضرحة»، مشيرة إلى أنها «لم تصدر أي تعليمات لأي جهة أمنية تابعة لها بشأن تقديم يد العون والمساعدة لمن يقوم بتلك الأفعال» وأضافت أن من يقومون بتلك الأفعال “سيتحملون وحدهم عواقب ما قاموا به وسيتم اتخاذ الإجراءات القانونية وضبط نابشي القبور من قبل مديريات الأمن بالمناطق وفق المواد (294، 293، 292) من قانون العقوبات الليبي”.
واتسعت ظاهرة هدم الأضرحة ونبش القبور في منطقة غرب ليبيا على أيدي ميليشيات متشددة تعمل تحت إمرة داخلية حكومة الوفاق، فيما زعم ما يسمى جهاز مكافحة الظواهر الهدامة التابع لمديرية أمن الزاوية أن ما تقوم به من نبش القبور نصرة الحق وردع الباطل وجهاد في سبيل الله.
وقامت الميليشيات بهدم ضريح سيدي زكريا المحجوب في مقبرة زكري بمدينة صرمان (60 كلم إلى الغرب من طرابلس) والذي يوجد داخل زاوية بمسجد يحمل اسمه ويعتبر أول مسجد في المدينة تقام فيه صلاة الجمعة قبل أكثر من 750 عاما، ونبشت عناصر مسلحة كانت تستقل مركبات وزارة داخلية الوفاق الضريح، وعبثت بمقتنياته، وخرّبت المنارة القرآنية، بدعوى البحث عن طلاسم أخفاها سحرة ومشعوذون للإطاحة بمعنويات المسلحين.
ويعتبر المعلم المستهدف من أعرق وأهم معالم مدينة صرمان، وقد كان أنشئ بعد دخول قبيلة المحاجيب إلى المدينة في القرن الثامن هجري سنة 742 ه، حين دخل سيدي حامد المحجوب إلى مدينة صرمان واستقر بها، وبنى بها المسجد والزاوية عام 745 ه، وبعد قرن ونيف من الزمن تم تجديد المسجد على يد سيدي زكريا، وكان ذلك في عام 870ه، وتمت تسميته باسمه، وفي عام 950 ه، توفي سيدي زكريا، وخلال تلك المدة الزمنية تم تجديده عدة مرات، وكان له أثر بالغ الأهمية في نشر العلوم وتحفيظ القرآن ونشر قيم التسامح بين السكان المحليين.
وأضاف البيان أن ليست لديهم أي توجهات سياسية وأن توجههم للخير والتوحيد ومحاربة الشر والشرك وليست لديهم تعصبات دينية أو نزعات قبلية أو جهوية ولا يتبعون أي حزب أو جماعة.
وجاء في البيان الذي تحدث باسم المنتمين للجهاز “نحن رجال أمن كلفنا لحماية المواطن وأنتم قولوا عنا ما شئتم، ونحن تنادينا لإحقاق الحق والوصول إلى دولة العدل والقانون التي نطمح لها، وأن تكون شيعتنا هي القرآن الكريم وسنة النبي الأمين (عليه الصلاة والسلام) وسنكمل الطريق التي بدأها الرجال قبلنا بإذن الله، ونقول لكل من تسوّل له نفسه المساس بسمعة هذه الوحدة وعملها الذي تقوم به، إنكم والله والله وبالله لن تفلحوا وخبتم وخاب مسعاكم وعاملكم الله بعدله».
وتقوم ما تسمى بأجهزة مكافحة المظاهر الهدامة التي تعمل تحت سلطتي حكومتي شرق وغرب البلاد، بدور أقرب إلى الشرطة الدينية وفق عقيدة سلفية متشددة، تتخذ من السلفية المدخلية، نسبة إلى رجل الدين السعودي ربيع المدخلي مرجعية له.
اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بليبيا تعتبر الهجوم الأخير مخططا إرهابيا يستهدف الطرق الصوفية في البلاد
واستنكر أعيان ومشايخ قبيلة “المحاجيب” بصرمان الاعتداء على مقبرة مدينتهم. وقالوا في بيان لهم إن «ما حدث خارج عن نطاق الشرع والقانون والأعراف، حيث تم إبلاغهم أن هذه المجموعة جاءت إلى المقبرة العتيقة وقالت إنها تبحث عن أعمال السحر والشعوذة، باعتبارهما أمرين منكرين»، لكن «الأمر تغير ورأينا قبورا منبوشة ورفات منقولة وإن ما حدث شبيه بأفعال السحرة والمشعوذين».
وعرفت مناطق شرق وجنوب ليبيا حملات تحت شعار مقاومة السحر والشعوذة، ويرى المنتمون إلى الطرق الصوفية أنها تستهدفهم بالأساس بعد اتساع نفوذ الجماعات السلفية المدعومة من قبل المؤسسة العسكرية، وسبق لمكتب الأوقاف والشؤون الإسلامية بطبرق أن خاطب مدير الأمن بضرورة محاربة السحر والشعوذة والتي انتشرت بالمدينة وأغلبهم من العرب والأفارقة والذين سيتم ضبطهم جميعا، وذكّر داخلية الحكومة المؤقتة بأن القانون نص على أن تختص هيئة الشرطة بمنع الجرائم وضبطها ومتابعتها وكفالة الطمأنينة والأمن في المجتمع وحماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة وصون الحقوق والحريات.
