الحبيب مباركي
كشفت الاحتجاجات التي تشهدها تونس مؤخرا عن بروز جيل جديد من الشباب الناشط داخل ورش عمل مغلقة يؤمن بأن إحداث التغيير ليس حلما مستحيلا، وإنما هو رؤية جاهزة للتنفيذ. وهذا الجيل يحمل أفكارا تجديدية ويرفض الاستسلام للمألوف ولا يؤمن بالإحباط، كما لا يرضى بتكرار المعتاد. ولأن المدّ الثوري بدأ بصفة عفوية في 2011، فإن الرهان هو على مدى تكييف هذا الجيل لحراكه وتنظيمه لكسب الشرائح الأخرى في صفه أملا في تحقيق مطالبه المشروعة.
يتحرّك الشارع التونسي هذه الأيام على وقع احتجاجات صاخبة طالت مدنا عديدة ولا يزال صداها يتفاعل منذرا بتوسع رقعتها. وقد حملت الأصوات المتعالية لجيل شاب خرج ليلا للاحتجاج، متحدّيا حالة حظر التجوّل المفروض بسبب انتشار وباء كورونا، للمطالبة بنصيبه من التنمية والتشغيل والكرامة، دلالات عديدة وأسئلة متباينة حول هوية هذا الجيل ومن يكون ومن يقف وراءه ويؤطره، وما هي آفاق احتجاجاته وردود الفعل حولها؟
وينقسم المحللون حول هوية الجيل الجديد من الشباب، الذي يقود الاحتجاجات وجرأته على كسر كل القيود التي تحول دون تحقيق هدفه، بينما اعتبره مراقبون جيلا عايش المدّ الثوري في 2011 وجاء دوره ليقوم بما عجز عنه المثقفون والمدونون وجميع الفئات التي يعنيها التغيير في أبعاده الكبرى ومضامينه التي يمكن أن تعيد تونس نحو المسار الصحيح.
وقبل الدخول في قراءة تفصيلية لفهم ما يحدث بمختلف مسمياته سواء “ثورة الجياع” أو “ثورة المهمّشين” أو غيرها من التوصيفات، يجب التأكيد على مسألة غاية في الأهمية، ألا وهي أن كل أشكال العنف والتخريب والسرقة مرفوضة بالنظر إلى ما تحمله من رسائل تدين هؤلاء الشباب أكثر مما تخدمهم.
وبرزت الانتقادات الموجهة لهؤلاء المتظاهرين كونهم اختاروا جنح الظلام للقيام بأفعال خارجة عن إطار كل ما هو تظاهر لتحقيق مطالب مشروعة، وسمحوا للبعض بوصفهم بـ”المخرّبين” وتشويه صورة الحراك الذي يقودونه.
وهكذا تبنّت كافة الفرضيات العقلانية المسألة وعالجتها من منظور يراعي مصلحة الناس وممتلكاتهم أولا، وفي الوقت ذاته يوجه رسالة لهؤلاء الشباب بأن عليهم أن يحولوا حراكهم إلى نشاط مكشوف ليكتسبوا زخما أكبر ومساندة جماهيرية أوسع، لأن الأساس في الحكم على أي ظاهرة أن يكون مبنيا على حجج صريحة وواضحة.
جيل غير مسيّس
شباب خرج ليلا للاحتجاج متحدّيا حالة حظر التجوّل للمطالبة بنصيبه من التنمية والتشغيل والكرامة
مع أن هذا الشباب “الثائر” وجّهت له اتهامات بكونه فاقدا للوعي وأنه سمح لبعض المنحرفين بتضليل حراكه عن المسار الحقيقي، لكن يجب على الطبقة السياسية الحاكمة ألا تنسى أنها كانت يوما داعمة للتحركات الاحتجاجية الليلية مع بداية الانتفاضة الشعبية قبل عقد من الزمن، حينها قادها جيل شاب من خارج المنظومة الحاكمة ولم تكن تستهويه السياسة ولا الغرف المظلمة، مندفعا بإيمانه أن التغيير يأتي بضغط من الشارع.
والمتابع للأحداث يرى أن هذا الجيل يمثل لغزا، بل هو أكثر من لغز، فيما يقر متابعون بأن هؤلاء هم أولئك الذين نفضهم غبار الثورة في 2011 ولم تقرأ لهم الطبقة الحاكمة أي حساب. فأولئك المهمّشين غير المؤدلجين من الشباب الذين عايشوا الاحتجاجات التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي، لم تلتفت الحكومات المتعاقبة إلى مطالبهم وتعاملت معهم باستخفاف.
