المعرفة هي مطابقة الفكرة للشيء
كتب : عماد الدين الجبوري
تعود الفلسفة التوماوية إلى الراهب والقديس الإيطالي توما الأكويني (1225-1274)، الذي أسس مذهباً جديداً في علم اللاهوت أو الفلسفة الإلهية. وبالرغم من تأثره بأرسطو، لكنه دحض المفاهيم الفلسفية التي ترفع قيمة العقل على الدين، “لأن العقل البشري قاصر ومحدود”.
كما أنه رد بقوة على ابن رشد الذي أثرت أفكاره ليس على العلماء المدرسيين فحسب، بل على رهط كبير من المفكرين في أوروبا في القرن 12 الميلادي، إذ إن رجال الدين كفّروه، أما رجال الفلسفة، فعدّوه مؤمنا مخلصاً.
وضع الأكويني مؤلفات عدة، أهمها “الخلاصة اللاهوتية”، الذي باشر كتابته عام 1265 حتى سنة وفاته، ونُشر في 1485، مع أن الكتاب بمجمل أجزائه لم يكتمل نهائياً، إلا أنه أحد الأعمال المهمة في تاريخ الفلسفة الغربية، وكذلك في الأدب الغربي، ومصدراً رئيساً للعقيدة الكاثوليكية. ومن بين ما طرحه الأكويني “البراهين الخمسة” وهي أدلة منطقية يستخدم فيها منهج التحقيق في إثبات وجود الله، ويمكن إيجازها بما يلي:
البرهان الأول: المحرك غير المتحرك. فكل شيء يتحرك وتتصل حركته بشيء آخر، مثلاً المركبة الشراعية تتحرك بدفع الهواء، والعربة بسحب الحصان، وهكذا وفق سلسلة مترابطة من الجزئيات والكليات، وكلها تتلقّى حافزاً للعمل من خارج ذواتها، إذ لا يمكن أن تستمر سلسلة الحركات إلى ما لا نهاية لها، وإلا فلن يكون هناك محرك أول، ولن تكون الحركة موجودة أصلاً. وعليه، يجب أن يكون هناك مصدر أساسي هو علّة كل متحرك، إذ لا بد من بلوغ إلى محرك أول هو علّة كل حركة، ولكن هو في حد ذاته لا يتحرك وليس عرضة إلى تأثير قوى أخرى، وهذا المحرك الرئيس هو الله.
البرهان الثاني: العلة الفاعلة. إن كل شيء وكل ظاهرة هي نتيجة لسبب مثمر، فالشجرة تنمو من البذرة، والكائن يولد من الأم، والزجاج مصنوع من الرمل، وهلم جرا. وفي الوقت ذاته، لا يوجد شيء في العالم يمكن أن يكون هو السبب في ذاته، لأنه سيكون من الضروري إدراك وجوده قبل ظهوره، فالبيضة لا يمكن أن تكسر نفسها، والمنزل لا يمكن أن يبني نفسه، وبذلك تظهر مرة أخرى سلسلة من العلل والأسباب التي لا نهاية لها، لذا لكل حادث مفعول، وكل مفعول يفترض فاعلاً، ولا تكون سلسلة الأفعال إلا بوجود فاعل أول، الذي يكون وجوده ليس نتيجة إلى السبب الواقعي، بل السبب الثابت، فإن لم يكن الأمر كذلك، لما كانت هناك عملية لإيجاد العلل والأسباب، وهذه العلة الفاعلة هو الله.
البرهان الثالث: حجة الوجود. ويستند هذا الدليل إلى قانون السبب والنتيجة أيضاً، فهناك أشياء عشوائية في العالم قد تكون موجودة أو غير موجودة، لكن من المستحيل أن نتخيّل بأنها تنشأ من تلقاء نفسها، ولذلك يجب أن يكون هناك سبب لظهورها، وهذا يقودنا إلى افتراض وجود مثل هذا الكائن الذي سيكون ضرورياً في حد ذاته، ولن تكون له أسباب خارجية لتكون ضرورة لجميع الآخرين، وهذا الكائن هو الله.
