كريتر نت – العرب الجمعي قاسمي
قامت شخصيات وطنية في تونس بمساعٍ حثيثة خلال الأيام الماضية تمهيدا لإطلاق وساطة تستهدف نزع فتيل الأزمة بين الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة) التي فجرها التعديل الوزاري المثير للجدل الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي على فريقه الحكومي.
تونس – كشفت مصادر سياسية تونسية أن شخصيات وطنية بارزة ابتعدت نوعا ما عن العمل الحزبي، تستعد لإطلاق وساطة بين الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان) في مسعى لإيجاد مخرج للأزمة الراهنة، على أمل إنقاذ أو على الأقل ضمان الحد الأدنى من سير الجهاز التنفيذي للدولة الذي بات يتهدده الشلل.
ويأتي هذا التحرك الذي لم تتضح ملامحه بعد، وسط مناخ من التوتر الشديد، عكسه تعدد عناصر الاشتباك السياسي بين الرئيس قيس سعيد، ورئيس الحكومة، هشام المشيشي، وكذلك أيضا بين الرئيس قيس سعيد، ورئيس البرلمان، راشد الغنوشي، واتساعها حتى اقتربت كثيرا من مربع اللاعودة.
وقالت هذه المصادر لـ”العرب” إن هذه الشخصيات التي لا تريد الكشف عن هويتها الآن، كثفت خلال اليومين الماضيين لقاءاتها لبلورة ما يُشبه “برتوكول عمل” يتضمن القواسم المشتركة التي يتعين التركيز عليها لتجاوز هذه الأزمة عبر تفكيك عناصر الخلاف، والحيلولة دون تحولها إلى أزمة دستورية سيكون من الصعب تسويتها بسبب غياب المحكمة الدستورية.
وعلى وقع هذه المعطيات التي ما زالت تتخللها الكثير من مناطق الظل بالنظر إلى التطورات المتسارعة التي اتخذت بعدا أمنيا من خلال الكشف عن محاولة لـ”تسميم” الرئيس قيس سعيد، أكد حسونة الناصفي، رئيس كتلة الإصلاح في البرلمان التونسي (17 مقعدا برلمانيا)، أهمية التهدئة في هذه المرحلة التي وصفها بالحرجة والمقلقة جدا.
وقال لـ”العرب” إن مثل هذا التحرك الذي يستهدف تحقيق تهدئة على قاعدة الحد الأدنى المشترك الذي يمكن البناء عليه، هو المدخل السليم لإيجاد حل لهذه الأزمة السياسية المتصاعدة بين الرئاسات الثلاث والتي وصلت إلى درجة خطيرة من التوتر الذي من شأنه إرباك العمل الحكومي وبقية مؤسسات الدولة.
حسونة الناصفي: مبادرة للتهدئة بدأت تتبلور لإيجاد حل للأزمة السياسية
ولم يتردد في القول إن هناك مبادرة حقيقية بدأت تتبلور في هذا الإطار، لتقريب وجهات النظر بين أطراف الخلاف، لافتا إلى أن كتلته النيابية تدفع بهذا الخيار، وسبق لها أن دعت الحكماء والعقلاء وكبار القوم في البلاد إلى ضرورة التحرك عبر القيام بدور إيجابي في هذا الإطار.
واعتبر أنه لم يعد هناك أي خيار آخر يمكن اللجوء إليه لحماية مؤسسات الدولة من التصدع، وتحصين العلاقة بين الرئاسات الثلاث من الانقسام الذي يجعل البلاد ضعيفة وهشة أمام الاستحقاقات والتحديات الكبيرة التي تواجهها.
وشدد في هذا السياق قائلا “نريد حدا أدنى من التفاهم بين الرئاسات الثلاث، ونُعول على تدخل الحكماء، ورؤساء المنظمات الوطنية الكبرى للقيام بهذا الدور الذي تستدعيه المصلحة الوطنية العليا، لجهة الحفاظ على الاستقرار السياسي، والتوافق بين الرؤساء الثلاثة، بعيدا عن الحسابات السياسية، والمصالح الحزبية التي ألحقت بالبلاد أضرارا كبيرة”.
