القدرات العسكرية التقليدية في طهران يقابلها تفوق نوعي للدول الست كرسته الشراكة التاريخية مع واشنطن
عيسى نهاري
بعد مرور سبعة عقود على إطلاق إيران برنامجها النووي الذي لاقى دعماً غربياً حينها، وساعدت على إنشائه الولايات المتحدة ضمن مبادرتها “تسخير الذرّة من أجل السلام”، تستنفر أميركا وأوروبا جهودهما لإعادة طهران إلى طاولة المفاوضات، وكبح طموحاتها في حيازة سلاح نووي، إلا أن المساعي الدبلوماسية التي تبدو في طريقها لاستبدال سياسة الضغوط القصوى، تتصادم مع مخاوف دول خليجية تصف سياسات النظام الإيراني بـ “التوسعية”.
وبخلاف الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين دعموا البرنامج النووي الإيراني حتى سقوط حكم الشاه في أعقاب الثورة الإيرانية عام 1979، ينبعث الحذر الخليجي أولاً من حقيقة أن إيران جزء من المنطقة تؤثر فيها وتتأثر بها، وثانياً من تبعات الصراع الذي تنامى مع صعود آية الله الخميني، والبعد الجديد الذي تحولت إيران معه من كونها مجرد تهديد استراتيجي إلى تهديد أيديولوجي وديني.
وبعد مشاهدة الثيوقراطيين وهم يدفعون بالعلاقات الإيرانية – الخليجية إلى حافة الهاوية، يشدد مراقبون على التنبه إلى التحول الجاري في طهران من نظام ثوري إلى نظام ثوري – نووي، بخاصة أن التوافق السياسي بين دول الخليج الست لا يسير بالوتيرة نفسها التي كانت عام 1981، عندما أسست منظومة للتعاون المشترك ارتبطت نشأتها، وفقاً لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، بسلوك النظام الإيراني وخطابه الجديد آنذاك.
وبينما أعربت الأطراف الأوروبية عن قلقها من انتهاك إيران قيود الاتفاق النووي، تصرّ الأخيرة على أنها “لم تسعَ قط لامتلاك أسلحة نووية، وتقول إن برنامجها النووي ذو أهداف مدنية فقط”، وفي الوقت نفسه تندد بانسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة في مايو (أيار) 2018، بعدما أعاد الرئيس السابق دونالد ترمب فرض العقوبات الأميركية التي خنقت الاقتصاد الإيراني.
أميركا وتوازن القوى
وبعد التحذير الصادر على لسان وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، من أن إيران ربما تكون على مسافة “أسابيع” من امتلاك مواد لإنتاج قنبلة نووية، تثار التكهنات حول قدرة دول مجلس التعاون الخليجي على حفظ توازن القوى في الشرق الأوسط، في وقت تبدو فيه منقسمة حول الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه العلاقة مع إيران، فمحور الكويت وعُمان وقطر الذي يتواصل دبلوماسياً مع طهران لا يستخدم اللهجة الحادة التي تتبناها السعودية والإمارات والبحرين في مطالباتها بردع النظام الإيراني وإيقاف التدخلات الإقليمية.
وعلى الرغم من المستوى المتباين للعلاقات الدبلوماسية بين إيران ودول الخليج، فإن البيت الخليجي عاد أكثر تماسكاً بعد قمة العلا في الثامن من يناير (كانون الثاني) الماضي، التي طوت الخلاف الداخلي مع الدوحة، وكرّس بيانها الختامي الرفض التام لـ “التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لدول المنطقة”، مع التأكيد على مشاركة أعضاء المجلس في المفاوضات الدولية المستقبلية التي تخص البرنامج النووي الإيراني.
