ركز فرنسيس بيكون في دراسة الحقائق على البحث في الوقائع والتفتيش عن علاقاتها السببية
كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة السابقة عرضنا آراء أقطاب العقلانية الحديثة في المعرفة، والدور الريادي لديكارت في هذا المضمار، وموقف سبينوزا الحلولي، ورفض لايبنتز لإثنينية ديكارت في تحصيل المعرفة، وتوسط كانت فيما بينهما، وعمل هيغل على إزالة التفرقة بين الفكر والواقع.
من بيكون إلى هيوم
يُعد فرنسيس بيكون (1561-1626) من رواد فلاسفة عصر النهضة الذين عملوا على تبيان أهمية المعرفة التجريبية في العلوم الطبيعية، إذ لا يمكننا أن ننجز فلسفة عملية على أفكار عقلية خالصة أو رؤية ما ورائية، خصوصاً عندما يتعلق فكر الإنسان بالأسباب والعلل، وما يتوجب عليه في إدراك هذه الأسباب في تسلسلها وعلاقتها المتبادلة، التي لا تنبني على “الكتاب المقدس” بل على العلم المادي.
كان بيكون مؤمناً بالله، لكنه لا يريد أن يخلط المعرفة في حقول العلوم الطبيعية بالماورائيات أو الإلهيات، إذ “من الجنون أن نقيم فلسفة طبيعية على أي جزء من الكتاب المقدس”. ويرى أيضاً، “غالباً ما تكون الطبيعة مخفية، وأحياناً يتم التغلب عليها، ونادراً ما تختفي. القوة تجعل الطبيعة أكثر عنفاً في المقابل، العقيدة والخطاب يجعلان الطبيعة أقل أهمية، وتؤدي “عادة الجواز” إلى تغيير الطبيعة وإخضاعها. مَن يسعى إلى الانتصار على طبيعته، لا يترك لنفسه مهام كبيرة جداً، لأن أولاً ستحبطه الإخفاقات في كثير من الأحيان، وثانياً ستجعله متابعاً صغيراً، على الرغم من أنه غالباً ما ينتصر”. (المقالات، طبعة إنجليزية).
ولذلك ركّز بيكون في دراسة الحقائق على البحث في الوقائع والتفتيش عن علاقاتها السببية، ودعا الناس إلى التخلي عن عقلية الماضي المذهبية، والاتجاه نحو الدراسة العلمية في معرفة الحقائق. فالاهتمام بالطبيعة ومعرفة الأسباب والحركة الخفية للأشياء، تقود إلى توسيع حدود القدرة المعرفية الإنسانية بجعل كل شيء ممكناً، إذ إن “المعرفة قوة”، وفق عبارته الشهيرة.
ومصدر المعرفة هو التجربة الحسية، حسبما يرى بيكون، ومن أجل ذلك ينبغي اعتماد تقدم العلم على صياغة قوانين عامة. وفي هذا الخصوص، اقترح بيكون منهجاً علمياً يحتوي نوعاً من تلك الصياغة. على سبيل المثال، بدلاً من القيام بسلسلة من الملاحظات والتجارب، كما في ملاحظة الحالات التي تتمدد فيها المعادن في الحرارة، ومن ثم استنتاج أن الحرارة تجعل المعادن تتمدد، نقوم باختبار نظرية جديدة بالبحث عن الحالات المناقضة لها، مثل وجود معادن لا تتمدد حين تتعرض للحرارة. فالملاحظة تعرض علينا الكيفية، التي نبحث عن سببها أو صورتها التي تكون مختلطة بكيفيات أخرى.
إن التجربة والملاحظة، عند بيكون، لا تشكل سنداً صادقاً في التفكير النظري من دون تقديم شاهد سلبي لرأي مضاد لها، فالشواهد السلبية وقيمتها البرهانية تفوق أهميتها الشواهد الإيجابية، لأن البرهنة على النظريات لا تقيم نهائياً حين تكذب النظريات المنافسة لها.
