لم يأخذ هذا المذهب شكله النقدي وانتشاره الفكري لولا الدور المؤثر الذي لعبه المؤسس الثاني فيه ويليام جيمس
كتب : عماد الدين الجبوري
عرضنا في الحلقة الأولى مفهوم “الفكرة” وفق منظور الذرائعية، وكيف أن مؤسسها الأول تشارلز بيرس أنشأ هذا النهج القائم على المبدأ التجريبي والمنفعة الذاتية، ورؤيته تجاه الماورائيات وتكييف مفاهيمها عبر المنطق الصوري، كونها أفكاراً حول الأفكار.
ويليام جميس (1842-1910)
في الحقيقة، لم يأخذ مذهب الذرائع شكله النقدي وانتشاره الفكري لولا الدور المؤثر الذي لعبه المؤسس الثاني فيه ويليام جيمس، إذ منحه بُعداً اجتماعياً ودينياً في آن. فمن الجانب الأول، مكن هذا المذهب الفلسفي من أن يكون أكثر قبولاً في أوساط المثقفين والمتعلمين، وعن الجانب الثاني، من خلال المنهج الذي سار به في آخر طرف الدين. وعلى الرغم من تأثر جيمس بفلسفة بيرس، لكنه يعترف أنه استمد بعض القواعد والأصول من أفكار قديمة، وله الفضل في إعادة تنظيم وصياغة المذهب، والغاية من ذلك على حد قوله، أن يتخذ الإنسان من أفكاره وآرائه “ذرائع” يستعين بها على حفظ بقائه من جهة، والسير بالحياة على نحو السمو والكمال من جهة أخرى.
ولقد كتب جيمس مؤلفات عدة في علم النفس والفلسفة والدين، لعل من أهمها كتاب “أصول علم النفس” 1890، إذ تتشابك فيه بشكل رائع دراساته في التشريح والتحليل النفسي والفلسفة، بالإضافة إلى “إرادة الإيمان” 1897، و”أصناف الخبرة الدينية” 1902، وكتابه الشهير “البراغماتية” 1907، وغيرها.
كما عمل جيمس على تغيير الموقف السلبي الذي اتخده بيرس في مسألة وجود الله، إذ سلم بفكرة وجود الله، على الرغم من أنه تعالى خارج نطاق مبدأ المشاهدة والتجربة، عاداً مسألة الإيمان في النتائج العامة للفكرة لها أهميتها أيضاً، لأنه لا بد أن تكون للفكرة التي تطمئن لها النفس الإنسانية وترضى بها أثرها الإيجابي، الذي لا يتعارض مع القيمة العملية.
ومن هنا، إذا قلنا بأن الله موجود، فإن الأمر لا جزاف فيه قط، ذلك لكون الفكرة هذه تبث الراحة النفسية والطمأنينة في ذات الإنسان. وفي هذا يقول جيمس، “أنا اعتقد أن طريقة البراغماتية تأخذ نحو الدين لتكون نهجاً معمقاً، وهي تهب الجسد بالإضافة إلى النفس”. (ويليام جيمس، طبعة إنجليزية). لأنه “لا يمكننا رفض أي فرضية إذا كانت العواقب المفيدة للحياة تنبع منها”. (تاريخ الفلسفة الغربية، طبعة إنجليزية).
وفي الفترة التي كان فيها جيمس منغمساً بعلم النفس، كان يعد الماورائيات المنهل الرئيس لهذا العلم، ولكن بعد تركيزه على الفلسفة دون سواها، رأى من الغفلة أن نبدد القوة العقلية في البحث “عما وراء الطبيعة” من قوى لا تنفع الإنسان بشيء واقعي، فالعقل إنما خُلق ليكون أداة للحياة، وكذلك وسيلة لحفظها وكماله.
لذلك، على الإنسان أن ينصرف إلى أداء واجبه في غمار الحياة العملية الواقعية، إذ ليس من مهامه البحث في عالم الغيب المجهول الذي لا يكاد يربطه بحياة الإنسان سبب من الأسباب. وتجاه هذا الأمر، يركز ويليام جيمس على أهمية “الفكرة” في قياس الحق والباطل، إذ إن مقدرة الفكرة المعينة تعمل على إنجاز أغراض الإنسان في حياته العملية، فإن تعارضت الآراء في ما بينها، كان أحقها وأصدقها هو أنفعها وأجداها، استناداً إلى الفائدة التي تثبتها التجربة العملية.
