كتب: نيكولاس نياركوس ترجمة: عبدالله قائد- خاصة بـ “الشارع”
في الأسبوع الماضي، تعهد الرئيس بايدن بإنهاء دعم الولايات المتحدة للحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
كما نقض تصنيف إدارة ترامب للجماعة المتمردة المتحالفة مع إيران والتي تعرف باسم الحوثيين بالجماعة “الارهابية”، وهي الجماعة التي يخوض السعوديون معركة ضدها.
وقد رحبت جماعات حقوق الإنسان بهذين التحركين باعتبارهما بادرة أولى جيدة في محاولة إحلال السلام في هذا البلد الممزق، الذي دخل عامه السادس من الحرب.بيد أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي فعله من أجل إنهاء العنف والمعاناة التي نجمت عن الحرب:
فقد قتل أكثر من مئتين وثلاثة وثلاثين ألف شخص نتيجة للحرب؛ ويعيش حالياً نحو 16 مليون يمني في أوضاع تتسم بانعدام الأمن الغذائي؛ وحذرت الأمم المتحدة مؤخراً من أن بعض أجزاء البلاد تنزلق إلى المجاعة.
إن مجرد إنهاء التدخل الأمريكي لا يمكن أن يجلب السلام إلى اليمن؛ ويلزم بذل جهود فعالة لبناء السلام. ففي رحلة قمت بها مؤخراً إلى البلد، رأيت البلد أكثر انقساماً من أي وقت مضى، حيث تتنافس خمس جماعات مسلحة على الأقل (وعدد كبير من الميليشيات المحلية) على السيطرة على الأراضي.
لقد فاقمت الحرب وعرّت مشاكل عرقية ودينية ومشاكل في البنية التحتية، والتي سمح لها بالتطور في عهد علي عبد الله صالح، وهو رجل قوي دعمته الولايات المتحدة أولاً بسبب موقفه المناهض للشيوعية، ثم بسبب تعهداته بمحاربة تنظيم “القاعدة” والجماعات الإسلامية الأخرى.
وإذا كان لا بد من إحراز أي تقدم، فإن ذلك سيتحقق بإشراك جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك أفقر الأطراف في المجتمع، من أجل خلق بلد لا يُهمل فيه المهمشون، ولا يسمح فيه للمظالم أن تتفاقم حتى تؤدي إلى إراقة الدماء.
ويقع على عاتق الدول التي رعت الحرب التزام بمساعدة اليمن على الخروج من فوضى العنف التي غرق فيها. فمنذ بدء قصف اليمن قبل ست سنوات، دعمت الولايات المتحدة لوجستياً محاولة التحالف الذي تقوده السعودية التغلب على الحوثيين، وزودت طائرات التحالف بالوقود.
كما باعت الولايات المتحدة أسلحة بقيمة تزيد عن 60 مليار دولار إلى المملكة العربية السعودية، حتى أنه كان واضحاً منذ الأيام الأولى من الحرب أن عمليات قصف القوات الجوية السعودية لم تكن تصيب أهدافاً عسكرية فحسب، بل المدنيين أيضاً: المصانع والآبار والمدارس والمستشفيات والمنازل.
ومع بدء الحرب، في عام 2015، أصبح وادي القاضي، وهي ضاحية متهالكة في مدينة تعز الوسطى، ساحة معركة.
بدأ السكان في الفرار مع سقوط صواريخ الحوثيين بين منازلهم، ودمرت الذخائر السعودية منازلهم.
تم تقسيم المدينة بوحشية بين تجمع للميليشيات، قوات مدعومة من التحالف والمتمردين.
وكما كان يقول أحد رؤساء المنطقة: الحرب تؤثر على الجميع، وليس على الجنود فقط.
قال لي بيان فؤاد، وهو غسال للسيارات في الثلاثينات من عمره من وادي القاضي: “كان هناك معسكر للقوات الجوية في مكان قريب.
وكان الحوثيون قد استولوا على المعسكر في أوائل عام 2015، وكان التحالف يحاول طردهم.
عندما جاءت الطائرات وقصفت المعسكر، أصابت قريتنا”.
