كريتر نت – العرب
أرسلت الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن إشارات سلبية مبكّرة إلى النظام المصري تفيد بطي أشهر العسل التي نعمت فيها القاهرة بالودّ الشديد مع واشنطن، وعليها أن تستعد لخريف سيكون فيه ملف الحريات وحقوق الإنسان والتطور الديمقراطي، على سلّم الأولويات في العلاقات المشتركة بين البلدين.
ولم تضيع إدارة بايدن وقتا في إزالة بعض آثار الرئيس السابق دونالد ترامب، فقد نقضت مجموعة من قراراته، بينها قرار يخص القاهرة، حيث أعلنت وزارة العدل، السبت، تعليق تحصين رئيس الوزراء الأسبق حازم الببلاوي، في قضية تعذيب رفعها ضده الأميركي، والمصري الأصل، الناشط الحقوقي (الإخواني) محمد سلطان.
واعتبر مراقبون سياسيون أن اختيار الشخص والقضية والتوقيت لها مضامين سياسية عميقة بالنسبة إلى القاهرة التي اعتادت التصرف بحرية مع جماعة الإخوان والقضايا الحقوقية وفي أيّ وقت، وتعتبرها أجهزة الأمن جنائية، وهو ما لم يكن يمثل منغّصا خلال عهد ترامب، ولا محل خلاف مع إدارته.
نورهان الشيخ: مصر مطالبة بإدارة حوار مع إدارة بايدن لصياغة تفاهمات المقبول والممنوع
ويشير هؤلاء إلى أن الملف المصري وضع على الطاولة الأميركية قبيل يومين فقط من الذكرى العاشرة لثورة الخامس والعشرين من يناير التي أطاحت بنظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، في رسالة توحي بأن الفترة المقبلة قد تشهد شدا وجذبا بين الجانبين.
وجاءت الرسالة عكس ما ذهبت إليه بعض الدوائر السياسية من أن بايدن محمّل بميراث داخلي لن يمكّنه من الالتفات جيدا لقضايا خارجية ذات صبغة حقوقية تفصيليا.
وكانت صحيفة “نيويورك تايمز”، المقرّبة من الحزب الديمقراطي، نشرت تقريرا الاسبوع الماضي حول وفاة أربعة أشخاص من المصابين بفايروس كورونا في غرفة العناية المركزة في مستشفى “الحسينية”، شمال القاهرة، وانحازت فيه الصحيفة إلى رواية ذهبت إلى أن الوفاة جاءت بسبب نقص الأوكسجين، على الرغم من نفي الحكومة لتلك الرواية وإرجاع الوفاة إلى حالتهم الصحية المتدهورة.
وفهمت مصادر سياسية مصرية اهتمام الصحيفة بواقعة في منطقة نائية، ربما تتكرر يوميا في دول متقدمة وبطريقة أوسع، على أنها بداية غير مريحة، تؤكد أن العيون الأميركية لن تفارق مصر ولو في حوادث عادية، خاصة أن المعالجة صُبغت بصورة عاطفية.
ودلّل البعض على أن المعالجة الانتقائية حملت من المعاني السياسية الكثير، بما يشير إلى أن الولايات المتحدة عادت لتعتني بالتفاصيل والتطورات، والتركيز الشديد على وفاة أربعة أشخاص نتيجة خطأ مهني من السهولة أن يتحوّل إلى قضية كبيرة إذا لزم الأمر.
ويشير متابعون إلى أن القاهرة لا تريد الدخول في صدام مع واشنطن وتعمل على الحد من جاذبية القضايا المثيرة، وبعثت برسائل إيجابية مؤخرا، في الملف الحقوقي، أبرزها صدور اللائحة التنفيذية لقانون الجمعيات الأهلية التي تعطلت لثلاث سنوات، وتوسيع نطاق الإفراج عن الناشطين السياسيين.
وقالت أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة نورهان الشيخ، إن إدارة بايدن لديها اهتمام بملف حقوق الإنسان في العالم، ولا تقتصر التوجهات على مصر، وحصار الكونغرس من قبل أنصار ترامب في السادس من يناير الجاري لن يردعها.