البرهان الرابع: أفضلية المقارنة. وفق المنطق الأرسطي في إثبات وجود الله، يقول أحدهم إنه في كل الأشياء الموجودة في العالم، تظهر درجات متفاوتة من الكمال، وهذا يشير إلى مفاهيم الخير والجمال والنبل وأشكال الوجود. وبالرغم من ذلك، فإن درجة الكمال معروفة من قِبلنا بالمقارنة مع شيء آخر فحسب، وهي نسبية، وبذلك يجب التمييز بين ظاهرة معينة ومنحها درجة الكمال. على سبيل المثال، يمكنك مقارنة الأشياء الجميلة في ما يتعلق بأسوأ أو أفضل الأشياء، ولكن يجب أن يكون هناك معيار مطلق يستغرق الكمال كله، والذي لا يمكن أن يكون عليه شيء، وهذه الظاهرة الأكثر مثالية من جميع النواحي والسمو هو الله.
البرهان الخامس: حجة الغائية. إن السبب الجذري في المغزى والصلاحية بما يمتلكه هذا العالم والكائنات الحية التي تعيش فيه، فالإنسان يسعى إلى شيء أفضل، سواء بوعي أو بغير وعي في تحقيق بعض الأهداف، مثل الإنجاب أو وجود مريح وما إلى ذلك. فالتصرف في الحالتين معقول، الواعي يصدر تصرفه عن عقل فيه، وغير الواعي يصدر تصرفه عن عقل ليس فيه. وعليه، لا بد من وجود كائن أعلى يهيمن على العالم بذكاء ويخلق أهدافه للجميع، وهذا الكائن في حد ذاته لا يمكن أن يكون إلا الله. (طبعة إنجليزية).
من الواضح أن أدلة الأكويني الخمسة أعلاه، ترتكز على مادية هذا العالم فحسب، إذ إن الأسباب والنتائج المعقدة بالرغم من كونها مختلفة العواقب، لكنها برمتها تعود إلى سبب جذري واحد، أو العلة الفاعلة لوجود هذا العالم وهو الله. وهذا ما يرمي إليه الأكويني، إذ لم يتطرق إلى الجوانب الروحية والنفسية، ولم يزجّ العقل بالبحث في الماورائيات، بل اتخذ من العالم الطبيعي في أشيائه وظواهره وأسبابه ونتائجه مدخلاً يثبت فيه وجود الله الخالق للوجود بأسره.
ومن الممكن أن يثار السؤال، لماذا لم يتناول الأكويني الجانب الروحي في براهينه الخمسة؟ ربما أراد إثبات وجود الله من منطلق الفيلسوف لا القديس، ولذلك طرح افتراضات وتصورات ذهنية من عالم الفكر إلى عالم الواقع.
في أي حال، إلى جانب الطرح اللاهوتي، تناول الأكويني مواضيع أخرى في المنطق والأخلاق والسياسة والطبيعة وغيرها، إذ زادت أعماله على الستين عملاً.
في “المنطق”، يرى الأكويني أن المعرفة نتاج طبيعي يحصل عليها الإنسان من خلال حواس الجسم الخارجية من جهة، ومن خلال الحاسة الداخلية بالشعور بالذات من جهة أخرى. وهي معرفة محدودة وقاصرة، لكن ضمن حدودها خليقة بأن يوثق بها، ولا حاجة بنا أن يتولّانا الغضب من أن العالم الخارجي قد يكون كله خداعاً في خداع.
ويوافق تعريف المدرسيين بأن المعرفة هي مطابقة الفكرة للشيء. فإذا كان العقل يستمد كل معلوماته الطبيعية من الحواس، فإن معرفته المباشرة للأشياء الخارجية عنه مقصورة على الأجسام، أي عالم الحس والمحسوس، وليس في مقدوره أن يعرف من طريق مباشر العالم الذي فوق المحسوس، عالم ما وراء الطبيعة، العقول التي في داخل الأجسام أو الله في خلقه، ولكن في وسعه عن طريق المقارنة والقياس أن يستمد من تجارب الحس معرفة غير مباشرة بالعقول الأخرى، وأن يحصل بمثل هذه الطريقة على معرفة مباشرة بالله.
أما العالم الإلهي، فليس باستطاعة عقل الإنسان أن يعرف عنه شيئاً إلا عن طريق الوحي الإلهي. ومع ذلك، بمقدورنا أن نعرف طريق الفهم الطبيعي أن الله موجود، وأنه واحد، لأن وجوده ووحدانيته تتلألآن في عجائب العالم وحسن تنظيمه، ولكننا لا نستطيع بعقلنا وحده أن نعرف جوهره أو حقيقة التثليث (الله والروح القدس والابن).