قدّر فؤاد أنّ حوالي مئة شخص من المنطقة قُتلوا في إحدى الغارات عندما سقطت قنابل بين بيوتهم، لكن كما هو الحال مع العديد من الأحداث التي وقعت في اليمن، كان من الصعب تحديد عدد الإصابات.
الموارد (الطبية، الحكومية) في كثير من الأحيان ليس لديها إحصائيات بعدد القتلى.
ينتمي سكان الضاحية إلى المهمشين، وهم طائفة من اليمنيين المنبوذين، الذين يقومون إذا كانوا يعملون، بالأعمال الأكثر وضاعة – جمع الخردة المعدنية، وكنس الشوارع، وتنظيف السيارات.
فعلى عكس اليمنيين الآخرين، الذين ينتمون إلى قبائل باستطاعتها دعمهم في أوقات الاضطرابات، فإن المهمشين هم خارج النظام القبلي.
ينظر إلى المُهمشين بنظرة دونية من قبل أشخاص آخرين في البلاد – ويُشار إليهم أيضاً باسم الأخدام (الخدم)، ويُنظر إليهم على أنهم قذرون.
ويعزز ذلك التصور الغامض بأنهم أحفاد المحتلين الإثيوبيين القدماء في اليمن، ولأن العديد منهم لديهم بشرة أكثر قتامة من العرب اليمنيين الآخرين.
والعديد من النازحين داخلياً والجياع في البلد ينتمون إلى هذه الفئة.ويقول ناشطون من بين المهمشين، إن التمييز يعود إلى استعبادهم في القرن الثاني عشر.
وعلى الرغم من إلغاء الطبقات الاجتماعية والرق رسمياً في الستينات، فإن المهمشين غالباً ما يظلون محاصرين بقيود نظام قبلي، حيث غالباً ما توجد العدالة من خلال القنوات غير الرسمية. تقول مقولة شعبية: “لا تأكل مع الأخدام لأن الدود تخرج من صحون أكلهم”.
كانت مستوطنة المهمشين في وادي القاضي نموذجاً لأحياء الأقلية في جميع أنحاء البلاد: الأكواخ والأكواخ المنحدرة السطح المشقوقة إلى محيط مدينة كبيرة.
ومع ذلك “كانت الحياة مثل الجنة”، بحسب عائشة، الجدة التي كانت تعيش في المنطقة في ذلك الوقت. “نعم، كنا زبالين، ولكن على الأقل كان لدينا رواتب ثابتة”.
بعد الضربة السعودية التي وصفها بيان فؤاد، قرر المهمشون في وادي القاضي الفرار جنوباً، وساروا وشدوا رحالهم عبر الوديان الجبلية الملتوية.
وعلى طول الطريق، تحولت الخطوط الأمامية فيما بين الميليشيات والجماعات المتمردة.
وبعد حوالي 40 ميلاً، وصلوا إلى مدينة التربة، التي أصبحت مختنقة باللاجئين الفارين من القتال إلى الشمال.
وقد نزحت نحو 8000 عائلة (يبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة في اليمن حوالي سبعة أشخاص) إلى التربة.
ويقدر عدد النازحين داخلياً في جميع أنحاء اليمن في الوقت الراهن بسبب الحرب بنحو 4 ملايين شخص.
وفي التربة، استقر سكان وادي القاضي في مدرسة الفجر الجديد، وهي عبارة عن مجمع يضم ثلاثة مبانٍ ومنشآت خرسانية تخدم 1200 طالب.
الآن، تعيش 57 عائلة في المدرسة، والطلاب لديهم فقط 11 فصلاً للدراسة.
المعلمون في جميع أنحاء اليمن يأسفون لما آل إليه التعليم خلال فترة الحرب.
قال لي أستاذ من تعز مؤخراً: “مستقبل اليمن إلى الضياع”.أصبحت مدرسة الفجر مخيماً للنازحين داخلياً، بدعم من منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة، لكن الموارد شحيحة، وبالكاد تستطيع الأسر إعالة نفسها.
اشتكى السكان هناك من ندرة بطانيات التدفئة لأمسيات التربة الباردة، ونقص الكهرباء، والهياكل الرديئة التي يضطرون للعيش فيها أولئك الذين يعيشون خارج الفصول الدراسية.