كما أكد أنه في حال توجيه اتهام لكائن من كان تتوجب معاملته وفقا للقانون معاملة لا تحيد عن الإنسانية ولا تحيد عن الأصول حتى يمثل أمام القضاء وأن يضع مأمور الضبط القضائي ضمانات تعصم محاضرهم وتقي أعمالهم من أن يجرحها تشكيك جدي.
غداة ثورة 2011، ازدهرت الصوفية لفترة قصيرة بعد أن تمتعت بحرية جديدة، لكنها تعرّضت أيضا إلى هجمات فورية عبر البلاد على يد السلفيين الليبيين الذين أفلتوا من عقالهم
وفيما تم الإعلان عن القبض على عدد من المتهمين بالسحر والشعوذة من جنسيات ليبية وأجنبية، والربط بين أغلب الموقوفين وجرائم أخرى تتعلق بالنصب والابتزاز والاغتصاب والاختطاف، حذر المراقبون من أن تتحول محاربة السحر والشعوذة إلى وسيلة لتصفية الحسابات بين المتخاصمين أو ضد شخصيات بعينها وخاصة من أتباع التيار الصوفي المنتشر بقوة في إقليم برقة، خاصة ضد أفراد من العمالة الأجنبية يحاول مشغلوهم التخلص منهم دون دفع مستحقاتهم المالية.
ووفقا لدراسة نشرها مركز «كارنيغي» فإنه غداة ثورة 2011، ازدهرت الصوفية لفترة قصيرة بعد أن تمتعت بحرية جديدة، لكنها تعرّضت أيضا إلى هجمات فورية عبر البلاد على يد السلفيين الليبيين الذين أفلتوا من عقالهم.
وفي حين أن ما يُسمى بـالسلفيين الهادئين، الذين يسخر منهم خصومهم بإطلاق تسمية “المدخليين” عليهم بسبب ارتباطهم برجل دين مقيم في السعودية يُدعى ربيع بن هادي المدخلي، تجنبوا نظريا العمل السياسي مفضلين عليه الأخلاق الاجتماعية، إلا أن هذا تغيّر في السنوات الأخيرة. فقد تحالف السلفيون مع المعسكرات السياسية الليببة المُفتتة، والأهم أنهم سيطروا على القطاع الأمني من خلال الميليشيات التي تتحالف شكليا مع السلطات الليبية المتنافسة في الغرب والشرق.
وهنا حظي السلفيون ببعض التصفيق بسبب تصديهم للاتجار بالمخدرات، لكنهم أثاروا في الوقت نفسه القلق والتوتر بسبب قمعهم لنشاطات يعتبرونها لا إسلامية، كالفن والموسيقى والاختلاط بين الجنسين. كما أنهم استخدموا سردية مكافحة الجريمة والإرهاب لاستهداف منافسين إسلاميين، سواء أكانوا سلفيين جهاديين من تنظيم الدولة الإسلامية أو ناشطين سياسيين من جماعة الإخوان المسلمين. كما وفّرت لهم سلطتهم المُستجدّة الغطاء لشن الحملات على الصوفيين.
ووفق الدراسة، فإن أوضح مثال على ذلك ميليشيا في طرابلس تُدعى قوة الردع الخاصة، التي لا تتكوّن كليا من السلفيين لكنها بقيادة عبدالرؤوف كارة الذي يصف نفسه بأنه سلفي. وتُنحى اللائمة على هذه الميليشيا للهجمات على السلفيين في العاصمة، بيد أن كارة نفى أنه أمر بتنفيذ هذه الهجمات، على الرغم من أنه اعترف بأن رجاله شاركوا فيها. ما هو أهم هنا أنه لا هو ولا قوات الشرطة الرسمية في العاصمة أبدوا استعدادا أو قدرة على حماية المواقع الصوفية. وفي شرق ليبيا، ثمة ديناميكية مماثلة قيد العمل، لكن هذه المرة عبر موجة اعتداءات على الصوفيين من قبل ميليشيات سلفية متحالفة مع الإدارة العسكرية بقيادة المشير خليفة حفتر.
وخلصت الدراسة إلى أن كل هذا يعكس ما يمكن وصفه بشكل أفضل بأنه “سلفنة” (من سلفية) قطاع الأمن الليبي، حيث تُهيمن قواعد العمل السلفي على مسألة الأمن. والحصيلة كانت تفاقم مناخات الخوف والانكشاف على المخاطر، مشوبة بالتحدي في صفوف الصوفيين. وقد كشفت زيارات للصوفيين في ديسمبر 2017 في طرابلس ومصراتة وسرت عن نزعة التحدي هذه بأبهى صورها، حيث يقوم الصوفيون بالتصدي لسيطرة السلفيين على الفضاء العام من خلال المواكب وعروض “الحضرة” الصاخبة، وهي احتفالات تتضمن التلاوات والموسيقى في الساحات العامة.