وطالبت الشيخ السلطات المصرية بتوظيف الملف الحقوقي جيدا، قائلة “واشنطن لا تعنيها حالة حقوق الإنسان إلا بمقدار ما تحقّقه لها من أهداف سياسية، وعلى القاهرة الدخول في صلب القضايا، وإدارة حوار استراتيجي مع إدارة بايدن لصياغة تفاهمات مشتركة، تحدّد المقبول والممنوع، فهناك مطالب ومصالح من المهم التوصل إلى قواسم حولها لتجنب الخلاف”.
وتوقعت الشيخ في تصريح لـ”العرب” أن يزداد التركيز على الملف الحقوقي في الفترة المقبلة، مستبعدة أن يعزز الاتحاد الأوروبي اهتمامه بقضية الشاب الإيطالي جوليو ريغيني الذي لقي مصرعه في القاهرة قبل سنوات، في ظل ما يتلقاه من دعم أميركي غير مباشر لمواصلة التحرك في هذا المسار.
وعبرت مصادر سياسية عن حرص القاهرة على تضييق الهوة مع الإدارة الديمقراطية، ولن تتردد في البناء على مساحات التفاهم معها، إذا تجنبت التدخل في الشؤون الداخلية، ولم تكرّر سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما في دعم جماعة الإخوان، والمبالغة في ملف حقوق الإنسان على حساب ملفات حيوية مشتركة.
لكنّ قرار تعليق الحصانة عن الببلاوي جاء ليعزز أن العلاقة بين البلدين مقبلة على خريف سياسي، حيث بررت واشنطن موقفها بأن “القضية تحتاج إلى وقت للمراجعة والتمحيص”، لذلك سوف تتم إعادة النظر في القضية في الحادي والعشرين من فبراير المقبل.
“سنوات العسل” تنتهي برحيل ترامب
وتعني هذه القضية إمكانية إجراء مراجعات في قضايا أخرى أكثر أهمية، قد تصل إلى مستوى الاتفاقيات العسكرية والمساعدات الاقتصادية، وهي الأداة التي استخدمها الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ولم يتورّع في الربط بينها وبين ملف الحريات عموما.
وأوقفت القاهرة محمد سلطان، وهو ابن أحد قيادات جماعة الإخوان المسلمين، في أغسطس عام 2013 على ذمة القضية المعروفة بـ”غرفة عمليات رابعة” التي كانت تدير اعتصام الإخوان الشهير في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة.
وعُوقب بالسجن 25 عاما على خلفية اتهامات تتعلق بالمشاركة في اعتصام مسلح، ثم أطلق سراحه بعد ضغوط أميركية لم تستطع القاهرة مقاومتها عام 2015، وتنازل عن جنسيته المصرية، وغادر إلى الولايات المتحدة.
ورفع سلطان، في يونيو الماضي، دعوى أمام محكمة أميركية ضد حازم الببلاوي، اتهمه فيها ومسؤولين آخرين بـ”تعذيبه” خلال فترة توقيفه في مصر، وهو ما تنفيه مرارا الحكومة المصرية التي طلبت من وزارة الخارجية الأميركية التدخل في القضية، وحث الرئيس دونالد ترامب على ذلك، كي لا تتأثر العلاقات الاستراتيجية بين البلدين.
ويعمل الببلاوي في المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي منذ نوفمبر 2014، ويتمتع بحصانة دبلوماسية بحكم هذا المنصب أيضا، لكن بعد تعليق الحصانة ستعود القضية إلى الأضواء، فإعادة النظر تنطوي على إحراج للقاهرة، والمقصود رمزية المنصب الذي شغله الببلاوي.
وفهمت جماعة الإخوان رسالة الببلاوي على أن رهانها على بايدن لن يخيب، الأمر الذي دفعها منذ الإعلان عن فوزه إلى استعجال حصد المكاسب السياسية، ومواصلة الضغوط على القاهرة.