بعد ست سنوات من الحرب، يعتمد اليمن بشكل كبير على المساعدات من دول أخرى، وبسبب نقص التمويل الإنساني في عام 2020 من دول الخليج وخفض المساعدات من قبل إدارة ترامب، يتم تمويل 50 في المئة فقط من برامج الأمم المتحدة في اليمن.
تتفاقم مشاكل اليمن بسبب تضخم أسعار العملة المفرط، الذي جعل الغذاء غالياً أكثر إلى حد كبير.
عندما زرت مدرسة الفجر في ديسمبر الماضي، قيل لي مراراً وتكراراً إن الناس لا يستطيعون إعالة أنفسهم، وإن الصدقات النقدية ليست كافية لإطعام أسرهم.
سمعت أنه قبل يوم من زيارتي، تم نقل طفلين إلى المستشفى مصابين بسوء التغذية الحاد الشديد، وهي حالة يمكن أن تؤثر في نمو الطفل لبقية حياته.
وأثناء وجودي في المدرسة، اقتربت مني أماني عبد السلام، وهي أم تبلغ من العمر 23 عاماً. وقد أمسكت بعلبة من حليب الأطفال المجفف وقالت: “كل واحد من هذه تكلف حوالي خمسة دولارات، وهذا يقتضي أسبوعين من العمل على الأقل”.
دخلت الخيمة التي تعيش فيها خلف أحد مباني المدرسة وأحضرت ابنتها البالغة من العمر شهراً واحداً، التي كانت قد لفتها في لحاف فرو قذر. الهواء يعج بالذباب ورائحة من البراز المتعفن. قالت: “لم تفتح عينيها بعد، ليس لها شهر. الأطفال بحاجة إلى الحليب”.
عدد أقلية المُهمشين يتراوح بين خمسمئة ألف وثلاثة مليون ونصف نسمة (من الصعب الحصول على أرقام دقيقة، كما هو الحال في اليمن في كثير من الأحيان، من الصعب الحصول عليها).
وعندما ينزحون، فإنهم معرضون للخطر بشكل خاص.
قالت رانيا رجي، وهي أكاديمية درست “المهمشين” وألّفت تقريراً عن الجماعة في عام 2016، إن الحرب كشفت عن نقاط ضعف النظام اليمني.
وقالت: “بالنظر إلى مدى خطورة الوضع الإنساني في اليمن، ومدى شدة النزاع الذي أثر في عامة السكان، من الطبيعي أن يؤثر ذلك بشكل غير متناسب على الأشخاص المعرضين للخطر بالفعل على المستوى الاجتماعي والاقتصادي”.
وقالت راجي، إن المهمشين “معرضون للخطر من خلال عدم معرفتهم بأنهم عرضة للخطر”.
“لا يُسمح لهم بالزواج من خارج طائفتهم.
إنهم يعيشون في أحياء فقيرة، ولا يندمجون في المدن الرئيسية”.
قبل الحرب، كان يجري إحراز بعض التقدم نحو دمج المهمشين في الحياة الطبيعية.
في مؤتمر الحوار الوطني، الذي تمّ إقامته لتشريع أقلمة البلاد بعد ثورة عام 2011، كان المُهمَشّون مُمثَّلين، وإن كان ذلك بشكلٍ غير كاف، فلم يكن لهم سوى مقعد واحد في المجلس الذي يضم 565 شخصاً.
وتحت يافطة الاتحاد الوطني للمهمشين، تمكن نشطاء المهمشين من الدفاع عن حقوق مجتمعهم، مثل القدرة على شراء العقارات، التي لم تمنح للكثيرين، لا سيما في المناطق الريفية.أخبرتني راجي أنه عندما جاءت الحرب، تم جرف الكثير من هذا التقدم، وكان المهمشون من بين أوائل من نزحوا، وكثيراً ما كانت المجتمعات المضيفة متحيزة ضدهم بشدة.غير أن المُهمَشّين لا يستطيعون العودة إلى ديارهم بأمان مثل بقية النازحين.