ومع ذلك يرى مراقبون أن الظروف الموضوعية لم تنضج بعد لبلوة مبادرة من هذا القبيل، لأن أبواب الرئاسات الثلاث مازالت مُغلقة أمام بعضها البعض، ويصعب في الوقت الحالي تنظيم لقاء يجمع بين الرؤساء الثلاثة، رغم استمرار عدد من الشخصيات الوطنية في العمل بصمت على مُحاولة فتح تلك الأبواب، أو على الأقل إيجاد مخرج يؤدي إلى عقد هذا اللقاء.
هشام الحاجي: السياق السياسي الحالي يمنع ظهور مبادرة تدعو للتهدئة
وفي علاقة بهذه القراءة التي تكاد تحظى بالإجماع، أعرب الباحث السياسي التونسي هشام الحاجي في تصريح لـ”العرب” عن اعتقاده أن “السياق السياسي الحالي يمنع -وللأسف- ظهور مبادرة تدعو إلى التعقل وتجنيب انزلاق البلاد نحو مربع العنف الذي قد يصعب الخروج منه، وخاصة أن الاحتقان الاجتماعي وصل إلى مؤشرات مقلقة”.
وربط صعوبة نجاح مثل هذه الخطوة بأمرين اثنين، أولهما هو أن الرؤساء الثلاثة “يفكرون حاليا بمنطق المواجهة والصدام أكثر مما يفكرون بمنطق الحوار”، والثاني هو أن “حدة التجاذبات السياسية وأيضا تغييب الأكاديميين والمحايدين من المشهد قد أفقدا كلمة الحكماء الكثير من القدرة على التأثير والفعل”.
وتتردد تفسيرات أخرى عديدة لهذه القراءة التي جعلت الانطباع العام السائد حاليا في البلاد يميل نحو استبعاد ظهور مثل هذه المبادرة، باعتبار أن أخطر ما في هذه الأزمة هو أنها اتخذت منحى يندفع بقوة نحو التباعد أكثر من التقارب، وذلك بالنظر إلى تداعيات “الطرد المشبوه” الذي من خلاله سيطر ما سُمي بمحاولة “تسميم” الرئيس قيس سعيد على اهتمام الجميع.
وكانت الرئاسة التونسية قد أوضحت مساء الخميس ملابسات هذا “الطرد المشبوه” الذي وصفته بالخاص، حيث أكدت في بيان لها أنه “لا يحمل اسم المرسل، ويحتوي على مواد مشبوهة، وكان موجها إلى الرئيس قيس سعيد”، وقد تلقته مساء الاثنين الماضي، أي مباشرة بعد اجتماع مجلس الأمن القومي.
وأشارت إلى أن مديرة الديوان الرئاسي، نادية عكاشة، هي التي فتحت هذا الظرف “فوجدته خاليا من أي مكتوب، ولكن بمجرد فتحها للظرف تعكر وضعها الصحي وشعرت بحالة من الإغماء وفقدان شبه كلي لحاسة البصر، فضلا عن صداع كبير في الرأس”، وأن “أحد الموظفين بكتابة رئاسة الديوان كان موجودا عند وقوع الحادثة وشعر بنفس الأعراض ولكن بدرجة أقل”.
وأثارت هذه الحادثة جدلا مازال متواصلا داخل البلاد، وسط تقديرات بأنها ستشكل مُنعرجا خطيرا في العلاقة القائمة بين الرؤساء الثلاثة لجهة الدفع بخلق توازنات جديدة، ولاسيما أن صداها تردد خارج البلاد حيث تلقى الرئيس قيس سعيد اتصالات هاتفية من نظيره الجزائري، عبدالمجيد تبون، ومن أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني، ومن رئيس حكومة الوفاق الليبية فايز السراج اطمأنوا فيها على سلامة الرئيس قيس سعيد ”إثر محاولة التسميم”.