وإذا ضمن الخليج وحدة موقفه تجاه إيران، فإن انفراد طهران بالقوة في الشرق الأوسط حتى لو امتلكت قنبلة نووية سيكون صعباً، وذلك لأسباب منها متانة تحالف الولايات المتحدة ودول الخليج، الذي عززته المصالح الاقتصادية في ذروة الصعود كقوى نفطية، وتعمّق بعد مواجهة ثلاثة حروب عاشتها المنطقة خلال العقود الأربعة الماضية، وهي الحرب العراقية – الإيرانية، وحرب الخليج الثانية والغزو الأميركي للعراق.
وبينما تتغير مقاربات الرؤساء الأميركيين في استراتيجياتهم للتعامل مع إيران، بما يوحي بأنه اختلاف عميق في الرؤى مع دول المنطقة، كما أفضى إليه التباين بين إدارتي دونالد ترمب وجو بايدن، فإن التحالف بين واشنطن والدول الخليجية الست يستمد قوته، بحسب مراقبين، من وجود المشروع الإيراني نفسه الذي يتخذ من معاداة الغرب شعاراً له، بخاصة أن طهران التي تضع خروج الولايات المتحدة من المنطقة هدفاً لها، تسعى لتحقيق ذلك من خلال إضعاف الدول المتحالفة مع واشنطن، كما يرى الباحث في السياسات الدولية علي رضا نادر.
وإذ يقول نادر في كتابه “إيران بعد القنبلة”، إن الضعف الاقتصادي والعسكري الذي تعانيه إيران يقيد طموحاتها بأن تصبح القوة المهيمنة في منطقة الخليج، إلا أنه يستبعد أن تؤدي حيازتها السلاح النووي إلى تغيير توازن القوى الذي تشكّل بفضل التحالف الأميركي – الخليجي، المدعوم بإمكانات اقتصادية وعسكرية تفوق ما تملكه الجمهورية الإيرانية من قدرات متقدمة تحد من قدرتها على تنفيذ عمل عسكري ضد جيرانها، فضلاً عن أن إجراء كهذا قد يؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز، وحينها ستكون إيران أبرز المتضررين لارتباطها اقتصاديا بدول الخليج.
إيران وخيارات النووي
سيكون نجاح الجهود الدولية في منع انحراف برنامج إيران النووي صوب أغراض عسكرية السيناريو المفضل لدول الخليج، لكن اكتفاء طهران بالاستخدام السلمي، سيدخل البلدان الست في تحد جديد يتمثل في مجابهة ما قد توفره الطاقة النووية من تفوق إقليمي أو اقتصادي لإيران على حساب دول مجلس التعاون.
ولحفظ التوازن في المنطقة، يشدد الباحث في المعهد الدولي للدراسات الإيرانية “رصانة”، محمد الصياد، على ضرورة صياغة موقف خليجي موحد لمنع إيران من نسج علاقاتها مع كل دولة على حدة.
وفي حال طوّرت طهران قنبلة نووية، فإن الصياد يدعو دول مجلس التعاون إلى الاستفادة من حقها في امتلاك الطاقة النووية السلمية على غرار الموقف الدولي من إيران.
من جانبها، تقول دول الخليج وفي مقدمها السعودية، إنها ترفض إشعال سباق التسلح في المنطقة. وفي مقابلة أجرتها شبكة “سي بي إس” الأميركية عام 2018، أعلن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان عدم رغبة الرياض حيازة سلاح نووي، محذراً في الوقت نفسه من أن تطوير الإيرانيين قنبلة نووية، سيدفع بلاده إلى فعل الشيء ذاته بأقصى سرعة.
وتحسباً لمخاطر البرنامج النووي على دول مجلس التعاون الخليجي، يشدد الباحث في الشؤون الإيرانية، على وجوب النظر إلى نووي إيران ضمن استراتيجية المواجهة الشاملة مع طهران، التي تتلخص على حد تعبيره في “مواجهة فكرية وعقلانية وفلسفية مع السلطة الإيرانية بسلاحها نفسه الذي تجيده منذ العام 1979 وحتى الآن”، معتبراً أن أية مواجهة من دون أخذ المسار الفكري والفلسفي في الاعتبار، ستكون لحظية وسياسية صرفة بعيدة من الحواضن الشعبية والجماهيرية، أو حتى النخب المثقفة.
