مرح البقاعي
في الوقت الذي يعاني منه العالم بأسره من جائحة هي الأسوأ منذ مئة عام من عمر البشرية أودت بحياة مئات الألوف من سكان هذا الكوكب في قاراته الخمس ولم توفّر لا شاباً ولا كهلاً ولا مسنّاً من شرها، تبرز الحاجة إلى أدوات مسكّنة موازية نستعيض بها روحانياً عن عجز العلم في بعض مراحله عن مواجهة الأمراض الصعبة – وفي مقدمتها جائحة كوفيد – 19- لينقذ أرواح الملايين الذين يقبعون مذعورين في منازلهم وقد تحوّلت إلى معتقلات اختيارية لهم هرباً من لقاء الناس واحتمال العدوى والإصابة بالمرض القاتل.
وهل هناك ما هو أقدر على مواساة إنسان وحيد يواجه عدواً مجهولاً يتربص به عند كل شهيق أو زفير شاهراً في وجهه سلاح القاتل الخفي الذي لا ملامح له ولا عنوان إلا بالتعاطف والدعم النفسي بالكلمات الطيبة؟ وهل أطيب من كلمات الشعر لمواجهة الموت بقوة الحياة النابضة بين ضلوع بيانه؟
الأميركيون يقولون نعم للشعر كإحدى الوسائل الشعورية التي توفر للطبيب المعالج والمريض المصاب في آن منصة للاستشفاء بقوة البيان لأنه “في البدء كانت الكلمة”.
وليس أقدر على تمكين نظرية تلازم قوة الشعر مع إرادة التعافي مما قاله الشاعر الأميركي الكبير، والت ويتمان، الذي دأب خلال أحداث الحرب الأهلية الأميركية على مجالسة المصابين والمرضى في المشافي الميدانية “وحده الشاعر من يستطيع أن يسحب الموتى من توابيتهم لينتصبوا من جديد واقفين على أقدامهم”. كانت الصدمة العظيمة لويتمان عندما وقع نظره على كومة من الأطراف المبتورة عند بوابات أحد المشافي الميدانية في ولاية فيرجينيا، وقرر عندها أن يلازم هؤلاء الجرحى على أسرّتهم ليوزع عليهم الفواكه والحلويات إلى جانب الصحف والأوراق، وليساعدهم على كتابة الرسائل لذويهم.
اليوم وفي الولاية نفسها التي رسمت ذاكرة مؤلمة لدى ويتمان في العام 1862 من سنوات الحرب الأهلية، تقوم جامعة ضخمة هي “جامعة فيرجينيا”. في الجامعة مركز يدعى “الصحة والعلوم الإنسانية والأخلاق” يعمل فيه الأطباء على تدريب الجهاز الطبي والطلاب على الأبعاد الإنسانية للمرض والصحة وعلاقتهما بالفنون والعلوم الإنسانية والأخلاق والفلسفة والدين.
الدكتورة إيرين ماثيو طبيبة أطفال في جامعة فيرجينيا، تكتب الشعر منذ أن كانت طالبة في الطب، وهي محاضرة الآن في المركز حيث تقوم بتوجيه طلاب كلية الطب إلى قوة الشعر وفاعليته في الشفاء. وهي ترصد خلال محاضراتها حماس الطلاب وتفاعلهم مع الشعر ولو كانوا بعيدين كل البعد ضمن مناخهم العلمي المادي عن علوم الأدب الشعورية.
وتقول الدكتورة ماثيو لموقع Share America، وهو منصة حكومية تابعة لوزارة الخارجية الأميركية مهمتها التواصل مع شعوب العالم عبر معطيات سياسات واشنطن الدولية “ما يحتاجه الناس في بعض الأحيان هو جرعة من تجربة حسية تكون مكمّلاً معنوياً للعلاج”.
أما الدكتور رافائيل كومبو، الطبيب في كلية الطب بجامعة هارفارد العريقة والشاعر الحائز على جوائز شعرية عديدة، فيقول مؤكداً على طرح الدكتورة ماثيو “أحد أسباب قوة الشعر هو أنه يمنح الناس صوتاً، إنه يتيح لنا سماع صوت شخص آخر لنكون حاضرين في تجربته”. ويتابع كومبو “بالنسبة للعديد من الأطباء، الشعر هو الدواء الذي يحتاجونه هم أنفسهم. إنه يساعدهم في مواجهة عجز ومحدودية قدرتهم الذاتية على شفاء المرضى، وحزنهم من مشاهد المعاناة والموت”.
يكتب كامبو في قصيدته “ماذا سأعطي”: ما أود أن أعطيه لمرضاي ليس طمأنتهم أن رئتيهما بحالة جيدة وحسب/ وأن ما لاحظوه من ورم ليس سرطاناً/ ولكن بدلاً من الخوف الذي سينتابهم من نصائحي العلمية/سأمنحهم دهشتي/ حين أسير والمطر يتهاطل كأن العالم بأسره يبكي/ وماؤه يغسل شعري ساخراً مني بلطف/ هذا ما أودّ أن أعطيه.
وأنا أسجل هذه السطور بلغة الضاد مهد الشعر العربي منذ آلاف السنين وكتاب تاريخه وصولجان كبار شعرائه، أتساءل: هل تراجعت مكانة الشعر في دارته الأولى وموئله العربي لتمسي لغة الهاشتاغ الخفيف الوزن والتغريدة السريعة على حساب تويتر هي بيت القصيد العربي المعاصر وعنوان بيانه!
قد تكون الإجابة عن تساؤلي ومخاوفي بالنفي. فتوازياً مع الاحتفال بيوم الشعر العالمي في الـ21 من مارس من كل عام، وإحياء للحيّز النضير من تاريخ العرب وقد سجله شعراؤهم في قصائد كتبت بماء الذهب وعلّقت على أبواب الكعبة لتكون كتاب التاريخ الحافظ لأحداث ما قبل الإسلام وما بعده،عرضت مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بعاصمة المملكة العربية السعودية الرياض ضمن مجموعة مقتنياتها من المخطوطات الثمينة مخطوطاً نادراً لديوان شاعر العرب والعربية أبي الطيب المتنبي يعود إلى القرن الحادي عشر الهجري أي السابع عشر الميلادي.
ختاما، وفي حال كان في الشعر بعضٌ من شفاء الجسد على الطريقة الأميركية والكثير من شفاء الروح على نهج بلاغة العرب، هل ستسمح لنا برامجنا اليومية الضاغطة – نحن أولاد القرن الحادي والعشرين- بوقفة قصيرة نرتاح فيها من إرهاق دورة العمل وتسارع التقانة عند عتبات مخمل وماء ورد الشعر؟ أتساءل من جديد.
نقلا” عن العرب اللندنية