إن قصور علمنا بحد ذاته دليل على وجود العالم الماورائي، ويكشف الله لنا عن هذا العالم في كتبه المقدسة، فمن الحمق أن يقول الفلاح إن نظريات الفلسفة كاذبة لأنه يعجز عن فهمها، كذلك من الحمق أن يرفض الإنسان الإيمان بالوحي الإلهي بحجة أنه يبدو له في بعض النقاط مناقضاً لمعلومات الإنسان الطبيعية. وعلينا أن نثق بأنه لو كانت معلوماتنا كاملة، لما كان ثمة تناقض بين الوحي والفلسفة، ومن الخطأ أن نقول إن قضية ما يمكن أن تكون خاطئة في الفلسفة وصحيحة في الدين، لأن الحقائق كلها تأتي من عند الله وهي واحدة.
أما في “الأخلاق”، فيرى القديس توما أن غاية الإنسان الحقة هي أن يصل إلى الحقيقة في الحياة الدنيا، وأن يشهد الله على هذه الحقيقة في الحياة الآخرة. فإذا سلّمنا مع أرسطو بأن ما يسعى إليه الإنسان هو السعادة، فأين يجد أحسنها؟ إنه لا يجدها في الملذات الجسمية، ولا في الشرف، ولا في الثروة، ولا في السلطان، بل إنه لا يجدها في الأعمال الصادرة عن الفضيلة، وإن حصل من هذه كلها على البهجة، فالنظام الكامل للجسم ضروري إلى السعادة الكاملة، ولكن ليس في هذه الطيبات كلها ما يضارع السعادة الهادفة الشاملة المتصلة الناشئة من الفهم. فأسمى عمل تقوم به النفس وأعظم ما تغتبط به هو أن ينقش عليها النظام الكامل للكون وأسبابه، وأن السلام الذي يعلو على الفهم لينشأ من الفهم.
بيد أن هذه السعادة الدنيوية العليا نفسها لا تترك الإنسان راضياً كل الرضا وقانعاً كل القناعة، فهو يعرف معرفة غامضة أن “السعادة الكاملة الحقة لا يمكن أن تنال في هذه الحياة”.
وقد تجد غير هذه الشهوات ما يشبعها في الطيبات الوسطى، أما عقل الإنسان الكامل، فلن يستريح إلا إذا وصل إلى ذروة الحق وهو الله. ففي الله وحده الخير الأسمى لأنه مصدر كل الطيبات الأخرى، ولأنه علة سائر العلل، وحقيقة كل الحقائق، والهدف الأخير للإنسان هو نور النعيم الباهر، الرؤية التي تهب السعادة. (رسالة في السعادة، طبعة إنجليزية).
وربما هذه “الرؤية التي تهب السعادة” التي أشار إليها الأكويني قد التمسها في ما بعد، قبل وفاته بقليل، في رؤية رأى فيها السيد المسيح والتي غيّرت مجرى حياته، إذ جعلته يمتنع حتى عن الكتابة، وقال: “إن كل ما كتبته كان بلا أي وزن بالمقارنة مع ما قد رأيته”.
وفي السياسة، غالبية ما كتبه الأكويني تحذو على منوال أرسطو، لكنها لا تخلو من أفكار تخصه، منها أن التنظيم الاجتماعي أداة أوجدها الإنسان بدلاً من أعضاء الجسم للحصول على مطالبه والدفاع عن نفسه، وأن المجتمع والدولة قد وُجدا للفرد، ولم يوجد الفرد والمجتمع والدولة، وأن السيادة تأتي من عند الله وهي حق للشعب، ولكن الشعب كثير العدد، مشتت، متقلب، جاهل، وهو لذلك عاجز أن يمارس حقوق السيادة بنفسه وبحكمة، ولهذا فإنه يوكل هذه السيادة إلى أمير أو زعيم آخر، وتوكيل الشعب من ينوب عنه على هذا النحو يستطاع إلغاؤه على الدوام، ولا يحتفظ الأمير بسلطة التشريع إلا من حيث هو ممثل لإرادة الشعب. (مختارات كتابات سياسية، طبعة إنجليزية).
وبالرغم من قول الأكويني، أن الديمقراطية والأرستقراطية والملكية تصلح إذا صلحت القوانين وحسن تنفيذها، لكنه يرى أن خير أنواع الحكومات قاطبة هو “الحكومة الملكية الدستورية”، لأنها تمكّن للوحدة والاستمرار والاستقرار.
نقلا” عن أندبندنت عربية