من الأقوى عسكريا؟
على الرغم من تزايد تأثير الدور الإيراني في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، فإن لغة الأرقام ترجح استمرار نفوذ محور الخليج بسبب التفوق الاقتصادي والدعم العسكري الأميركي، فبعدما تصدرت الولايات المتحدة عام 2018 قائمة الدول الأكثر إنفاقاً في المجال العسكري بكلفة 649 مليار دولار، جاءت حليفتها وخصم إيران اللدود، المملكة العربية السعودية في المرتبة الثالثة بـ 67.6 مليار دولار، على الرغم من خفضها الإنفاق بنسبة 6 بالمئة مقارنة بالعام 2017، بينما أنفقت طهران في العام الذي بلغ فيه الإنفاق العسكري عالمياً أعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، 13 مليار دولار.
وفيما أقرّ الرئيس الإيراني حسن روحاني بتأثير العقوبات على اقتصاد بلاده، لا تكف طهران عن التباهي بترسانتها العسكرية، على الرغم من أن العقوبات شملت حظر بيع الأسلحة إلى إيران، الذي حال لعقود من دون تطوير قدراتها التسليحية، ودفعها إلى اللجوء إلى السوق السوداء وأسعارها عالية الكلفة، في وقت قطفت فيه دول أخرى بالمنطقة ثمار العلاقة مع الولايات المتحدة، وأصبحت من أكبر مستوردي السلاح عالمياً.
وتكشّف العجز العسكري الإيراني في أعقاب مقتل زعيم فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، على إثر غارة جوية أميركية، وسادت حينها مخاوف من اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران، صاحبتها تهديدات الرئيس السابق دونالد ترمب بضرب 52 موقعاً إيرانياً في حال باشرت طهران إجراء انتقامياً، وزاد الجدل حول قدرات النظام العسكرية بعد الهجمات الغامضة التي استهدفت مواقع حيوية في البلاد الصيف الماضي.
وعلى الرغم من حلول الجيش الإيراني ضمن أكبر 10 جيوش في الشرق الأوسط من حيث العدد، بما يقرب من نصف مليون جندي، فإن قوته التقليدية، بحسب مراقبين، لن تكون فعالة ضد خصم متطور تقنياً، ولن تضاهي القوة البحرية والجوية للولايات المتحدة ودول الخليج العربية، ناهيك عن ضعف سلاح الجو الإيراني أمام نظيره في السعودية والإمارات، حيث تعزيز إمكاناتهما ومواردهما البشرية والمادية في هذا المجال.
الإدارة الأميركية وتسليح الخليج
بينما تراجع إدارة بايدن مبيعات الأسلحة لقوتين خليجيتين هي السعودية والإمارات، فإن خطط البلدين التسليحية تبدو مستمرة، إذ أعلنت الرياض السبت الماضي نيتها ضخ أكثر من 20 مليار دولار للاستثمار في الصناعة العسكرية المحلية، وعقدت الأحد الماضي، شراكة مع عملاق الصناعات العسكرية الأميركية “لوكهيد مارتن” لتعزيز القوات الدفاعية، في حين ما زالت أبوظبي بحسب تصريحات سفيرها في واشنطن، واثقة من استمرار صفقة بيع طائرات “إف-35” الأميركية، بعدما تجاوزت المخاوف الإسرائيلية.
إيران من جهتها تراهن على ترسانتها الصاروخية التي تضم بعض الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز “القادرة على ضرب أهداف على بعد أكثر من 2000 كيلومتر”، إلا أن تأثير القوة الصاروخية التي تمتلكها طهران يتضاءل في ظل وجود أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ الباليستية التي تديرها الولايات المتحدة ودول الخليج، مثل نظام باتريوت ومنظومة “ثاد” الدفاعية التي تستطيع اعتراض الصواريخ داخل الغلاف الجوي للأرض وخارجه على مسافة 200 كيلومتر، مما يخفف من آثار أسلحة الدمار الشامل.