وهكذا، فكل شيء يؤثر في الحياة تأثيراً منتجاً يجب أن يكون في اعتبارنا هو الحقيقة، سواء كان ذلك متطابقاً أو غير متطابق لِما يخلقه الفكر المجرد من معايير. فمذهب الذرائع يعتمد على النتائج وحدها، فإن كانت الفكرة مثمرة نافعة قبلناها حقيقة، وإلا تجاوزناها كونها وهمية باطلة. وبنظرة عامة إلى الناس جميعاً، نجدهم يتبعون في حياتهم العملية أصول هذا المذهب، إذ إنهم ينتقون لأنفسهم من الآراء والأفكار ما يساعد على تحقيق أهدافهم ومآربهم التي يقصدون إليها، وكذلك بالعمل على تطور ورقي الإنسانية، وتقدم البشرية جمعاء.
وفي هذا الصدد، يطرح جيمس مثالاً عن الإيمان بالله، فالغالبية العظمى من البشر تسلم به ليس من منطلق وجود دليل قاطع عليه، بل لأنهم يرون أن هذا الإيمان يبث فيهم روحاً قوية ويفسح قدامهم الأمل الجميل الذي تزدهر به الحياة وتبتسم، والذي من دونه لضقنا ذرعاً بفداحة عبئها، ومَن منا لا يقيس الأفكار بظروف عيشه ثم يختار منها أنسبها له وأفعلها في أداء عمله، فسلوكنا العقلي في الحياة الذي يوجه أفكارنا، وليس العكس، فأفكارنا لا توجه أعمالنا. إذ إن العقل ليس أكثر من عضو كسائر الأعضاء “يتذرع به الإنسان في تنازع البقاء”، فلو لم يكن العقل أداة من أدوات البقاء لما وجد أصلاً. وعليه، فإن الفكرة التي تنشأ في العقل لا تكون صادقة بمقدار مماثلتها للحقيقة الواقعة في الخارج، بل مقياس صدقها هو مقدرتها على إجابة الظروف المحيطة بنا على النحو الذي يمكّن لنا في البقاء.
ومن حسن الطالع “نحن ذرائعيون بالفطرة” إذ نعتنق من الآراء والأفكار ما يكون أحفظها وأنجعها للحياة، فلو لا ذلك لاستمرت الإنسانية على حياتها البدائية من دون تقدم ولا تطور البتة، وهذا الوضع لا يقتصر على عامة الناس فحسب، بل يشمل العلماء أيضاً، إذ يأخذون بكمية كبيرة من الأفكار التي تساعد على المضي في بحوثهم من دون أن ينهض الدليل العقلي على صحة تلك الأفكار، التي اتخذوها أساساً لأبحاثهم. فالعلم لا يدري ما هي الجاذبية؟ وكذلك بالنسبة إلى المادة أو الطاقة أو الكهرباء… إلخ، لكنه يفرضها لكونها تساعده على أداء مهمته، وهذا بالضبط ما يدعو إليه مذهب الذرائع. إذ يكفي أن تكون تلك الآراء والأفكار صحيحة فتوجهنا في حياتنا توجيهاً صائباً، بغض النظر أن نعلم الأشياء في ذاتها ما دمنا نستطيع أن نستخدمها، فحسبنا معناها آثارها، وليكن معنى الجاذبية أو الكهرباء هو ما تعمله وما تؤديه. وبذلك يمكننا أن نتخطى أعقد المسائل الفكرية التي أرهقت الفلسفة بلا نتيجة حاسمة، علينا أن نترك كل بحث في ماهية المادة أو ماهية الله وما إلى ذلك، وأن يكون بحثنا عن الآثار التي تنشأ عنها في حياتنا اليومية العملية، فإن لم يكن لها آثار في ما نصادف من تجارب، وجب عدها ألفاظاً خاوية من معناها ليس إلا.
ومن بين ما هدف إليه جيمس في إعادة صياغة مذهب الذرائع، هو تحديد “الفكرة” بدقة، إذ إما أن تكون الفكرة وسيلة لسلوك عملي معين يقوم به الإنسان، أو لا تكون على الإطلاق. فالفكرة التي تحيا في الذهن وحده ليست جديرة بهذا الاسم، ولا خير فيها إن لم ترشد الإنسان في حياته وسلوكه، كما في إشارات المرور في السكك الحديدية يراها سائق القطار فتوجه تصرفه توجيهاً معيناً، أو في النوتة الموسيقية بتوجيه حركات الموسيقى، فإن لم يكن لها هذه الفائدة كانت عبثاً لا تعني شيئاً. وعلى هذا الأساس، يجب أن تكون كل فكرة في أذهاننا مرشداً عملياً يرسم لنا سلوكنا ويضع لنا القواعد التي ينبغي أن نسير على مقتضاها في حياتنا اليومية.
