إن جوهر الأنظمة السياسية العربية والمغاربية بشكل عام يقوم على ترويع الفرد والمجموعات على حد سواء
كتب : أمين الزاوي كاتب ومفكر
كيف ولماذا ومن حوّل الأقليات في المشرق العربي وشمال أفريقيا إلى غيتوات ثقافية ودينية وعرقية؟
حين نقرأ سياسة الأنظمة العربية والمغاربية المتعاقبة، وهذا منذ الاستقلالات الوطنية، وبالأساس في قضية تعاطيها مع الشأن الثقافي، وطبيعة مواقفها من الأقليات الإثنية والدينية والثقافية المتنوعة التي تعيش على هذه الجغرافيا البشرية والطبيعية منذ آلاف السنين، يمكننا تفسير أسباب ولادة ظاهرة “الغيتو”.
إن جوهر الأنظمة السياسية العربية والمغاربية بشكل عام يقوم على ترويع الفرد والمجموعات على حد سواء، فالطاعة التي تبدو في السلوك اليومي السياسي والثقافي هي نتيجة الخوف، والقناعة مسألة تكاد تكون ملغاة في فلسفة أنظمة تقوم على توزيع “التخويف” على الجميع.
باسم الأيديولوجيا القومية العربية، واعتماداً على جهازها الحزبي البعثي وملحقاته الأخرى المتحالفة مع أسلاك المخابرات القمعية المختلفة، تحوّلت أقليات كثيرة ذات بعد ثقافي وحضاري وديني وازن ومتفتح في هذه المنطقة إلى “غيتوات” مغلقة ومنغلقة على نفسها، حيث أنتج سيف الخوف والقمع المسلط عليها سلسلة ثقافة الكراهية، وتحولت القومية العربية نفسها جراء غرقها في عداء الآخر والمختلف عنها وانقطاعها عن كل ما يرفدها من تنوع إلى “غيتو” كبير يحفر قبره كل يوم.
هذا “الغيتو” القومي وبحجة الدفاع عن “الوحدة العربية” الوهمية، الكذبة التاريخية العظمى، ظل يعتبر كل تنوع ثقافي أو ديني أو لغوي تنتجه الأقليات مساساً بالقومية ومركزية الدولة حامية “الوحدة الموهومة”، مما يبرّر هجومه ومحاربته وتنكيله بكل ما يحيل إلى الأقليات العرقية أو الثقافية أو الدينية أو اللغوية.
وباسم الاشتراكية الوطنية أو الإسلامية أيضاً، والتي رفعت شعارها كثير من الأنظمة “التوليتارية” الشمولية التي استولت على السلطة بالانقلابات العسكرية بعد الاستقلالات الوطنية ونهاية زمن الاستعمار الكلاسيكي، هذه الأنظمة سواء في المشرق أو في شمال أفريقيا، قمعت الأقليات الإثنية واللغوية والدينية بحجة الخوف من التآمر على وحدة الوطن، فإذا كانت الأيديولوجيا القومية “النيو- فاشية” مارست القمع الممنهج بحجة الخوف على كذبة “الوحدة العربية”، فإن الأيديولوجيا الوطنية الاشتراكية الشمولية مارسته باسم الخوف على وحدة التراب الوطني، وبحجة الدفاع عن التزام الجميع باللغة الواحدة والدين الواحد، وتساويهم في الفقر الموحد الواحد أيضاً.
وأمام هذه الرؤية الإلغائية “التوتاليتارية” تحولت هذه الأقليات من ثروة تنوعية وقوة اجتماعية إيجابية عميقة الجذور في البلد إلى “غيتوات” تمارس حقوقها الثقافية واللغوية والدينية بتستر وخوف وتوجس، وبالتالي تحول هذا الثراء من خيرات تاريخية إلى ممنوع سياسي يجب القضاء عليه.