يعيش سكان مدرسة الفجر هناك منذ ما يقرب من ست سنوات.
يشعر معظمهم بالرعب من احتمال العودة إلى وادي القاضي.
قالت لي زينب الربوعي، وهي سيدة شابة ترتدي غطاء رأس أصفر: “قبل شهر، عدنا إلى حينا لحضور حفل زفاف.
وعندما غادر موكب العروس الخيمة، أصيب أحد الضيوف برصاصة قناص”.
التمييز ضد المُهمشين في مدرسة “الفجر” شديد. قال لي السكان إن البلطجية يأتون ليلاً لمضايقة المهمشين وسرقة دراجاتهم النارية.
قال لي بلال عبد الربوعي، وهو شاب ذو لحية معقوفة: “لا يوجد عمل هنا.
لا أحد يريد أن يستأجرنا بأي شيء.
لا يمكننا سوى غسل السيارات والتسول”.في السنوات القليلة الماضية، تعرضت الحكومة المحلية لضغوط لنقل النازحين من مدرسة الفجر. في مرحلة ما، تم تخصيص مساحة من الأراضي الزراعية خارج المدينة لهذا الغرض، ولكن عندما ذهبت مجموعة صغيرة من سكان الفجر إلى هناك، هددهم مزارع محلي وحذرهم من العودة.
قال لي حسام المشراكي، رئيس الوحدة التنفيذية للنازحين في الحكومة المحلية، إن من الصعب جداً الاحتفاظ بهم في المدرسة.
وكانت لجنة المدرسة قد احتجت لدى الشرطة، وكان التهديد بالإخلاء يخيم على النازحين باستمرار.في الآونة الأخيرة، قيل لي إن موقعاً جديداً، على قطعة أرض ريفية، تسمى دبع الداخل، كان جاهزاً تقريباً لسكان مدرسة الفجر للانتقال إليها.
عندما كنت في المدرسة، سمعت من العديد من السكان أنهم لا يريدون الانتقال، لأن السوق في التربة على الأقل سمح لهم بالحصول ببقاء أساسي.
وقال المشراكي: “ليس لدينا خيار آخر سوى بإبعادهم”.
وعندما وصل أهالي وادي القاضي إلى التربة، انتخبوا ممثلاً، شيخاً، للتوسط بينهم وبين مجتمعهم المضيف.
عبده سعيد الربوعي في الخمسينات من عمره (“لم نتلق شهادات ميلاد”) ولديه سلسلة من الأسنان الذهبية التي تميل إلى الوميض بابتسامة عريضة “لدي هذه الأسنان منذ 10 سنوات..
من قبلها لم يكن لدي أي أسنان”.عندما سألته إن كان هناك تمييز ضد المُهمشين في مقرهم الجديد، أعطى ابتسامة.
وقال: “الناس هنا ينظرون إلينا كجرح.. إنهم يريدون إزالة ذلك الجرح من أجسادهم”.
غادر عبده سعيد، مثل البقية، وادي القاضي بسبب الحرب، “القصف المستمر، الألغام، قذائف الهاون”. وعندما سألته عما إذا كان أي من المهمشين قد انجروا إلى القتال، أجاب: “المهمشون لا يقاتلون. نحن نتعامل مع الناس على قدم المساواة”.
ألح الربوعي بإصرار على أن المهمشين يمنيون يجب أن يشاركوا في المجتمع اليمني وفي أي عملية سلام.
وينبغي أن يشاركوا في جهود السلام أيضاً: فمن واجب جميع اليمنيين العمل على إنهاء الحرب وإعادة بناء البلاد.
وقال الربوعي إن الحرب تسحق جميع المجموعات، ويتعين على الجميع أن يشعر بالحزن لرؤية البلاد تتحطم بالعنف والقتل. وأضاف: “إنني أشعر بأسى وطني كما يشعرون به”.. “لا يوجد فرق فيما بيننا وبينهم. الفرق الوحيد لدينا هو لون بشرتنا”.
نيكولاس نياركوس: صحفي مستقل تركز أعماله على الصراعات والهجرة.
نشر هذا التقرير في صحيفة “ذي نيشن”