عموماً، لم يحسن بيكون تماماً في عملية تطبيق منهجه العلمي على الطبيعة، لكنه ساعد ديكارت في تنفيذ المهمة ونجح فيها نجاحاً مذهلاً. وكان نفوذ بيكون على كثيرين، منهم جون لوك (1632- 1704)، الذي جعل الحواس مصدر المعرفة الحقة، وأن الفطرية هي القدرة الطبيعية التي تمكن الإنسان من تحصيل المعارف من دون معونة، فمن خلال الانطباع الفطري بمقدوره أن يصل إلى اليقين الكلي تجاه بعض الأشياء من دون أن تكون له حاجة إلى المبادئ الأولية أو المعاني بالفطرة.
وعلى الرغم من أن “الأفكار الفطرية” أو “المبادئ الفطرية” هي مجرد أحكام مسبقة، بحسب مذهب الفطرة، فإن لوك ينقده بضراوة، إذ يمكن أن نحصل على المعرفة من دون الاعتماد على أي أفكار فطرية، وكذلك يمكن بلوغ المعرفة اليقينية من غير مساعدة من هذه الأفكار أو الانطباعات الذهنية. فلو كانت هذه الأفكار مطبوعة بالنفس الإنسانية غريزياً، فيجب أن يعرفها الأطفال أيضاً، في حين أن الطفل ليس بمقدوره معرفتها إلا بالتعلم التدريجي، وهذا يعني حاجته إلى فترة طويلة يكتسب فيها الخبرة والبرهنة على وجود تلك الأفكار.
إن “الأفكار تأتي من الإحساس أو التفكير. دعونا نفترض على العقل أن يكون، كما نقول، ورقة بيضاء خالية من كل الرموز، ومن دون أفكار، كيف يتم ملؤها؟ من أين يأتي هذا الخزين الواسع، الذي رسم عليها بخيال الإنسان المشغول غير المحدود بتنوع لا نهاية له تقريباً؟ فمن أين لها كل مواد العقل والمعرفة”. (بحث في الفهم الإنساني، طبعة إنجليزية).
ويرى لوك أن أي فكرة لم يدركها العقل مسبقاً، فإنها ليست مكمونة في العقل أصلاً، سواء كانت هذه الفكرة جاءت عن طريق الإدراك العقلي أو الحسي، فهي من المدركات الفعلية وتبقى في العقل بحيث يمكن عن طريق التذكر جعلها مدركاً مرة أخرى. ومن هنا، ينص لوك على عجز العقل في معالجة ما يتجاوز حدود ملكاته، وأن بعض القضايا العامة، لا سيما التي لا يكاد العقل يدركها حتى يتيقن منها تماماً، حكموا عليها بأنها فطرية لسهولة التعليل فقط. ومثل هذا القول يعد اعترافاً صريحاً بأنه أحجية غامضة يصعب عليهم حلها ولم يجدوا التعليل الصائب لها. وعليه، فليس ثمة شيء في العقل لم يكن قبل الحواس. العقل ليس أكثر من صفحة بيضاء تطبع عليه الخبرة كل شيء، وهو يمثل “قوة الإدراك الحسي”. فكل الأفكار أصلها في الحواس، كونها منبع الانطباع والإدراك، وبذلك فإن كل أفكارنا ترجع إلى الخبرة التجريبية بالدرجة الأساس.
وكان لوك لا يشك في إمكانية الوصول إلى معرفة حقيقية صحيحة عن الواقع الخارجي، ويرى أن هناك نوعين من الصفات: الأولية والثانوية. الأولى، لا تنفصل عن الجسم إطلاقاً، مثل الصلابة والامتداد والحركة وغيرها. أما الثانية، فمجرد قوى تحدث فينا إحساسات متعددة بصفاتها الأولية، مثل الألوان الأصوات والطعم… إلخ. ولكن هذا التمييز بين الصفات لم يكن جديداً، إذ يعود إلى توما الأكويني وأخذ عنه ديكارت وهوبز ونيوتن وغيرهم. ومع ذلك، فإن لوك هو أول فيلسوف خصص لنظرية المعرفة بحثاً مستقلاً عن بقية المسائل والقضايا في كتابه “بحث في الفهم الإنساني” عام 1690.