ثم ظهر الإسلام السياسي إلى الوجود بكل أطيافه التي خرجت جميعها من عباءة تنظيم الإخوان المسلمين، فقامت له أحزاب سياسية كثيرة بأسماء متعددة وجمعيات محلية تحت شعارات مشبوهة خيرية أو رياضية أو ثقافية في البلدان العربية والمغاربية جميعها.
وباسم الدفاع عن الدين المهدد من قبل الغرب المسيحي، وضع الإسلام السياسي ضمن أولوياته القضاء على كل تنوع وتعددية حتى يسهل عليه تحويل المجتمع إلى قطيع “بشري”، لتتم له قيادته في اتجاه الخراب والموت والانتحار والتعصب، وهو ما حدث بالفعل.
ولتمكين شوكته، عمد الإسلام السياسي إلى محاصرة الجيل الجديد بأن وضع يده على “المدرسة”، سعياً إلى خلق قطيعة واغتراب بين الجيل الجديد والأجيال القديمة، وما بين الأب وابنه، وعمل أيضاً على تأسيس مدارس قرآنية موازية لتكريس ظاهرة الاغتراب، وبناء مساجد من دون أي اعتبار للخصوصية العمرانية، ونصّب عليها قيمين وأئمة يستثمرون في الترويج لخطاب سياسي إقصائي بغطاء “ديني”، والغرض من ذلك كله محاربة لغات الأقليات، والتنكر للعادات الثقافية التي تعود إلى قرون، والتي ظلت دائماً اللحمة التي تجمع بين أفراد هذا المجتمع منذ قرون، وقد عمل الإسلام السياسي، من خلال برامج المدرسة التي صنعها، على القضاء على فكرة تعليم لغات الأقليات، وتعويضها باللغة العربية بوصفها لغة الجنة كما يدعون، مما سهل لهم وضع الأجيال الجديدة لهذه الأقليات في حال من ضياع الهوية، وسهّل أيضاً قيادتها نحو الانتحار بسهولة.
لقد كانت الأنظمة السياسية المؤسسة، سواء على أيديولوجيا القومية العربية أو الاشتراكية الوطنية أو الإسلامية، تستثمر في “الوحدة” و”الدين” و”اللغة” و”العدالة”، فاتخذت منها عكاكيز أيديولوجية استعملتها لمحاربة الأقليات الإثنية واللغوية والدينية لتفريغ المجتمع وتنميطه، وفي الحالات جميعها تمت محاربة الأقليات التي وجدت نفسها أمام خيارات ثلاثة، إما النزوح أو الهجرة خارج الوطن، وهو ما حدث لكثير من الأقليات في المنطقة مثل الأكراد ومسيحيي الشرق ويهود شمال أفريقيا، أو التقوقع حول الذات الإثنية أو الدينية أو اللغوية، لتتحول الظاهرة من “أقلية مواطنية” إلى مجموعة تعيش حال “غيتو ” ghetto مغلق، وتعيش تحت الرعب اليومي وتمارس معتقداتها وتتكلم لغتها وتؤدي أمور دينها وتبدع في ثقافتها بطرق مهربة، ومع ذلك استطاعت كثير من الأقليات أن تحول “الغيتو” من حال انغلاق على الذات إلى حال من بناء الذات، كما حدث مع تجربة الأمازيغ في شمال أفريقيا.
لقد صرخ مرشح للرئاسيات الجزائرية الأخيرة، وهو أحد الإسلاميين، مستعملاً مصطلح “الدشرة” (الضيعة) لتوصيف منطقة في الجزائر، وقد قصد بها منطقة القبائل من دون تسميتها، لأنها الصوت الأعلى في الحراك الشعبي، واستعماله لمفهوم “الدشرة” جاء للتحقير، مما يعكس طبيعة الأيديولوجيا الإسلامية التي ترى في “الأقليات” “دشرة” أو “غيتو” يجب سحقه.
نقلا” عن أندبندنت عربية