افتتح الممر المائي الاصطناعي عام 1869 والفراعنة امتلكوا فكرة عظيمة عن معبر يوصل إلى الهند
جو سمرلاد
بشكل مفاجئ، وجه العالم أنظاره إلى قناة السويس، الممر المائي الشهير الذي يربط البحر الأبيض المتوسط مع البحر الأحمر، بعد أن علقت سفينة الحاويات “إيفر غيفن” التابعة لأسطول “غولدن كلاس” المملوك لشركة “إيفر غرين”، إثر جنوحها، ما تسبب في تعطيل حركة الشحن المتجهة شمالاً وجنوباً.
في الأصل، شقت “شركة قناة السويس” ذلك الممر المائي الاصطناعي الذي يبلغ طوله 120 ميلاً (193 كيلومترات) بين عامي 1859 و1869، لكن جذور الفكرة تعود إلى مصر القديمة، وكذلك سعى البريطانيون في العصر الفيكتوري وراء الهدف نفسه المتمثل بفتح التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
إذ يعتقد أن الفرعون سنوسرت الثالث قد بنى قناة قديماً تربط البحر الأحمر بنهر النيل منذ فترة طويلة تعود إلى عام 1850 قبل الميلاد. وامتلك الفرعون اللاحق نخو الثاني (الذي حكم بين عامي 610 و595 قبل الميلاد) طموحات مماثلة، لكنها لم تتحقق إلى أن أكملها الفاتح الفارسي داريوس (بين عامي 522 و486 قبل الميلاد) الذي ورد على لسانه أنه “حينما حفرت القناة وفقاً لأوامري، ذهبت السفن من مصر إلى بلاد فارس عبر هذه القناة، مثلما كنت أقصد”.
وأورد هيرودوت أن 120 ألف رجل قتلوا خلال محاولة الفرعون نخو، وأن “قناة الفراعنة” التي أكملها داريوس بين النيل و”البحيرة المرة العظمى” جاءت واسعة بما يكفي مرور مركبتين جنباً إلى جنب ومجاذيفهما ممدودة، من دون الاصطدام ببعضهما بعضاً.
أعيد تهيئة القناة من قبل [الحاكم الروماني] بطليموس الثاني فيلادلفوس في عام 270 أو 269 قبل الميلاد، أي قبل أن يؤدي الانحسار التدريجي للبحر الأحمر إلى جانب التراكمات المستمرة للطمي من نهر النيل، إلى تلاشي استخدامها مع مرور القرون.
وفي حين أعاد تجار البندقية إحياء فكرة حفر ممر يوصل إلى الهند في أوائل القرن السادس عشر، إلا أن الفضل في إنشاء أول قناة حديثة يعود إلى نابليون بونابرت. وقد جرى ذلك بعد احتلاله مصر في 1798.
في المقابل، قدم المهندسون ورسامو الخرائط نصيحة خطأً للقائد الفرنسي مفادها أن البحر الأحمر يقع على ارتفاع 30 قدماً (نحو 9 أمتار) فوق مستوى البحر المتوسط، ما يعني أن دلتا النيل ستغرق في حال بناء ممر مائي اصطناعي، وثنوه عن السعي إلى إنشائه.
من جهة أخرى، صححت تلك المغالطة بعد ما راجع فريق من الخبراء ضم بول أدريان بوردالو وروبرت ستيفنسون وألوي نيغريللي، الأمر في 1847، ما مهد الطريق أمام الدبلوماسي الفرنسي السابق فرديناند دي ليسبس كي يتفاوض على اتفاق حول المشروع الضخم مع نائب الملك المصري، ما أدى إلى تشكيل شركة قناة السويس في 1854.
وبعد ثلاث سنوات، بدأ دي ليسبس العمل على قناته الطموحة، بأن شق ممراً من بورسعيد إلى بورتوفيق، على الرغم من مواجهته مقاومة شرسة من البريطانيين (الذين قلقوا من تأثير المشروع على طرق التجارة المربحة مع الهند). إذ وصفت الصحافة البريطانية القناة بـ”سرقة شنيعة بغرض نهب البسطاء”. وكذلك دخل دي ليسبس في حرب كلامية مع رئيس الوزراء البريطاني حينها اللورد بالمرستون، حتى أنه تحدى ستيفنسون لخوض مبارزة شرفية بعد أن انتقده في البرلمان.
في مقلب مغاير، أجبر الفلاحون المصريون على المشاركة في البناء تحت تهديد العنف. واستخدموا المعاول والمجارف وأيديهم العارية في شق القناة قبل أن يحظر حاكم البلاد آنذاك إسماعيل باشا هذه الممارسة في عام 1863، مجبراً دي ليسبس على استخدام مجارف وكراكات ذات تقنية عالية تعمل بالبخار والفحم بدلاً من ذلك. في نهاية المطاف، جُرفت خمسة وسبعون مليون متر مكعب من الرمال خلال عقد من أعمال البناء، ونقل ثلاثة أرباعها بواسطة الآلات الثقيلة.
