حكيم مرزوقي
عميد الأدب العربي أشار إلى العناية بكتابة ألفاظهم وأساليبهم، ففيها خيال كثير، وتشبيه متقن، وألفاظ متخيرة، ومعان ميسرة. رسائلهم لا تقل أهمية عن مقدمة ابن خلدون، بل إن مفكرا مثل رشيد الخيون يرى أن مؤسس علم الاجتماع قام على أثرهم دون أن يشير إليهم بالمعنى الواضح. وقال المفكر فراس السواح إن الموت عندهم كما استخراج الجنين من الرحم. من هم إخوان الصفا الذين أثاروا من الخيال مقدار ما أثاروه من جدل لم يهدأ منذ ألف عام وأكثر؟
كتاب قال عنه طه حسين متسائلا في حيرة العارف “مُغلق المعاني، كلماته عسيرة الفهم، مؤلفوه مجهولون مُعارِضون للسُلطة، آراؤهم تتجرأ على ثوابت الدين والسياسة، هل يُمكن تصوّر أن يحتلَّ حيزًا كبيرًا بتاريخ أمة الإسلام”؟
ومع ذلك، ظل هذا الكتاب لغزا، نشتهي العودة إليه في كل ساعة ضيق وشك، ورغبة في التأكد مما قاله السلف الصالح والطالح على حد سواء.. إنهم يمثلون أهم وأقدم أيديولوجية فكرية سياسية وسرية في العالم العربي..
ولو كان الأمر في عصرنا لانتسبت إليهم جميع الفئات العمرية، والشبابية على الأخص، وذلك لما يمثله هؤلاء من جرأة في التمرد على واقع راكد ثم إنهم يناقشون العلم بمنطق لا يخلو من الحجة والإقناع.. ومع ذلك أخفوا أسماءهم فهل كان ذلك خوفا واحتياطا أم رغبة في التواضع ونكران الذات؟ ولا ينبغي أن ننسى بأن المؤلفين مجهولون فهل الأمر يتعلق بدعاية تسويقية أم هو حقا، “منشور سري” بكل ما تعنيه هذه الكلمة في عصرنا من دلالة ومعنى؟
هالة من السرية
في هذا الصدد، يروي الباحث سليم الجندي في أطروحته “أبوالعلاء المعري وإخوان الصفاء”، أنه لمَّا كانت الصحائف مُشتملة على ما لا يوافق الدين والسياسة، خاف أصحابها على أنفسهم أن “يُصيبهم ما كان يُصيب الزنادقة والمُلحدين فكتموا أسماءهم، وبثّوا رسائلهم بين الورّاقين ووهبوها للناس ليصلوا إلى الغاية المقصودة من وضعها دون توقيع”.
ويضيف الباحث قائلا “كتمان الأسماء أفسح المجال لاختلاف الناس فيمن وضع هذه الرسائل، فقال فريق إنها كلام بعض الأئمة من نسل الإمام علي بن أبي طالب، وقال فريق آخر إنها من تصنيف بعض متكلمي المعتزلة في العصر الأول، وامتدَّت القائمة لتشمل عددًا من كبار أسماء المثقفين والأدباء، مثل أبي سلمان محمد بن معشر وزيد بن رفاعة، وآخرين”.
أول ظهورهم كان في البصرة بداية أيام بني بويه إلا أن جماعتهم تكونت قبل ذلك التاريخ وبقيت تعمل في الخفاء بمختلف الأصقاع
أخيرا، أعيد إصدار كتاب “رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا” ضمن سلسلة تيسير التراث عن الهيئة المصرية العامة للكتاب. هذا الحدث ليس روتينيا، ولا على سبيل النفخ في التراث الذي ساد ثم باد كما قد يتخيل البعض. إنه يتمحور حول موضوع غاية في الدقة والأهمية من حيث طبيعة تناول مثل هذه المطبوعات التي أحيطت بهالة من السرية والغموض منذ إصداراتها الأولى، فكأنما أفرج عنها للمرة الأولى ثم أنه يطرح سؤال جدوى التأليف الجماعي المستتر داخل جماعات لا يسعى أي فرد منها للبروز والنجومية بمعزل عن رفاقه الذين آثروا السرية، واستعانوا على أسمائهم الحقيقية بأخرى سرية أو حركية أو ذائبة في إطار مجموعة “محفل سري” قد يثير الريبة والتشكيك، داخل ثقافة التقية والاختفاء ضمن مجتمعات يحكمها الطوطم والامتثال لرأي الحاكم والخنوع لعقيدته.
“رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء” كتاب ينتمي لتلك المصنفات السرية بمجرد أن تجهل اسم مؤلفه ثم تعلم أنه لمجموعة من المؤلفين فيزداد ارتباكك، وتدرك عندئذ، أنك إزاء جماعة سرية لا تدرك عواقبها، ولا عواقب من قرأها واستهدى برسالتها أو بشّر بكتاباتها في أجواء تحاصرها محاكم التفتيش ويلاحق فيها كل من خرج عن طوع الحاكم.
وحين تعلم أن رسائل الصفا، كتاب يحتوي على أطروحات متعددة في الفلسفة والعلوم والمنطق والعقيدة والتذوق الأبدي، يزداد رعبك رعبا، وتستشعر حالتها، ساعة الخطر، ذلك أنه يقدم ـ ومن خلال سرانيته وعدم الإفصاح عن مؤلفيه ـ بدائل جديدة لحكم الدولة والمجتمع.. وتلك الطامة الكبرى.
اعتادت ثقافتنا، ومنذ القرن العاشر الذي ألف فيه الكتاب، وربما أبعد بكثير، بأن كل مجهول النسب هو مجهول العواقب والمصائر، لذلك استنكر الجميع هذا الكتاب الذي يضم 52 رسالة، وكأنه يضم 52 مصيبة في التفكير والمنطق العلمي والذوق الأدبي والنهج السياسي.
إن كانت أواخر العصر العباسي، عصر تراخٍ وتراجع وتقهقر سياسي من طرف الدولة المركزية في بغداد، فإنها ـ وللأمانة ـ عصر مواجهة مع الذات، وتقدم علمي وثقافي جمع كل الشركاء من منتصرين ومهزومين على طاولة حوار واحد.. وصارت الثقافة الإسلامية لا تناقش بلسان واحد، ولا يقع التحدّث عنها بمنطق واحد.
فعل الفكر اليوناني فعله في تلك الشعوب التي لم تعد تفكر بمنطق واحد وإن كانت تتحدث بلسان واحد أو تدين بدين واحد، وأدلى الجميع بدلوه دون حياء فبرزت ثقافة التنوع والاختلاف وسط منطق أهوج وأرعن لدولة مستضعفة لا تمتلك إلا القمع وسيلة للإقناع، ولكن، هيهات.. ولى عصر الرأي الواحد والحزب الواحد، وحتى الكرباج الواحد.
إمبراطورية معرفية
محظور الدين والسياسة ومنظور العلوم والأفلاك في رسائل ملغزة
وبالعودة إلى ما أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، في مبادرة نبيهة وذكية، يدور كتاب “إخوان الصفا وخلان الوفا” حول إشكالية تنوع الأجناس على المستوى الأنطولوجي، وإشكالية الاختلافات بين المذاهب الفلسفية والدينية على المستوى المعرفي والعداء الطائفي على المستوى السياسي، في القرن العاشر، ومطلع القرن الحادي عشر.
ويقع الكتاب في ثلاثة أجزاء: الشمول الأول، مرجعية الأشياء إلى مصدر واحد، والشمول الثاني النسبة الحالية بين كل الأشياء، والشمول الثالث، ميل كل الأشياء إلى غرض واحد.
فراس السواح: الموت عند إخوان الصفا كما استخراج الجنين من الرحم
وتحاول رسائل إخوان الصفا أن تقدم حلولًا لهذه الإشكاليات الثلاث من خلال شمولية الأشياء ثم العلوم ثم الأمم.
هو كتاب أثيرت حوله الريبة والشكوك، وخلّف خلفه النقع والغبار والتساؤلات كما فعل الأثر المنسوب لـ”إخوان الصفا وخلاّن الوفاء” في سابقة لم يعرف لها الأدب العربي مثيلا، وذلك ضمن ما يُعرف بـ”الأدب السراني” الذي كتب بين (913 – 1010).
احتار الأدباء والدارسون في تصنيفه وتوصيفه، فهل يُنسب إلى التعاليم الصوفية والسنية والمعتزلة أم إلى الفكر الشيعي الإسماعيلي، وغيره من التعاليم الفاطمية والباطنية التي طبعت المرحلة في ذلك الوقت المضطرب من أفول الدولة العباسية.
كل شيء وارد ويزيد الأمور التباسا وتعقيدا في عصر ضعفت فيه الدولة واستقوت العصبيات، لكن السجالات الفكرية بلغت أوجها ضمن مشهد انصهار ثقافي لم يسبق له مثيل بين مختلف الثقافات، وبلغة عربية استطاعت أن تجمع وتؤاخي بين الفارسية والهندية والمنغولية والسريانية وغيرها داخل “إمبراطورية معرفية” لا يمكن أن نشبهها الآن إلا بالعولمة.. هذه العولمة التي من شأنها أن تربك الجميع، تحرج الجميع، وتجعل الجميع يتفق حولها أو يختلف.