وعلى نمط لوك في المذهب الحسي أو التجريبي يأتي جورج بركلي (1685- 1753)، لكنه ذهب إلى مدى أبعد، وذلك بإنكاره وجود الأشياء الخارجية، فليس ثمة شيء موجود إلا إذا كان مدركاً بالحواس. فمن “الواضح لأي شخص يأخذ مسحاً لأشياء المعرفة الإنسانية، أنها إما أفكار مطبوعة فعلياً على الحواس، أو مثل تلك التي يتم إدراكها من خلال الاهتمام بالمشاعر وعمليات العقل، أو أخيراً الأفكار التي صورها تساعد الذاكرة والخيال، إما مركبة أو مقسمة أو بالكاد تمثل تلك التي تم إدراكها في الأصل بالطرق المذكورة سلفاً”. (مبادئ المعرفة الإنسانية، طبعة إنجليزية).
فالإنسان يتخيل أن المادة موجودة، ولكن لا وجود حقيقياً إلا للروح أو الله، الذي نستمد منه إدراكنا عبر الصور التي طبعها في عقولنا، ما يتراءى للإنسان أن تلك الصور أشياء حقيقية لها وجود مستقل في الخارج.
بمعنى آخر، ينكر بركلي مادية العالم، لأنه إذا نزعنا عن المادة صفاتها الأولية والثانوية معاً، تصبح عدماً لا معنى له. والحقيقة أن إحساساتنا تسببها القوة الإلهية التي تؤثر في حواسنا، وليس المادة الخارجية التي هي “خرافة” لا واقع لها، كما أن الروح وحدها التي تؤثر في الروح، وأن الله المصدر الوحيد لكل أحاسيسنا وأفكارنا.
إن قضية الشعور بأعراض محسوسة في تحصيل المعرفة، امتاز في دقتها بركلي أكثر من لوك، فهو يرى أن قوة تخيل معاني الجزئيات التي ندركها، في التركيب والتفصيل على أنحاء مختلفة، يجب أن يكون لها شكل ولون محددان. وهذه تنفي المعنى المجرد، فلا يمكن أن نتصور المعنى المجرد لحركة متمايزة من الجسم المتحرك. فمعنى الإنسان يجب أن يكون معنى الإنسان وبشرته وشكله وبنيته، وهذه ليست لها تصورات مجردة. وعلى وهذا المنوال، يمكننا أن نقيس سائر المعاني الكلية المجردة.
ويحاول بركلي أن يوضح قضية الكليات والفرق بين التعريف والمعنى. فوفق رأيه، لنا دراية ما بالنفس والروحيات اللامادية، ويفسر الكلية على أنها معنى جزئي يؤخذ ليمثل سائر المعاني الجزئية التي من نوعه، وهذا النوع ينشأ من الإحساس بالتشابه. على سبيل المثال، إن المعنى المجرد للمثلث الذي لا يمثل نوعاً من أنواع المثلثات هو معنى متناقض، وليس بمقدور أحد أن يكونه، ولا يكون في ذهن الرياضي سوى معنى جزئي، غير أنه يمكن أن يكون كلياً من حيث دلالته، أي يمكن أن يمثل أي مثلث كان. وهذا التدقيق في المطابقة، يروم منه بركلي إلى تخفيف حدة الناقدين لموقفه بأنه ينفي العالم الخارجي في نظريته المعرفية.
ولقد استخدم بركلي الاستعارات في تناوله الأشياء غير المحسوسة في الروحيات والإلهيات، لكي يستطيع الإشارة إلى المقتضيات المتعينة غير المتمثلة في الفكر. ومن هذا المدخل، يمكن للشخص رؤية ما يتعلق بالماورائيات من خلال المعاني وليس بواسطة الأفكار، وأن “الحس السليم” له دوره في هذه العملية. ومع ذلك، لا يستطيع الشخص الذي يرى الأشياء في تفاصيلها أن يشارك رؤيته مع آخرين يرون حقيقة الأشياء الخارجية في شمولية عامة.
إن نظرية المعرفة في مثالية بركلي التجريبية، لها بنيانها الفلسفي الخاص، التي خالف في بعضها حسية لوك، واختلف معه البعض الآخر، مثل هيوم.
