كريتر نت – العرب
تواجه ألمانيا معضلة كبيرة تتمثل في أنّ الخريجين من المؤسسات التعليمية لتعليم الدين الإسلامي في البلاد لم ينجحوا في الرد على القضايا الفقهية العامة ومواجهة الصعوبات المؤسسية، كما أن المساجد ليست لديها قدرات مادية لدفع رواتب هؤلاء الخريجين بالشكل الذي يناسبهم، ما يتيح للجماعات المتطرفة فرصة السيطرة عليها وبالتالي توجيه الخطاب الديني لخدمة الأجندات السياسية.
ويعد تدريب الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية في ألمانيا (ديتيب) لأئمة المساجد في ألمانيا بشكل منفرد في اتجاه معاكس لرؤية السلطات الألمانية التي تنطلق في أبريل القادم في برنامج نموذجي لتدريب الأئمة في ألمانيا وتخريج أئمة مستقلين، مشروعا موازيا يعكس قصور التشريعات الألمانية في ضبط الأنشطة الدينية على أراضيها.
وأعلن الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية في ألمانيا (ديتيب)، على ما يبدو أنها حملة ترويجية ودعائية، أن برنامجه الخاص لتدريب الأئمة الأتراك داخل ألمانيا بدل تدريبهم في تركيا قد لقي صدى إيجابيا ما دفع دولا أخرى للاستفسار بشأنه بغاية الاستئناس به.
وأسس اتحاد ديتيب، وهو أكبر مؤسسة إسلامية بألمانيا تتلقى تمويلها مباشرة من الحكومة التركية، مركزا في بلدة دالم بولاية شمال الراين-فيستفاليا غربي البلاد يتم به حاليا تدريب جزء من الأئمة مباشرة في ألمانيا للمرة الأولى.
وفيما تعرب حكومات الولايات الألمانية عن تحفظها تجاه ديتيب وتطالب بانفصاله عن أنقرة، يرى متابعون أن الاتحاد من خلال ترويجه لتماشي أنشطته مع القوانين المحلية يستبق خطوة ألمانية بوقف استيراد الأئمة المتدربين خارج ألمانيا أسوة بفرنسا.
ديتيب يستثمر الثغرات القانونية للإفلات من الرقابة على برامج تدريب الأئمة، إذ أن المهم ما يلقن لهؤلاء وليس مكان تلقينهم
ويشير هؤلاء إلى أن ديتيب يستثمر في تردد الحكومة الألمانية من أجل عدم تضييق الخناق عليه وعدم فرض رقابة صارمة على برامج التكوين والتدريب التي يعتمدها، إذ أن المهم ما يلقن لهؤلاء الأئمة وليس مكان تلقينهم.
ويتم حاليا تدريب 90 في المئة من إجمالي 2500 إمام في ألمانيا -من بينهم 1100 مفوض ديني لاتحاد ديتيب- خارج ألمانيا.
ويعد ديتيب أكبر مظلة إسلامية في ألمانيا تضم 900 مسجد بأئمة أتراك مدربين وممولين من أنقرة. وشكلت لغة هؤلاء الأئمة والحاجز الثقافي إلى جانب ولاء العديد منهم للحكومة التركية دافعا للحكومة الألمانية للتعامل بشكل مكثف مع هذه القضية في السنوات الأخيرة.
واستثمر اتحاد ديتيب القوانين العلمانية في ألمانيا من أجل ضرب المساعي الحكومية لتحجيم نفوذ الأئمة الأتراك وذلك برفض الانخراط في برنامج نموذجي حكومي لتدريب الأئمة تشرف عليه جمعيات ممولة من قبل وزارة الداخلية الألمانية، إذ يمنع الدستور الألماني الحكومة من التدخل في الشؤون الدينية للمجتمع.
وقال بنيامين شتراسر، النائب في البرلمان الألماني عن الحزب الديمقراطي الحر، إن كل ما يمكن نصح ممثلي الروابط الإسلامية الأخرى به هو قبول هذا العرض ودعمه لأن التدريب المستقل “يمكنه أن يخلق الثقة والمصداقية على المدى البعيد”.
ديتيب خارج السرب
ترغب برلين في قطع العلاقات المالية والمؤسسية بين جاليات المسلمين الألمان والحكومة التركية كجزء من حملة جريئة لمساعدة المسلمين الألمان على تطوير نموذج محلي في ألمانيا.
وفي هذا الإطار تبدأ الحكومة الألمانية في شهر أبريل القادم برنامجها النموذجي لتدريب للأئمة المستقلين باللغة الألمانية في ألمانيا، حيث سيتمكن علماء الدين الإسلامي الراغبين بأن يصبحوا أئمة أو معلمين مجتمعيين من التقدم إلى الكلية الإسلامية في ألمانيا.