وفي هذا الإطار، يشرح عبداللطيف الطيباوي في كتابه “جماعة إخوان الصفا”، أنه بعد أعوامٍ من الانزواء بسبب تسلط المعتزلة والأشعرية، تغلب أمراء آل بويه على بغداد عام 334هـ، فتنفست كل الجماعات السرية الصعداء لأن الحكام الجُدد كانوا من الشيعة الذين لا تهمهم الجدالات السُنية كثيرًا، في هذا الوقت فقط بدأنا نسمع عن “إخوان الصفا”.
يبدو واضحا أن الأيديولوجية السياسية والعقائدية قد أحدثت حالة من الضبابية وأعمت عيون الكثير من النقاد والدارسين، لكن المؤكد أن إخوان الصفا، ليسوا مجرد دعوة مذهبية تتستر تحت الكتابة الأدبية والأطروحات العلمية، فلو كان الأمر كذلك لأعلنوا عن أنفسهم صراحة في عصر يتصارح ويتطارح فيه الجميع بآرائهم دون حياء ولا خجل، لكن الأمر أشبه بناد ثقافي ينتصر فيه الجميع للمعرفة دون الانتصار لفريق على آخر، بدليل أنهم كتبوا في الرياضيات والفلك والفيزياء وحتى التنجيم.. فهل تحتمل هذه المعارف الاصطفاف الطائفي والمذهبي؟
طه حسين: في رسائلهم خيال كثير وألفاظ متخيرة ومعان ميسرة
ولكي نلتقي عند البدايات من المسميات في سبيل الاختلافات عند التفاصيل، فلا بد أن نقر بالتسمية التي تبدو مثيرة للريبة والجدل وما يمكن أن تثيره من تأويلات وتخمينات: كلمة إخوان الصفا (دون همزة) هي عبارة عربية قديمة وردت منذ عصر ما قبل الإسلام في شعر أوس بن حجر، الذي تسمى تلاميذه بـ”عبيد الشعر” ومنهم زهير بن أبي سلمى، في قوله “وودع إخوان الصفا”، وكذلك وردت نثرًا في باب “الحمامة المطوقة” بكتاب كليلة ودمنة لابن المقفع، الذي قال فيه الملك “دبشليم” للفيلسوف “بيدبا”، “قد فهمتُ مَثَل المتحابَّينِ يقطع بينهما الكذوب الخائن النمَّام، وما يصير إليه أمرُه، فأخبرني عن إخوان الصفاء كيف يبدأ تواصلهم، ويستمتع بعضهم ببعض”.
قال الفيلسوف “إنَّ العاقل لا يَعدِل بصالح الأعوان شيئًا من الُعقَد والمكاسب؛ لأنَّ الإخوان هم الأعوان على الخير كله، والمواسون عندما ينوب من مكروه، ومن أمثال ذلك مَثَل الحمامة المطوَّقة والظبي والغراب والجُرَذ والسُّلَحفاة؛ قال الملك: وكيف كان ذلك؟” وطفق الفيلسوف الهندي يتحدث مستطردا عن جدوى التعاون بفضل الحنكة والذكاء، وضرورة تجنب المندسين والحذر من المنتفعين والانتهازيين، في سبيل الوصول إلى بر الأمان، وذلك في حكاية على لسان الحيوان.. الحيوان الذي جعله أدباء وفلاسفة تلك المرحلة ـ ومن جاء من بعدها ـ مطية لتبليغ الحكمة ونقد فساد السلطة من أمثال ابن المقفع في رائعته المنقولة عن الأدب الهندي “كليلة ودمنة”، مرورا بإخوان الصفاء في “رسالة الحيوان” التي تحمل بعدا علميا، ومن بعدهم العبقري الفارسي، الصوفي فريدالدين العطار في “منطق الطير”، ووصولا إلى أشعار لافونتين الفرنسي وأحمد شوقي المصري في الأدب الحديث، وما تخللها من أدب العبرة والنصيحة.
