الاثنان وقفا ضد النزاعات بين المذاهب والتقاليد الموروثة
كتب : عماد الدين الجبوري
في الحلقة السابقة، تناولنا بإيجاز منهج الشك عند رينيه ديكارت، والقواعد الأربعة الموصلة إلى اليقين، وأن الحدس والاستنتاج هما المسلكان اللذان يؤديان إلى معرفة الحقيقة، وأهمية التجربة التي تجعلنا قادرين على تبيان هذا العالم، إذ إن درجة اليقين تقترن بمدى معرفتنا بوقائع التجربة.
استنتاج
إن اعتماد ديكارت على بعض القضايا الحدسية كونها تمدنا بالحقائق الماورائية، إلا أن قيمة نجاحها ومدى إثبات قوة اليقين فيها لا تكون إلا عن طريق الشك المنهجي. وهنا ديكارت، إنما يتبع خطوات الغزالي بفحص المحسوسات والعقليات فشك فيهما، وأثبت عجزهما في تحصيل المعرفة اليقينية. فالحواس تُحرف الصفات والعلاقات المُدركة، فلا يمكن أن نصدق تأكيدات حواسنا، والعقل أيضاً لا يمكن الركون إليه دوماً. فهناك من يخطأ في المحاكمات الرياضية، فلماذا لا تكون محاكمتنا خطأً حينما نعتقد أننا نجري محاكمة صحيحة؟ ويصل ديكارت إلى القول، إن التجربة الذاتية الخاصة هي وحدها الموصلة إلى المعرفة اليقينية. فالحقيقة إن هي إلا ذاتية بحتة.
وإذا استند ديكارت في التجربة الذاتية الخالصة على مبدأ “أنا أفكر إذاً أنا موجود”، فإن هذا الأمر إنما هو تحوير لقول الغزالي “أنا أريد إذاً أنا موجود قادر”. فهل هذا محض صدفة؟
وفي كتابه “مقال في المنهج” عام 1637، يقول ديكارت “كانت الموضوعات التي درستها قليلاً عندما كنت أصغر سناً، من بين فروع الفلسفة والمنطق والرياضيات والتحليل الهندسي والجبر. إن هذه الفنون أو العلوم الثلاثة يجب أن تقدم بعض الإسهامات في هدفي”. (المصدر السابق) ص 19. فهل يُعقل أن يدرس ديكارت تلك العلوم في مقتبل شبابه، ولم يطلع على “المنقذ من الضلال” أو غيره من المؤلفات الفلسفية العربية؟ خصوصاً أنه يمتلك هدفاً يسعى إلى تحقيقه.
كما أن كتابه السالف الذكر، وفق قول مونري بياردسلي “في الواقع، كما نرى في الفصل الأول من “مقال في المنهج” كان هذا بطريقة ما بداية فلسفته”. (الفلاسفة الأوروبيون من ديكارت إلى نيتشه، طبعة إنجليزية) ص 2.
ثمة أمر آخر، في المؤتمر العاشر للفكر الإسلامي، الذي انعقد في عنابة في الجزائر عام 1971، كشف عثمان الكعاك (1903-1976) عن حقيقة أذهلت جميع المؤتمرين، ذكر أن محمد عبد الهادي أبو ريدة (1909-1991)، الذي كانت تربطه بالكعاك علاقة وثيقة، طلب إليه أن يعاونه في عمل بحثي يتوفر عليه أبو ريدة بخصوص تأثير الغزالي في الفكر الغربي، وبما أن الكعاك كان يعمل أميناً عاماً للمكتبة الوطنية، فإنه استطاع أن يصل إلى مكتبة ديكارت، فوصل إليها وبدأ يطالع، وفُجئ الكعاك بنسخة من كتاب الغزالي “المنقذ من الضلال” مترجمة إلى اللاتينية في مقتنيات ديكارت، وبقلم ديكارت خطوط حمراء تحت أكثر من فكرة من أفكار الغزالي، منها قول الغزالي “الشك أولى مراتب اليقين”، ومكتوب عليها “ينقل هذا إلى منهجنا”، أي إلى كتاب “مقال في المنهج”، وهذه سرقة واضحة بخط ديكارت نفسه. وتجاه هذه الحقيقة الخطيرة، في اليوم التالي للمؤتمر وجد الكعاك ميتاً في غرفته! وحينها قال محمد سعيد البوطي (1929-2013) “لا ندري ماذا حصل؟”، فلا أحد يعرف إن وافته المنية أم قُتل.