وفي ظل الحظر الذي تعاني منه إيرأن في سوق الأسلحة أقدمت على تطوير التصنيع العسكري المحلي وقد اختبرت عددا من منتوجاتها المحلية بما فيها أنواع الصواريخ في مناورات عسكرية مختلفة جرت في أنحاء البلاد.
مع ذلك، تكثف دول الخليج وفي مقدمها السعودية جهودها الدبلوماسية لتجريد إيران من مفتاح نفوذها العسكري من خلال ضم برنامج الصواريخ الباليستية إلى أي اتفاق تتوصل له إدارة بايدن بالتنسيق مع أوروبا، وهو على الأرجح ما دفع الخارجية الإيرانية إلى رفض دعوات الرئيس الفرنسي ماكرون إشراك الرياض في أية محادثات جديدة.
لكن السعودية لم تكتفِ بالمساعي الدبلوماسية لحفظ توازن القوى، بل سعت إلى تطوير قدراتها الدفاعية لمواجهة التهديدات والهجمات الصاروخية المتكررة التي يشنها الحوثيون.
وفي 2019، عقدت الرياض صفقة لشراء منظومة “ثاد” الصاروخية، بقيمة إجمالية تصل إلى 15 مليار دولار أميركي. وتنص خطة العمل المتفق عليها مع وزارة الدفاع الأميركية، على تحديث الأنظمة القديمة وتحضير البنية التحتية للدفاع الصاروخي السعودي من أجل استقبال التقنية الجديدة لمنظومة “ثاد”.
من جانبها، عززت الولايات المتحدة إمكاناتها العسكرية في الخليج العربي بخطة لتأسيس قواعد جديدة في السعودية ذات استخدامات عسكرية ومدنية، ووفقا لتصريحات قائد القيادة المركزية الأميركية في الشرق الأوسط، فرانك ماكنزي، فإن الخطة تمنح المسؤولين العسكريين بدائل لعشرات القواعد التي تستخدمها الولايات المتحدة في أنحاء المنطقة، مثل ميناء الشعيبة في الكويت، وقاعدة العديد الجوية في قطر، التي أنشأت مراكز لوجستية عسكرية، يُنظر إليها على أنها عرضة للصواريخ الباليستية الإيرانية.
طهران وتحديات التنمية
يرى محمد الصياد أن الدول الخليجية تفوقت على إيران في حرب التنمية، ويقصد بذلك فاعلية الدولة والمجتمع والنهضة، إذ ركّز أعضاء مجلس التعاون الستة على بناء الإنسان والعمران، ونجحوا في إحداث تحولات جبارة في مستويات البنية التحتية والمجتمعية، وهو ما يعتبره مهماً لكل من الداخل الخليجي، والداخل الإيراني الذي بات ينظر إلى النهضة الخليجية كنموذج يُحتذى، ويرى من خلاله “فساد السلطة الإيرانية من خلال التوسعات في المنطقة والإنفاق الملياري عليها، من دون مردود داخليّ يشعر به المواطن”.
ويرى الصياد أن السلطة الإيرانية لا ترى أزمتها في هذا المسلك، “كونها لا تؤمن أصلاً بأن مهمة الدولة رفع الفقر عن المواطنين أو تحسين الخدمات، وهو ما صرح به الخميني للكاتب حسنين هيكل الذي تعجب منه في كتاب الأخير “مدافع آيات الله”، مضيفاً أن “مهمة الدولة في نظر النخبة الدينية الإيرانية هي مهمة دينية صرفه ومقدسة، إذ تفصل بين الديني والدنيوي في هذا الاتجاه، وهو ما لحظته كارين أرمسترونج وغيرها، “أي أن المعادلة إجبار الدولة للمواطنين على قراءتها الرسمية للدين، من دون أن تتكفل بأيّة كُلف تجاه هؤلاء المواطنين”.
المصدر : أندبندنت عربية