أزمة عصر
“رسائل إخوان الصفا وخلان الوفاء” هي مجموعة من 52 رسالة كتبتها الجماعة المجهولة المسماة إخوان الصفا، والتي ظهرت قديمًا في مدينة البصرة، من أرض العراق، في أواخر القرن العاشر و بدايات القرن الحادي عشر. وكان لهذه الرسائل تأثير كبير على أشخاص من أمثال محي الدين بن عربي، ونُقلت في أنحاء العالم العربي حتى وصلت إلى أرض الأندلس. وقد أسهمت هذه الرسائل في نشر الفلسفة الأفلاطونية في العالم الإسلامي، وذلك لما تضمنته من قيم أخلاقية يعوّل عليها في بناء الدولة وتنظيم المجتمع الذي لا يمكن أن يستقيم دون أخلاق تنظم علاقاته وقيم تحكم سياسات دولته التي ينبغي لها أن توفق بين الحكمة والمصلحة والفضيلة.
رشيد الخيون: ابن خلدون قام على أثرهم دون أن يشير إليهم بالمعنى الواضح
لا بد من التذكير أن المفكر والناقد والأديب العربي الكبير طه حسين، قد سبق له أن تفطن إلى قوة وأهمية هذه المجموعة الثقافية التي اكتفت أن تسمي نفسها بـ”إخوان الصفا”، وجاء ذلك في مؤسسة هنداوي للرسائل والتي صدرت في أربعة أجزاء، يكتب أصحابها في الموسيقى، ورسالة أخرى في “الأصل أو المادة” والصورة والحركة والزمان والمكان.. إلخ مما يدل على أن هذه الجماعة تحمل مشروعا غاية في التنوع والشمولية والرغبة في الإحاطة بكل شيء، وذلك فيما يشبه الويكيبيديا أو الإحاطة الموسوعية في عصرنا الحديث.
هل كان هؤلاء حقا، ما يشبه محرك بحث في مفهومنا المعاصر أم مجرد جماعة تروج لمذهب فكري وعقائدي يشكك في الثوابت ويدفع ويشجع للانفلات منها؟ لماذا عاداهم الكثير من الكتاب والمفكرين الذين عاصروهم أو جاؤوا بعدهم بسنوات، ولماذا يتهم بعض الموسوعيين بالأخذ منهم ثم معاداتهم كما حدث مع المؤرخ وعالم الاجتماع التونسي عبدالرحمن بن خلدون؟
وللمزيد من التقصي في هذا المجال، فلا بد للعودة إلى المصادر والمراجع، إذ يقول الباحث الموسوعي عمر فرّوخ، في كتابه “إخوان الصفا.. درس، عرض، تحليل”، إن الفيلسوف والأديب الشهير أبوحيان التوحيدي، أول من أتى على ذِكرهم بكتابه “المقابسات”، حينما سُئل عن بعض رجالاتهم، فتحدَّث عن “جماعة لأصناف العلم وألوان الصناعة”، وأذاع “أسماء رهطٍ منهم كأبي سليمان محمد بن معشر البُستني، وأبي الحسن علي بن هارون الزنجاتي، وأبي أحمد المهرجاني، والعَوفي وغيرهم” مضيفا أن هؤلاء الأفراد “قالوا إن الشريعة قد دُنّست بالجهالات واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة” فـوضعوا بينهم مذهبًا “زعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله”.
ويضيف الباحث سعيد زايد في بحثه “رسائل إخوان الصفا”، أن أول ظهورهم كان في البصرة خلال بداية أيام بني بويه، إلا أن جماعتهم بلا شك تكونت قبل ذلك، وبقيت تعمل في الخفاء بمختلف الأصقاع.
ومهما يكن من أمر فإن جماعة إخوان الصفا، ليست على هذا الحجم من الخطورة التي يتشدق بها الفكر التآمري حين يعجز على قراءة منهج مجموعة ثقافية تنأى بنفسها عن الدسائس السياسية، ولا هي جماعة بسيطة الطرح ساذجة التوجه أو متشدقة المنطق في عصر شديد التعقيد ومتشابك العقائد والأيديولوجيات في دولة كانت تعتبر ذلك الوقت من أقوى ما تبقى من الإمبراطوريات التي لم تغب شمسها بعد.
في ذلك الوقت كانت البصرة تعيش واحدة من أخصب الفترات في تاريخ الفكر العلمي واللغوي في العالم العربي والإسلامي، بل وفي العالم، ففيها قامت المعتزلة وفي مسجدها اختمرت أفكار الحسن البصري، وواصل بن عطاء، وفي مسجدها أعلن الأشاعرة أفكارهم المخلصة للسنة، حتى الجماعات السرية لم تكن بالغريبة عنها.. ومن هناك بدأ “خراب البصرة” كما تقول العامة.. إنهم “إخوان الصفا وأزمة عصر”، والذين يرى باحثون أنهم أطلقوا نظرية النشوء والارتقاء التي أطلقها داروين لاحقاً في 1882.
نقلا” عن العرب اللندنية