فعندما اندلعت الاحتجاجات في نهاية 2010 وبداية 2011 في تونس كانت في معظمها، إن لم نقل جلّها، مسنودة بمد شعبي واسع خرج للتظاهر والتعبير عن رغبته في التغيير الذي أخذ أشكالا عدة. وقد ركب قطار التغيير سياسيون ومحامون ومواطنون عاديون وشباب غير مؤدلج وأكاديميون ونقابات عمالية ومناضلون وغيرهم من الفئات.
لكن سيرورة هذا المد الثوري لم تتوقف وبقيت ارتداداتها ماثلة للعيان، حيث عاد هؤلاء في هذه الفترة إلى الميادين والشوارع بالشعارات ذاتها وبنفس المطالب تقريبا “شغل حرية، كرامة وطنية” و”الشعب يريد إسقاط النظام”، ما يعني ضمنيا أن الثورة التي قادها هؤلاء تعود لهم اليوم إن هم أحسنوا توظيفها.
معظم الأحزاب والفاعلين السياسيين وخصوصا حركة النهضة تتحمل مسؤولية الفشل في إدارة الدولة وفي استشراء الفساد والمحسوبية وغلبة المصالح الفئوية والحزبية
وتستمد جذور رؤية الشباب للتغيير من طبيعة الأطروحات التي يقدمونها والحلول التي يرون أنها كفيلة بالنهوض بالواقع الحقيقي للدولة، فيما يطلق عليهم آخرون توصيف “الجيل الغامض” أو “غير المتحزب”، كونه جيلا متحرّرا من كل القيود والالتزامات.
ودفعت هذه المعطيات المراقبين إلى طرح أسئلة جوهرية تتعلق أساسا بمدى قدرة هؤلاء على التغيير وبأي آليات، وما هي الأساليب والطرق التي ستحرك طبيعة أفعالهم؟ والأهم من ذلك إلى أي مدى سيحافظ هذا الجيل على طابع الحياد؟ وكيف سيحمي نفسه من محاولات الاحتواء التي تقودها السلطة وبعض الأحزاب خصوصا الإسلامية على السواء؟
ويمر تفكيك هذه الأسئلة عبر الطرح الذي ينشده الجيل الجديد من الشباب، الذي يرفع جميع اللاءات بوجه الأحزاب والسلطة، ويمكن وصفه بجيل “لا”، فهو يلخّص مرآة عاكسة لمناهضة التجارب الفاشلة التي قادتها حكومات ما بعد الثورة.
ورغم أن هذا الجيل ثار بطريقة هادئة ضد الأحزاب والسياسيين والحكومات والمنظومة بكل أطرها التقليدية والمتعارفة، لكن لم يتم احتواؤه، بل تم التنكر لأطروحاته حول التنمية وفرص العمل في مقابل الغنيمة التي حققتها الأحزاب (الإسلامية تحديدا) من وراء ثورته الناعمة التي قادها وإزاحته لنظام زين العابدين بن علي.
تشخيص مغلوط
شباب ثائر
ما بدا جليا هو أن أغلب القوى السياسية تواصل في تشريح الأزمة بشكل مغلوط وغير ممنهج بما يخدم أجنداتها وديمومتها بعيدا عن رياح التغيير.
وكان التشخيص السليم لرسالة الشباب اليائس غائبا عن الفاعلين السياسيين مثل كل المرات، وعوض البحث عن اقتراح حلول عملية لتبريد الأجواء وتستجيب لمطالب المحتجين، عمدت أغلب ردود الفعل إلى كيل التهم لهؤلاء وإلحاق أشدّ النعوت بهم.
وكل ذلك يأتي في سياق التفاعل مع ما خلفته الاحتجاجات من أضرار في الممتلكات الخاصة في أغلب الجهات والمدن، لكن ذلك لا ينفي الرسائل التي حملها أيضا المحتجون للطبقة الحاكمة بأن فشلها سيجرّها إلى الأعنف ربما في قادم الأيام.
ويقف المغالون في الحكم على هؤلاء الشباب على النقيض من كل مقاربة تهدف لضمان حق الشباب في التظاهر السلمي شرط أن يكون منظما ومعبّرا عن مطالبهم بطريقة حضارية. وسرعان ما نفخت الأبواق الإعلامية لحركة النهضة مدعومة بمكتب “قناة الجزيرة” في تونس، في هذا القالب وأعادت تدوير الأسطوانة بأن التظاهر بجميع أشكاله مرفوض.