وفي أكتوبر الماضي، طالب مشايخ ومنتسبو ومحبو الطرق الصوفية في ليبيا، مجلس النواب والحكومة المؤقتة والقيادة العامة للجيش، ومجالس الحكماء، بالتدخل العاجل لـ«إنصافهم» ووقف الإقصاء الذي يمارس عليهم بهيئة الأوقاف التي تسيطر عليها طائفة تسمى باسم «السلفية» و«السلف الصالح منهم براء»، معتبرين أن الموظفين ومحفظي القرآن والخطباء والأئمة المنتسبين للطرق الصوفية يجري إقصاؤهم بشكل تعسفي من وظائفهم بالهيئة، ومتهمين «الطائفة المؤدلجة» التي تسمى باسم «السلفية» بالتخفي تحت ستار مؤسسات الدولة لاغتصاب أملاك الوقف والزوايا وتحويلها إلى محلات تجارية.
وأكد مشايخ ومنتسبو ومحبو الطرق الصوفية أن «منهج الصوفية هو منهج أهل السنة والجماعة على مذهب الإمام مالك، ونحارب كل تصرف لا تقره الشريعة الغراء»، مشيرين إلى أن «منهج أهل التصوف الإسلامي هو المنهج الأصيل لهذه البلاد منذ ما يزيد على ألف عام، وهو مَن دافعَ عن الإسلام وأهله، وحافظ عليهم من خلال علمائه ومنتسبيه»، كما لفتوا إلى أن «المنهج الصوفي لم يخرج منه أي زنديق أو داعشي أو إرهابي واحد»، بل إن «الدواعش خرجوا من عباءة الوهابية السلفية، وتاريخ الماضي والحاضر يشهد بجرمهم وإرهابهم»، مشيرين إلى أن «أهل التصوف كانوا من السباقين في ساحات الجهاد ضد الغزاة للدفاع عن هذه البلاد، فهذا الولي الصالح سليمان الفيتوري يرتفع شهيدا ضد فرسان القديس يوحنا وما سيدي عمر المختار وسيدي الفضيل بوعمر وسيدي حسين الجويفي عنا ببعيدين وغيرهم كثير”.
سيطرة القوى السلفية على مراكز نفوذ في المؤسسات العسكرية والأمنية باتت تنذر بأزمة اجتماعية حقيقية
ورفض مشايخ ومنتسبو ومحبو الطرق الصوفية استغلال الحملة ضد السحرة والمشعوذين بتشويه الطرق الصوفية ومنتسبيها والتهجم عليهم وتهديدهم بحجة محاربة السحر والشعوذة، مشيرين إلى أنه «لو كان أهل التصوف سحرة ومشعوذين كما يدعي الجهلة لكانت ليبيا بلد المليون ساحر، ولكن بفضل منارات التصوف مثل منارة سيدي عبدالسلام الأسمر ومنارة سيدي عبدالواحد الدكالي ومنارة سيدي المحجوب ومنارة سيدي الزروق، وزوايا السادة السنوسية، أصبحت ليبيا بلد المليون حافظ، متصدرة في جميع المسابقات القرآنية”.
الحقيقة أن أغلب المنارات الصوفية في ليبيا تعرضت منذ العام 2011 إلى الاعتداءات المباشرة من قبل التيار السلفي باسم النهي عن المنكر والأمر بالمعروف والذي تشكل في البدايات كميليشيات مسلحة تكفيرية تهدف إلى الانقلاب على الخصوصيات الثقافية للمجتمع، قبل أن يتغلغل أفرادها في المؤسسات الأمنية والعسكرية، ويمتلكوا قوة المال والنفوذ ما ساعدهم على تنفيذ خطوات مهمة في طريقهم لاضطهاد التيار الصوفي الذي لا يزال يقاوم من أجل الإبقاء على دوره التاريخي.
ويرى المتابعون للشأن الليبي أن سيطرة القوى السلفية على مراكز نفوذ في المؤسسات العسكرية والأمنية باتت تنذر بأزمة اجتماعية حقيقية، ما أحرج السلطات السياسية أمام عدة تيارات منها التيار السلفي وكذلك التيار الليبيرالي، ووضعها في موقف العجز عن التصدي للتصرفات المناقضة للحريات العامة والخاصة، والتي تتغطى بشعارات المحافظة الدينية في مجتمع عانى طويلا من الانغلاق الثقافي، وما حدث في صرمان الجمعة الماضي، من هجوم عناصر أمنية سلفية على ضريح ومنارة سيدي زكريا المحجوب دون الرجوع إلى وزارة الداخلية، يكشف عن حجم المبادرة الفردية في اتخاذ القرارات وفق ما يراه التيار السلفي موافقا لميولاته التكفيرية ضد جزء مهم من أفراد المجتمع.
المصدر العرب اللندنية