ومن الذين أكدوا سرقة ديكارت لبعض أفكار الغزالي، لا سيما من كتاب “المنقذ من الضلال”، كل من محمود حمدي زقزوق (1933- 2020) في كتابه “المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت” 1983، ونجيب محمد البهبيتي (1908-1992) في كتابه “المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين” 1985. وكذلك أقر زكي نجيب محفوظ (1905- 1993) في كتابه “رؤية إسلامية” أن الشبه الشديد بين الغزالي وديكارت تتصل بالمنهج وليس بالمحتوى، ففي كتاب “محك النظر” للغزالي تقرأ عن خطوات المنهج الذي يؤدي بالإنسان إلى اليقين، حتى تجد نفسك على وشك أن تتساءل، ماذا بقي بعد ذلك لديكارت؟
وعلى الرغم من أن شكوكية ومنهجية ديكارت والغزالي كانت ذاتية بحتة، ونتائجها ترتكز على الجانب الروحي أكثر من العقلي، والاثنان وقفا ضد النزاعات بين المذاهب والتقاليد الموروثة، وبذلك كان المنهج عندهما واحداً، لكن الأمانة العلمية توجب على ديكارت أن يذكر الاقتباسات التي نقلها من الغزالي، وربما أن ديكارت لم يدرس بشكل تخصصي ليكون أستاذاً جامعياً، بل درس العلوم بشكل عام، لذلك ينقصه الانتباه إلى أهمية الأمانة العلمية في البحوث والدراسات، إلا أن هذا ليس مبرراً كافياً يمنعه من الاعتراف بأنه نقل من الغزالي أو غيره، فعلاوة على الأمانة العلمية، هناك الأخلاق والرجولة التي توجب على الشخص المحترم أن يعترف إن أخذ شيئاً من غيره.
إن طريقة ديكارت مريبة ألا يذكر اسم المصدر، على سبيل المثال، في مطلع الفصل السادس من كتابه “مقال في المنهج” يقول “لقد مرت ثلاث سنوات حتى الآن منذ أن انتهيت من الرسالة التي تضمنت كل هذه الأمور، وبدأت في مراجعتها لكي أرتبها للطباعة، عندما علمت أن بعض الأشخاص الذين أعمل معهم، والذين ليس لديهم سوى سلطة قليلة على أفعالي أكثر مما يمتلكه عقلي الخاص على أفكاري، وقد رفضت نظرية فيزيائية نُشرت قبل ذلك بقليل من قِبل شخص ما”. وهذا الشخص الذي لم يذكر اسمه ديكارت، هو غاليلو غاليلي، أحد أهم الأقطاب العلمية في عصر النهضة الأوروبية. ص 45
على أي حال، ليت الكعاك صور تلك الصفحات التي تثبت سرقة ديكارت لعلوم الغزالي، ولا أعتقد أن المكتبة الوطنية في باريس تسمح لأي باحث عربي أن يتحقق من هذا الأمر، لكن ما ذكره الكعاك مكتوب في محاضر المؤتمر، ولقد أورده كثيرون، منهم محمود زقزوق ومحمد البوطي وأنور الجندي وغيرهم من الذين فاجأتهم هذه الحقيقة في كشف سرقة ديكارت لأفكار الغزالي.
الحق والحق يقال، إن تأثير الغزالي لم يكن على ديكارت فحسب، بل على ديفيد هيوم وجورج بركلي وعمانؤيل كانت وآخرين من الفلاسفة الأوروبيين الذين انتحلوا من أفكاره، وحوروها من دون أن يفصحوا عنها، فالسببية التي ركز عليها هيوم، لا تبتعد عن مفهوم الغزالي، وكذلك رأي بركلي، أن أشياء الواقع الخارجي هي صور طبعها الله في عقولنا، أو مفهوم كانت، أن العقل يؤلف صور الواقع الخارجي، فهي تسير على مقربة من أفكار الغزالي في العلم الإلهي والعقل الإنساني.
وليت الأمر يتعلق في سرقة الفلاسفة الغربيين إلى الغزالي فحسب، فابن رشد الذي أثرت فلسفته على العقلية المسيحية الأوروبية، وكان الرشديون الأوروبيون في طليعة يقظة العقل المسيحي من الانغماس في غيبوبة التصوف والهيمنة الدينية، وتمت مطاردتهم ومحاربتهم، فلماذا يتغافل ديكارت وكانت وهيوم وغيرهم عن ذكر ابن رشد كما فعلوا مع الغزالي؟
نقلا” عن أندبندنت عربية