كتب – محمد علي الفاطمي
الرجل المجنون الذي يحلو له ان يحمل على ظهره اكياس بلاسيتكية وقرطاسية فارغة ويجمع فوقها علب قصديرية فارغة، يظل يجوب بها الشارع جيئةً وذهاباً بهمة ونشاط لا يكل ولا يتعب، ويتأبط عصا طويلة كأنه جنرال حرب. كان الرجل معروفاً في الحي بانه رجل مكافح في الحياة والعمل، ولا يدري احد ما الذي جعله يجن منذ اكثر من عشر سنوات مضت.
لكن احد زملائه في العمل كان يؤكد لاهل الحي ان حيدرة ليس مجنونا، ولكنه فقط استسلم للعصابة التي تسيطر على المؤسسة التي كان يعمل فيها، ازعجهم انه رجل صادق ونبيل ويحب عمل الخير والاخلاص في العمل وكانت لديه افكار وطنية تخيفهم، فاشاعوا عنه الجنون، وكانوا يطلقون عليه لقب “المجنون” حتى نسى الناس اسمه الحقيقي حيدره. وخلال عشرين عاما من العمل صار زملاؤه- الاعداء مجموعة مافيا لهم سلطة بطش وثروات هائلة وازداد هو فقرا و بؤسا. ولم يكن يملك سوى مشاعر وطنية ثورية يسميها ثروة لا تقدر بثمن. وكانوا يضحكون في وجهه ويسخرون منه ويهمسون “مجنون وطن”. وكانت الناس قد بدأت تكره كلمة وطن. واخيرا استسلم حيدره حين وجد ان كلمة “وطن” صارت من المعاني التي يخجل الناس عن ذكرها، ووجد نفسه وحيدا وغريبا، فقرر ان يختبئ في الجنون.
حيدره المجنون يجوب الان شوارع عدن، يقترب من الناس احياناً اذا ارد خبزا. وحين يخطف الخبز يولي مسرعا وصوت العلب الفارغة تعلو ضجتها خلفه.
وحين اندلعت الحرب وفر الناس من المدينة الى ضواحيها. عاد القلة بعد ثلاثة اشهر فكان نصف المدينة قد صار خرابا. وذات مرة ولازالت المدينة شبة خالية الا من بضع رجال يسيرون قرب السوق، ظهر حينها حيدره المجنون محملا بالعلب الفارغة وهو يجرها على ظهره.
وكان يصرخ في احدهم (اين كنت، لقد افتقدتك). ورغم ان الرجل يعرف حيدره المجنون الا انه اندهش وسأله (تفتقدني…كيف يحدث هذا). واكمل الجملة في سره (… وانت مجنون). قال حيدره (لا ادري…اريد خبز). ثم بدأت المدينة تتزدحم بالبشر بعد مرور اشهر عدة. وكان ان بدأ كثير من اهل المدينة حتى العقلاء المحترمين ينافسون حيدره المجنون في طلب (حق الخبز). ثم ظهرت مجاميع كثيرة تشحذ بعضهم يلبس الكرافت ويركض خلف اصدقائه يقبض عليهم ولا يفلتوا منه حتى يعطوه الف ريال. ثم تطور الامر وظهر ناس يخطفون النقود من زملائهم إذا رأوها في جيبوبهم.
و كان حيدرة المجنون هو اعقل منهم لانه يقف بعيد ويطلب بادب حق الخبز ثم يولي مبتعدا اذا اعطاه احد اول لم يعطه شيئا.
وقد شعر حيدره المجنون ان عالمه قد بدأت تلوثه انواع جديدة من البشر ففر واختفى عن الحي ولم يره اهل الحي منذ اكثر من عام.
وفي أخر مره رآه فيها اهل الحي قال احدهم انه يتمنى لو يكف حيدره عن حمل هذه الاشياء الفارغة، حينها لن يجرؤ احد على اتهامه بالجنون. وقال آخر: “شوفوا حيدره داخله شاعر يكتب بطريقته شعراً لا تقوى عليه الكلمات”. وفي اخر الايام قبل اختفائه كان يظل في موقفه منزوياً قرب السوق, لا يبالي ان كان سيعطيه احد شيئاً او لم يعطه. وكان يلف حوله العلب والبلاستيك الفارغة بعناية شديدة و يمضي وخلفه اكوام الاشياء الفارغة تصم الآذان بضجيجها.
حتى اليوم، لا احد يعرف لماذا يحمل حيدرة المجنون كل هذه الاشياء الفارغة، هل يريد ان يقول للناس شيئا. ربما ارد ان يقول “ان الحياة صاخبة ولكنها فارغة بلا قيمة تماماً مثل هذه المعادن الفارغة التي تحدث ضجيجاً لا يطاق”.