كيفما كان الأمر، يرى جيمس، بأن العقيدة الدينية التي لا تملك قيمة فورية في حياتنا اليومية إلا بدرجة قليلة الضآلة غير أنها واجبة، لكونها تضيف على حياتنا نوعاً من التفاؤل، وكذلك تنسجم مع الأفكار الأخرى لكونها لا تصطدم متعارضة معها. وهذا يعني، إذا تساوت ظروف فكرتين، ثم كانت الأولى تبث شحنة تفاؤلية إيمانية، والثانية شحنة تشاؤمية ملحدة، بلا ريب، تكون الأولى أصدق وأسلم من الثانية، التي تقبض بها النفس وتخنع، بالإضافة إلى أن المؤمن والملحد في الوقت نفسه لا يؤثران على الآلية الحياتية في العمل وفق ما يعتقدانه، وما الفارق إلا في الشحنتين الآنفتي الذكر.
ويذهب ويليام جيمس إلى القول، بأن المعتقد الديني الذي يترتب على نتائج نفسية مُرضية، فإنها تعد “تجربة محضة”، كما في التجربة العملية المادية، علاوة على كونها تتوقف على إرادة الإنسان وحده. حيث أن لهذه العقيدة أثراً كبيراً في حياتنا اليومية، ولكي لا تتساوى فكرتا المؤمن بوجود الله، والملحد الناكر، ينص جيمس، بأن الرأي الصحيح والصائب أكثر يكون هو المفيد الأكثر إلى أكبر كمية من الناس.
وعلى منوال بيرس، يرى جيمس، أن البراغماتية تجد أن الاختلاف بين المادية والمثالية يكون في اللفظ فقط. وبذلك، يعد جيمس أن “علم الإنسان” تكمن فيه مشكلة اللغة في الفلسفة التحليلية. بمعنى، يمكن أن تكون التجربة المحضة لها تعابير مغايرة أخرى. وكتب في ذلك ما يلي:
“التجربة المحضة هي الاسم الذي أعطيه إلى التدفق الفوري للحياة، التي تزود المادي إلى عبادتنا المنعكسة، مع أن التجربة المحضة مقولة مفاهيم… إنها اسم آخر للشعور والإحساس، لكن تدفقها لا يأتي سريعاً منها ويتجه نحو الشعور نفسه بالتوكيد. وهذه الأجزاء الملحوظة تصبح مماثلة وتثبت التجريد. وهكذا، فإن تلك الخبرة تدفق فوراً إذا فرغت من خلال الصفات والأسماء وحروف الجر وحروف العطف. إن التجربة المحضة هي النهاية الحقيقية فحسب، إنها تعادل نسبي لإحساس الوصف التي هي ما تزال منتظمة”. (ويليام جيمس).
وانطلاقاً من هذا التحليل النفسي واللغوي، يحاول جيمس أن يكسر القيد المادي في مبدأ التجربة والمشاهدة، لكي يبرهن على أن فكرة وجود الله لا تؤثر في المنهج البراغماتي، وكذلك بطريقة لوذعية يحافظ فيها على مبدئه الفلسفي، وفي الوقت نفسه يمنح للنفس الاطمئنان الديني. غير أن هذه المنحة جاءت مربكة تخلط بشكل تعسفي بين الزين والشين كما يقال، إذ طالما كانت ذات فائدة للجميع، فلا يهم ما يكون ذلك المعتقد، فليكن عبادة الشيطان بدل الله، وهذا هراء وإجحاف بحق الأديان السماوية، المسيحية والإسلام وغيرها. لذلك نقده راسل وسنتيانا، مع أنهما ماديان لا يؤمنان بوجود الله. كتب راسل بما يلي:
“مذهب جيمس هو محاولة لبناء البنية الفوقية للاعتقاد على أساس من الشك، ومثل كل هذه المحاولات، فإنها تعتمد على المغالطات. في حالته، تنبع المغالطات وتحاول تجاهل كل الحقائق غير البشرية. إن المثالية البركلية (جورج بركلي) المقترنة بالتشكيك تدفعه إلى استبدال الإيمان بالله من أجل الله، والتظاهر بأن هذا سيفي بالغرض. لكن هذا ليس سوى شكل من أشكال الجنون الذاتي الذي يعد من سمات معظم الفلسفة الحديثة”. (تاريخ الفلسفة الغربية)
نقلا” عن العرب اللندنية