ووفقاً لأستاذ الفقه الإسلامي بجامعة أوسنابروك بولنت أوكار ستبدأ السنة الأولى من تدريب الأئمة بحوالي 30 مشاركا وسيتيح التدريب لهؤلاء أن يصبحوا أئمة أو معلمين مجتمعيين، وهو متاح للرجال والنساء.
والشرط الأساسي هو الحصول على درجة البكالوريوس في الفقه الإسلامي، والأفضلية لمن حصّل هذه الدرجة في ألمانيا، كما يمكن لأي شخص درس الفقه الإسلامي خارج ألمانيا التقدم، بشرط أن تكون معرفته باللغة الألمانية كافية، بالإضافة إلى ذلك يتم تخصيص ما يصل إلى 20 في المئة من المقاعد في تدريب الأئمة لعلماء الدين الذين يعملون كأئمة في ألمانيا، بالإضافة إلى ذلك سيكون هناك المزيد من الدورات التدريبية للأئمة وعلماء الدين المسلمين في الكلية.
ويقول البروفيسور رؤوف سيلان من جامعة أوسنابروك، الذي سبق وصاغ “خارطة طريق” حول كيفية بناء برنامج تعليمي للأئمة في ألمانيا، إذ رأى أن المبادرة الجديدة بمثابة “وضع قدم في الباب”.
ومع ذلك حذر سيلان من أن المشروع الرائد يجب ألا يبدأ بـ”توقعات كبيرة” ولكن “نحتاج فقط إلى البدء فيه، وأعتقد أنه عندما تظهر الجودة نفسها على المدى البعيد ستحصل على قبول” المجتمع لها.
ويقف وراء المشروع المجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا، والجالية الإسلامية للبوشناق (البوسنيين) والمجلس المركزي للمغاربة. وفي المقابل، لم تنضم العديد من الجمعيات الكبيرة الجامعة إلى هذا المشروع، ومنها الاتحاد الإسلامي التركي (ديتيب) الذي أطلق بدل ذلك مبادرته الخاصة لتكوين الأئمة.
ولم يشارك ديتيب في المشروع الألماني لتعليم الأئمة المسلمين، حيث يعيش في ألمانيا ما يقرب من 4.5 مليون مسلم بينهم 3 ملايين من أصول تركي.
الدستور الألماني يمنع الحكومة من التدخل في الشؤون الدينية للمجتمع
وأعرب الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية عن اعتزامه تدريب جزء من أئمته في ألمانيا مستقبلا. وأعلن رئيس الاتحاد كاظم توركمان في 9 يناير 2020 في مدينة دالم غربي ألمانيا البدء الرسمي لذلك، وقال إن الاتحاد سيصير رائدا من خلال هذه “البداية الجديدة”، التي وصفها بأنها “تطور تاريخي ليس فقط بالنسبة إلى الاتحاد، ولكن بالنسبة لألمانيا أيضا”.
وكان مؤتمر للعلماء المسلمين، نظمه ديتيب في 2019 ، قد حذر في بيان مشترك من أن أي محاولة لإدخال “الإسلام الألماني” أو “الإسلام الأوروبي” ستتناقض “مع عالمية الإسلام الذي ينير جميع الأعمار والأماكن في نفس الوقت”.
وقال ماركوس كيربر كبير موظفي الخدمة المدنية في وزارة الداخلية الألمانية في تصريح لصحيفة فاينانشيال تايمز “يتعين على الحكومة التركية أن تتقبل حقيقة أن الأيام، التي كانت تسيطر فيها بالكامل على المساجد الألمانية من خلال إدارة ديتيب لها، قد انقضت”. ويؤكد كيربر أنه أخبر المسؤولين في أنقرة بأن “الأتراك في ألمانيا هم مسؤوليتنا ويجب أن يعتادوا على ذلك”.
ويوضح كيربر أن المسلمين الألمان كان لديهم الحق في الدعوة باللغة الألمانية وأن يكون لهم أئمة على دراية بواقع الحياة اليومية في ألمانيا”.
ويستطرد كيربر قائلاً “على سبيل المثال، فالسؤال عما إذا كان الثقب (في الأذن أو الأنف لارتداء حلق) والوشم متوافقة مع تعاليم القرآن، فإذا كان الإمام لا يستطيع تقديم إجابات لأسئلة مثل هذا السؤال، فإن هناك خطرا حقيقيا من أن يلجأ الشباب المسلم إلى إمام على الإنترنت، ويمكن أن يؤدي ذلك بسرعة إلى دهاليز مظلمة”.
