كتب : مرح البقاعي
لا يُسأل المواطن الأميركي عن عقيدته الدينية بهدف التعرّف إلى خلفيته الثقافية أو مرجعيته الاجتماعية، فالاعتقاد الديني حرية شخصية من الحريات المدنية للأفراد يكفلها الدستور الأميركي ومصونة قانونيّا لكل فرد، وهي ترتبط ارتباطا أخلاقيا بحرية الرأي والتعبير كما جاء نصا في التعديل الأول للدستور: “لا يحق للكونغرس إصدار أي قانون فيما يتعلق بتبني دين معيّن، أو يحظر الممارسة الحرة له، أو يختزل حرية التعبير أو الصحافة، أو حق الشعب في التجمع سلميّا وتقديم عرائض إلى الحكومة من أجل الإنصاف من المظالم”.
وضمن هذه الأجواء من الحريات المدعّمة قانونيّا بالعقد الاجتماعي الأسمى في الحياة الأميركية ازدهرت الديانات ومارسها أصحابها دون قيود أو تعقيدات في أجواء من التسامح المستقبِل للمعتقدات كافة، وازدهر الدين الإسلامي الذي يعتبر اليوم الدين الأسرع انتشارا في الولايات المتحدة وفقاً لدراسة أجراها مركز الأبحاث الاجتماعية في جامعة جورجيا، بينما وصل عدد المساجد إلى 1209 مساجد على امتداد الولايات الخمسين، وهي إلى جانب كونها دور عبادة للرجال والنساء تتضمّن عادة مراكز تعليمية ومكتبات وقاعات مؤتمرات وردهات للنشاطات الاجتماعية والعائلية.
من المهم أن يعي العالم الامتياز الذي تمتعت به الثقافة الإسلامية وكم أثرت في تاريخه وثقافته التي نشهد فورتها اليوم
في الولايات المتحدة تمكّن مسلمون أميركيون أن يتميّزوا أكاديميًّا وسياسيّا واجتماعيّا وأن يتبوّأوا مناصب عليا في الحياة الأميركية العامة، بينما احتفى بهم مواطنوهم ضمن أجواء من المنافسة تستند حصرا إلى معيار الكفاءة والأداء؛ وها هو الإعلام الأميركي يحتفي بالشاب الأميركي المصري المسلم، حسن شهاوي الذي وقع عليه اختيار واحدة من أعرق جامعات أميركا والعالم وهي جامعة هارفرد ليرأس تحرير المجلة القانونية التي تصدر عن الجامعة والتي سبق أن أدارها الرئيس باراك أوباما أثناء دراسته العليا للقانون في الجامعة عام 1990.
“مجلة هارفرد القانونية” هي مجلة عريقة كالجامعة التي تصدرها، تبلغ من العمر 134 عاما، وتناوب على رئاسة تحريرها قضاة ورجال قانون مرموقون منهم اثنان من قضاة المحكمة العليا الأميركية. أما حسن شهاوي فهو طالب في كلية الحقوق في جامعة هارفرد، وقد عمل محررا في المجلة قبل أن يقرر أن يُرشّح نفسه لرئاسة تحريرها في الشهر الأول من عام 2021، وبنجاحه في انتخابات رئاسة التحرير يكون أول مسلم يستلم هذا المنصب في تاريخ المجلة القانونية التي تمتلك أوسع توزيع في العالم بين الدوريات المتخصّصة في القانون. شهاوي المتخصّص في القانون الإسلامي والذي يأمل في إصلاح مبادئ العدالة الجنائية في الولايات المتحدة أفاد إثر انتخابه للمنصب قائلا “آمل أن يعزّز اختياري لهذا الموقع اعترافا، غدا متناميا لدى الأكاديمية القانونية، بأهمية التنوّع إلى جانب التقاليد القانونية”.