ودعت النهضة، التي حمل المتظاهرون رسائل مباشرة إلى رئيسها راشد الغنوشي يدعونه فيها للرحيل، في بيان إلى أنها تدين الاعتداءات على الأملاك الخاصة والعامة وعمليات النهب والتخريب لمؤسسات إدارية وتجارية. وطالبت الحكومة بضرورة مصارحة الشعب بحقيقة ما حصل والقيام بالتحقيقات اللازمة وحماية الممتلكات العامة والخاصة وتطبيق القانون.
تدهور الاقتصاد أدى إلى تقويض الثقة في النظام السياسي والسياسيين الذين ظهروا بعد الثورة، وساهم ذلك في الصعود السريع في استطلاعات الرأي لعبير موسي زعيمة حزب الحر الدستوري
وفيما كانت الأنظار معلّقة على قرارات جريئة من رئيس الحكومة هشام المشيشي تسهم في تبريد الأجواء في تونس، إلا أن خطابه، وفق مراقبين، جاء حاملا لرسائل لا تكفي لطمأنة الشارع الغاضب.
وأكد المشيشي الثلاثاء الماضي في كلمة بثها التلفزيون الرسمي أن غضب التونسيين “مشروع”، لكنه شدد على التصدي بقوة لأعمال العنف على مدى أربع ليال سجّلت في أحياء مهمّشة تعاني أزمة اجتماعية حادة فاقمتها جائحة كورونا. وقال إن “الأزمة حقيقية والغضب مشروع والاحتجاج شرعي، لكن الفوضى مرفوضة وسنواجهها بقوة القانون”. وتابع “صوتكم مسموع وغضبكم مشروع ودوري ودور الحكومة جعل مطالبكم واقعا والحلم ممكنا”.
وتتفق المواقف على أن معظم الأحزاب والفاعلين السياسيين وخصوصا حركة النهضة تتحمل مسؤولية الفشل في إدارة الدولة وفي استشراء الفساد والمحسوبية وغلبة المصالح الفئوية والحزبية على حساب المصالح العليا للبلاد.
في المقابل، تعمل أحزاب معارضة ممثلة بكتلها البرلمانية على عزل الغنوشي من رئاسة البرلمان ورفع الحصانة عن نواب من حزب ائتلاف الكرامة الشعبوي والمتحالفين مع النهضة، ومن ضمنهم رئيس الكتلة سيف الدين مخلوف بسبب “تجاوزات دستورية وقانونية”.
وضعية متأزمة
جيل جديد من الشباب لا يستسلم لنظرية القيود
يشعر التونسيون بفعل التجاذبات المتشابكة للطبقة السياسية أنهم خارج جميع حساباتها، رغم اعترافها الضمني والمضلل أحيانا بما يعيشه المواطنون من مآس في ظل واقع اقتصادي صعب أضافت إليه تداعيات أزمة كورونا بعدا آخر لم يعد التونسيون يحتملونه.
وبالأرقام، يتوقع البنك الدولي أن يسجل الاقتصاد التونسي انكماشا بنسبة 9.1 في المئة لعام 2020، فضلا عن نسبة بطالة ستصل إلى 16.2 في المئة والتي تفوق الضعف في عدد من الولايات الداخلية مع الوضع في الاعتبار أن ثلث العاطلين عن العمل هم من خريجي الجامعات، مع ترجيح اتساع نسبة الفقر إلى 19 في المئة في ظل ضغوط كورونا.
وعلقت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية الأربعاء الماضي، في مقال لها، أن “المظاهرات التي تشهدها بعض المناطق في تونس تبرز عمق الأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد في ظل إحباط شديد يعاني منه المواطنون، نتيجة الفقر وارتفاع نسبة البطالة”.
الحراك طرح أسئلة تتعلق بمدى قدرة الشباب على التغيير وبأي آليات، وما هي الأساليب التي ستحرك طبيعة أفعالهم
وأدى تدهور الاقتصاد إلى تقويض الثقة في النظام السياسي والسياسيين الذين ظهروا بعد الثورة، وساهم ذلك في الصعود السريع في استطلاعات الرأي لعبير موسي زعيمة حزب الحر الدستوري المعارض المثيرة للجدل، والمسؤولة السابقة في حزب بن علي المنحل.
ويبدو أن تونس اليوم أمام منعطف حاسم لا يمكن إغفال تأثيراته وارتداداته، وقد تتحول معه الاحتجاجات الشعبية لهؤلاء الشباب إلى حراك شعبي واسع النطاق يتبنى مطالبهم وينضم إليهم، لكن مسألة سقوط هؤلاء في أزمة قيادة وتنظيم تبدو مطروحة، وهو ما تبحث عنه مختلف الأحزاب الحاكمة للركوب على الحدث وتطويعه خدمة لمصالحها.
المصدر : العرب اللندنية