في تطور بارز، جرى حفل افتتاح للقناة أمسية 15 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1869 في بورسعيد. وقد شهد الحدث عروض إضاءة وألعاباً نارية ومأدبة عشاء على متن يخت الباشا [إسماعيل]. وحضر الافتتاح الإمبراطور فرانز جوزيف الأول وإمبراطورة فرنسا أوجيني وولي عهد بروسيا.
وفي ملمح ملفت، اقترح النحات الفرنسي فريدريك أوغست بارتولدي على دي ليسبس في ذلك العام فكرة صنع تمثال بطول 90 قدماً (نحو 210 أمتار) عن امرأة تحمل شعلة كي تكون بمثابة منارة هدفها توجيه السفن إلى القناة عند مدخلها. وقد رفض المهندس [دي ليسبس] المشروع الذي حمل اسم “مصر تجلب النور إلى آسيا”. لكن، لم تردع مرارة الرفض بارتولدي عن مسعاه إلى أن توصل في نهاية الأمر إلى صنع نسخة مختلفة متميزة في مدينة نيويورك في 1886 باتت تعرف باسم “تمثال الحرية”.
وفي تطور تال، أصبحت قناة السويس مركزاً للصراع بين بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بعد 87 عاماً من افتتاحها، حينما أممها الرئيس المصري جمال عبد الناصر في 26 يوليو (تموز) 1956. ويذكر أن مصر حصلت على استقلالها عن الإمبراطورية البريطانية في 1922 لكن قوة عسكرية محتلة واصلت الإشراف على القناة بهدف تأمين المصالح التجارية البريطانية. وكذلك عارضت بريطانيا مشروع بناء سد أسوان [السد العالي].
وتالياً، دخلت قوات ثلاثية الأطراف [بريطانيا وفرنسا وإسرائيل] إلى مصر في 29 أكتوبر (تشرين الثاني) بهدف استعادة السيطرة على القناة، قبل أن تلقى إدانة على نطاق واسع في المجتمع الدولي، بما في ذلك الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد السوفياتي الذي هدد بالانتقام عبر السلاح النووي.
وكذلك تعرض رئيس الوزراء البريطاني حينها أنتوني إيدن لضغوط من محتجين في بلاده، وأجبر على إصدار أمر بالتراجع، واستقال في النهاية بسبب المهانة التي تعرض لها واعتلال صحته.
وفي زمن لاحق، تصدرت القناة عناوين الأخبار خلال حرب “الأيام الستة” بين مصر وإسرائيل في 1967، إذ أغلقت وسد مدخلاها بواسطة سفن محترقة وألغام.
أثناء الإغلاق، حوصرت 15 سفينة شحن وسط القناة واضطرت بشكل مذهل إلى الانتظار هناك ثماني سنوات، وأصبحت تلك السفن تعرف باسم “الأسطول الأصفر” بسبب تغطية أسطحها برمال الصحراء.
وإلى حين سمح للسفن بالتحرك، أخيراً، في 1975 بعد توقيع اتفاق جديد بشأن تحريرها، اضطر أفراد الطاقم الذي كلف بحراسة سفن الشحن إلى شغل أنفسهم من خلال تشكيل مسابقات رياضية وأنشطة اجتماعية خاصة بهم، حتى أنهم طوروا نظام مقايضة وطوابع خاصة بهم يستخدمونها فيما بينهم. بعد ثماني سنوات من الرسو، تبين أن سفينتين من أصل 15 تصلحان للإبحار، حينما سمح لها ذلك مرة أخرى.
وفي الآونة الأخيرة، تمتعت قناة السويس بتجارة مستقرة، إذ تعبرها نحو 50 سفينة يومياً في الأيام العادية، وتجني الحكومة المصرية 5 مليارات دولار سنوياً من رسوم العبور.
وكذلك خضعت القناة لسلسلة من التحسينات.
ففي أغسطس (آب) 2014، انطلق مشروع بـ9 مليارات دولار أميركي هدفه توسيع وزيادة عمق “معبر البلاح” الموازي [للقناة الأصلية] الذي يمتد بطول 22 ميلاً (نحو 35 كيلومتراً) خارج القناة الرئيسة، ما أتاح مرور 97 سفينة يومياً وتقليص الزمن اللازم لعبور القناة، حينما افتتح “معبر البلاح” بعد سنة [من بدأ الاشتغال عليه].
في معلومات ذات صلة، تدير شركة “إيفر غرين مارين” التايوانية المسجلة في بنما، سفينة “إيفر غيفن” العالقة في هذه الأزمة ويبلغ طولها 1300 قدم (قرابة 396 متراً).
وقد بنيت السفينة على يد شركة “إماباري” اليابانية المتخصصة في بناء السفن. وتبلغ طاقتها الاستيعابية 20388 حاوية. وانطلقت للمرة الأولى في 9 مايو (أيار) 2018. وقبل وقوع الكارثة، كانت السفينة في طريقها إلى ميناء روتردام في هولندا، مقبلة من الصين.
وبحسب معلومات منتشرة، تعرضت السفينة “إيفر غيفن” لحادثة سابقة في فبراير (شباط) 2019، حينما اصطدمت بقارب صغير في ميناء هامبورغ الألماني.
المصدر : أندبندنت عربية