ويؤكد بأن “الخطوة مهمة للغاية وهي الأولى فحسب” بعد فقدان الثقة لفترة طويلة، مما يوفر حاليا بديلا لإرسال الأئمة من تركيا.
من شريك إلى خصم
كشف القناع عن ديتيب
كان اتحاد ديتيب يُعتبر بالنسبة إلى السلطات الألمانية أهم شريك في قضايا الدين والاندماج واستفاد من دعم حكومي. إلا أنه بسبب اتهامات بالتجسس تدهورت هذه السمعة.
وكشفت تقارير ألمانية في نهاية سبتمبر 2018 أن جهاز الاستخبارات الألمانية يدرس وضع ديتيب تحت المراقبة. وحقيقة أن ديتيب لم يعد منذ مدة شريكا نموذجيا في قضايا الاندماج.
وترى رئيسة المجموعة البرلمانية الألمانية التركية في ألمانيا سيفيم داغديلين أن أكبر جماعة إسلامية في ألمانيا هي الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية، وهو الوكيل الرئيسي لتركيا في ألمانيا، معتبرة أنه “وسيلة أساسية للتأثير على المساجد التابعة لتركيا في ألمانيا وبث خطاب سياسي إسلاموي متشدد يتناسب مع سياسات أنقرة الداخلية والخارجية”.
ويقول الخبير في شؤون المخابرات التركية إريك شميت إينبوم إن الأئمة الأتراك التابعين لـديتيب يلعبون دوراً مهماً في تحديد عملاء لتجنيدهم. ويضيف “هؤلاء الأئمة يتبادلون المعلومات مع الدوائر التركية وهم يلعبون دور الوسيط بين المخبرين الأتراك في ألمانيا وحكومة رجب طيب أردوغان في أنقرة”.
وفي 2018، تراجع الدعم المالي الذي يتقاضاه الاتحاد من الحكومة الألمانية إلى 300 ألف يورو فقط، مقارنة بـ1.5 مليون يورو في 2017، نتيجة للشكوك المحيطة به.
وأبرزت صحيفة “نويه زوريشر” السويسرية الناطقة بالألمانية التوتر الكبير في العلاقة بين ديتيب والحكومة الألمانية.
الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية في ألمانيا أعلن على أن برنامجه الخاص لتدريب الأئمة الأتراك داخل ألمانيا بدل تدريبهم في تركيا قد لقي صدى إيجابيا
وأوضحت في تقرير لها “حينما حضر أردوغان احتفالا فوضويا بمناسبة افتتاح أكبر مساجد الحركة في مدينة كولونيا ‘المسجد المركزي’، والعلاقة بـديتيب والسلطات الألمانية متوترة”، وباتت الحركة تمثل عبئا ثقيلا على السياسة الألمانية وجاء في التقرير “أقصت الحركة كل السياسيين الألمان من الحفل، وأبرزت افتتاح أردوغان للمسجد وكأنه انتصار شخصي للرجل، ما أثار الغضب في ألمانيا”.
وبثّت القناة التلفزيونية الألمانية “زي.دي.أف” في وقت سابق فيلما وثائقيا، قدّم دليلا جديدا على أعمال التجسس التي دأبت أنقرة على القيام بها في ألمانيا ضدّ معارضي ومنتقدي حكومة حزب العدالة والتنمية الإسلامي الحاكم في تركيا والرئيس رجب طيب أردوغان.
وكشف الفيلم الوثائقي الذي يحمل عنوان “كيف يتعرّض منتقدو أردوغان للتجسس في ألمانيا؟”، عن أدلة على أن التجسس لا يزال يتم من قبل الاتحاد الإسلامي التركي في ألمانيا، وذلك بتكليف مباشر من الاستخبارات التركية.
وبحسب الفيلم الوثائقي، فإنّه يُطلب من الأئمة في مساجد ديتيب جمع معلومات عن الأهداف وأماكن تواجد المعارضين الأتراك والسياسيين الألمان، حيث يتم إرسال تلك المعلومات مباشرة إلى السفارة والقنصليات التركية في المدن الألمانية، والتي بدورها ترسلها بانتظام إلى المخابرات التركية.
وسبق أن نُشرت في السابق ادعاءات بالتجسس وكذلك تهديدات بالقتل والاختطاف وجهتها تركيا ضدّ معارضي أردوغان وحكومته في ألمانيا، ولكن يبدو أن السلطات الألمانية فشلت حتى الآن في التحرّك بزعم أنّه لا توجد أدلة كافية تبرّر فتح قضايا. ومع ذلك، يعزو بعض السياسيين الألمان والمعارضين للحكومة التركية، تقاعس الحكومة الألمانية إلى الروابط الاقتصادية والعسكرية القوية التي تربط البلدين.