في الولايات المتحدة تمكّن مسلمون أميركيون أن يتميّزوا أكاديميًّا وسياسيّا واجتماعيّا وأن يتبوّأوا مناصب عليا في الحياة الأميركية العامة، بينما احتفى بهم مواطنوهم ضمن أجواء من المنافسة تستند حصرا إلى معيار الكفاءة والأداء
تقدّم جامعة هارفرد من خلال هذا الحدث نموذجا حيا للمجتمع الأميركي القائم على قوة التعددية الثقافية وسيادة القانون وترجيح المواطنة المتساوية على أي انتماء آخر، سياسيا جاء أم دينيا أم قوميا. فنهضة الشعوب تكمن في قدرتها على تحرير قدرات الفرد والفكر في آن، وإطلاق الحريات في الاختيار والتعبير التي تتجلى أعلى صورها في المشاركة السياسية، وكذا الاعتراف بالنسيج المجتمعي الذي يقوم على التعددية الثقافية والعرقية والدينية، مع الحرص على تدبير هذه التعددية وفق أسس ديمقراطية وحتمية إقرار حقوق المهاجرين -الذين يشكلون عصب الحياة الأميركية ورافدها الدافق- في العيش الكريم والاندماج، مع احترام خصوصيتهم الدينية والحضارية وتمكينهم في المجتمع الجديد المختار من خلال حق التعليم والاعتراف بالاختلاف الذي هو غنى وإضافة للمجتمع الأصلي، وبالمقابل مطالبتهم بتأدية واجباتهم كاملة في ظل مواطنة متساوية يصونها ويحميها الدستور.
أما السبق التاريخي لحدث هارفرد هذا فقدّمه المسلمون في مرحلة ذهبية من تاريخهم امتدت لخمسة قرون ونيف وأنتجوا خلالها للإنسانية نموذجا متقدّما عن الحياة المدنية ودولة المواطنة، حيث كان الفكر الاجتهادي الخلاق هو السائد وليس الفعل المتطرّف الموتور، الذي ينخر البنية الثقافية والاجتماعية لبعض المجتمعات المسلمة اليوم في ظل الاحتقان السياسي والاصطفاف المذهبي والانقسامات البينية، الأمر الذي يدفع منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى حافات الانزلاق والحروب الأهلية الطائفية، تلك التي نستطيع أن نتوقع انطلاق شرارتها الأولى لكن لن نعرف أبدا متى تخمد غلواؤها!
لقد حقّق الإسلام المدني المستنير في “الأندلس”، وهو الاسم الذي أطلقه المسلمون على دولتهم في شبه جزيرة إيبيريا، ذلك السبق التاريخي حين شكّلت الدولة التي أسسها الأمويون هناك مظلة جامعة تعايشت في وارفها الديانات والمذاهب والطوائف كافة، بل وازدهرت الحياة بمختلف صنوفها، العلمية والإدارية والفنية والعمرانية والاجتماعية، في ظل الحس الجمعي بالمواطنة بعيدا عن ممارسات التهميش العرقي أو الاضطهاد الديني؛ إسلام هيّأ السبل للمرأة العربية لتجد طريقها إلى سدة الولاية والشعر كما ولادة المستكفي في عصرها، إسلام استشرف الحالة المدنية في شريعته وأطلقها في ممارساته السياسية بعيدا عن الغيبيات والمكابرات الفقهية والفتاوى.
ضمن الأجواء من الحريات المدعّمة قانونيّا بالعقد الاجتماعي الأسمى في الحياة الأميركية ازدهرت الديانات ومارسها أصحابها دون قيود أو تعقيدات في أجواء من التسامح
وقد سجّل التاريخ أمّ حضارة الأندلس. تلك الحضارة “العربية” بحكم المنشأ و”الإسلامية” بحكم الإنتاج. لقد ارتفعت على أيدي مسلمين ومسيحيين ويهود، وحتى لادينيين، من الأقاليم التي دخلت في جغرافيا الدولة. وكان المسيحيون يعملون جنبا إلى جنب مع المسلمين لترجمة الفلسفة الإغريقية وإحيائها. وفي رياض الأندلس قام المسلمون بتطوير ثقافة التعايش مع اليهود.
فصل المقال يكمن في دحض الخطأ الشائع أن الثقافة الإسلامية ظاهرة تخصّ منطقة بعينها ولا تعني الشعوب خارج الحدود الجغرافية والفكرية والعقائدية للإسلام، وهذا بعيد عن الصواب كليّا. فالشرق العربي الذي يقع في القلب من العالم كان في فترته الذهبية محطة لمداولة وصهر الثقافات من كانتون في الصين مرورا ببخارى وسمرقند ووصولاً إلى تولوز وبواتييه الفرنسيتين. كما من المهم أن يعي العالم الامتياز الذي تمتعت به الثقافة الإسلامية وكم أثرت في تاريخه وثقافته التي نشهد فورتها اليوم، ولعل قرار جامعة هارفرد مَنْح شهاوي منبرا مؤثرا في مؤسستها أحد مظاهر هذا الوعي.
نقلا” عن العرب اللندنية