بالنسبة إلى ديفيد هيوم (1711- 1776)، رأى أن بركلي لم ينف المادة فقط، بل دمر الإدراكات الحسية أيضاً، وكذلك دفع هيوم بمفهوم التجربة عند لوك إلى حد الشك، إذ ليس باستطاعتنا أن نحصل على معرفة حقيقية إلا عبر التضمن المنطقي بين الأفكار، سواء كان مصدرها حسياً أو عقلياً، لأن الحواس وطبيعة الذهن عرضة للأخطاء نتيجة انطباعاتها الخاصة، وبذلك لا يمكن أن نقيم معرفة إلا من خلال الترابط بين الأفكار. فالمعرفة تتألف من الإحساسات التي هي مزيج من “الأثر الحسي” و”الفكرة” معاً.
على سبيل المثال، عندما أنظر إلى لوحة ملونة ثم أقفل عيني، فإني سأحتفظ بتلك اللوحة اللونية التي كنت تلقيتها، غير أن صورة اللوحة في الحالة الثانية تكون أقل وضوحاً من الحالة السابقة، الأولى، هي الأثر الحسي، أما الأخرى، فهي الفكرة.
ومن هنا، يقسم هيوم المدركات الإنسانية إلى قسمين رئيسين: الآثار الحسية والأفكار، والأخيرة، هي الأولى نفسها، ولكنها خالية من المؤثرات التي أحدثتها. ولهذا السبب لا تنشأ في العقل أفكار إلا إذا سبقتها آثار حسية، فالانطباع الحسي هو المصدر الذي نقيس فيه صحة الفكرة إلى أصولها الأولى التي جاءت عن طريق الحواس، والفكرة تكون على درجة من الصواب أو الخطأ بحسب تطابق الانطباعات لا أكثر.
أما “في ما يتعلق بتلك الانطباعات التي تنشأ من الحواس، فإن سببها النهائي، في أي رأي، لا يمكن تفسيره تماماً من قِبل العقل البشري، وسيكون من المستحيل دائماً أن تقرر على وجه اليقين ما إذا كانت تنشأ على الفور من الموضوع، أو من إنتاج إبداع قوة العقل، أو مشتقة من الخالق إلى وجودنا”. (بحث في الطبيعة الإنسانية، طبعة إنجليزية).
معنى هذا، أن الفكرة التي لم تنطبع في حواسنا لا وجود لها أصلاً، والإصرار على وجودها مسبقاً في عقولنا هو ضرب من الخيال، ولذلك يؤكد هيوم أن الفكرة اختلاق من أوهامنا، وليس هناك من شيء حقيقي في الواقع الخارجي إلا حالاته المتتابعة التي يمكن أن تنطبع الحواس بأثره. والأمر نفسه من الجانب الداخلي أو الذاتي للإنسان، تمعن في باطن نفسك تجد ما تلاحظه من حالات نفسية متلاحقة واحدة تلو الأخرى، ولن تلاحظ بينها حالة يمكن أن تطلق عليها اسم ذات أو عقل أو روح وغيرها من الأسماء، التي نطلقها لنعني بها جوهراً خفياً نفترض وجوده تجاه الحالات النفسية في شخص أو ذات فردية لها استمرار ودوام.
وفي هذا الخصوص، يوضح لنا هيوم، أنه حينما يتغلغل في ما أسميه “نفسياً” أعثر دائماً على إدراك حسي معين أو آخر، ولكن ليس بمقدوري إطلاقاً أن ألحظ شيئاً غير الإدراك الحسي فقط. فإذا زالت عني إدراكاتي الحسية، كما يحدث في النوم العميق، فإنني طوال هذه الفترة أكون عديم الحس “بنفسي”، ويمكن القول حقاً إنني غير موجود. ويهدف هيوم من ذلك إلى دحض أهمية الذهن في المعرفة، الذي يعتقد أنه مجرد مجموعة من مختلف الإدراكات الحسية اندمجت بطرق شتى من الارتباطات، يفترض أنها وهبت غاية البساطة والتطابق.
وحتى هذا الافتراض يعده هيوم خطأ، فهو ذهب بتنكره للعقل بأن قدم عليه “الاعتقاد” كونه فعلاً من أفعال الجانب الحساس العارف من طبائعنا، وهو شدد في شكيته تجاه المعرفة من منطلق لا أدري.
نقلا” عن أندبندنت عربية