القاهرة : محمد حماد
تستعد مصر ولأول مرة منذ عقود لاستصلاح الملايين من الأفدنة أملا في التخلي عن استيراد الحبوب من الخارج، والتحول إلى طبيعتها كبلد نشأت على ضفاف نيلها حضارات منذ الآلاف من السنين، وكان قوامها الثروة الزراعية. وطرحت الدولة أخيرا مشروعات تستهدف زراعة نحو مليوني فدان خلال عامين. وهي بذلك تعد دلتا جديدة للبلاد بعد أن تآكلت أجزاء كبيرة من الأراضي في الدلتا القديمة بسبب كثافة المباني على الأراضي الزراعية.
ودشن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مشروعا قوميا جديدا قبل أيام أطلق عليه الدلتا الجديدة في شمال غرب البلاد لزراعة مليون فدان تساعد على الخروج من الوادي الضيق المحيط بضفتي نهر النيل والذي تعيش في نطاقه غالبية السكان، ويطلق عليها دلتا نهر النيل وتقع بين فرعي النيل بمصر، فرع رشيد، وفرع دمياط.
تسببت عشوائية التخطيط وغياب رؤية مستقبلية للتنمية في مصر في تآكل الدلتا القديمة التي ظل المصريون مرتبطين بها منذ عصور قديمة، وتسبب هذا الارتباط في استمرار عمليات الزحف السكاني والبناء المتسارع على الأراضي الزراعية.
وزاد من الظاهرة انتشار الفساد، والتشريعات الرخوة التي لا تجرم التعدي على الأراضي الزراعية، ما جعل مصر أكبر مستورد للغذاء، خاصة الحبوب بعد أن كانت سلة الغذاء للعالم قديما.
وأدى هذا التشوه إلى استيراد مصر لأكثر من ثلثي غذائها، في ظل سياسات كانت تبحث عن الحلول السهلة والسريعة لشراء الرضاء الشعبي، بغض النظر عن تكبد موارد البلاد قيمة فواتير استيرادية بدلا من توجيه قيمتها للتنمية وزراعة الأراضي الصحراوية.
وفقدت مصر خلال سنوات معدودة قدرتها على تحقيق الكثير من جوانب الأمن الغذائي ومواجهة متطلبات الزيادة المستمرة في عدد السكان من السلع الغذائية. وكشفت تداعيات وباء كورونا مؤخرا عن أهمية قصوى للقطاع الزراعي الأمر الذي دفع الدولة إلى إعادة رسم خططها في مجال الزراعة ومنع تصدير بعض الحاصلات الزراعية لتحقيق اكتفائها الذاتي أولا.
وتتفرد الدلتا الجديدة بموقع إستراتيجي لقربها من الدلتا القديمة وشبكة الطرق والموانئ، حيث تتاخم محور “روض الفرج – الضبعة” الذي يربط محافظات القاهرة الكبرى بالساحل الشمالي الغربي مباشرة وفي نطاق الحدود الإدارية لمحافظات مرسى مطروح والبحيرة والجيزة، بالقرب من مناطق الخدمات لسهولة الانتقال ونقل المعدات اللازمة لتنفيذه.
إعادة توزيع السكان
نادر نورالدين: المشروعات الزراعية خطوة نحو تحول مصر للاكتفاء الذاتي
يسهم المشروع الجديد في إعادة توزيع السكان وجذب عدد كبير من المواطنين لتخفيف التكدس السكاني في الوادي القديم والدلتا، وتوفير فرص عمل للشباب في جميع الأنشطة الزراعية المرتبطة بها، سواء الحيوانية أو التصنيع الزراعي، فضلا عن ارتباط ذلك بإقامة مجتمعات سكنية متكاملة.
وتواكب دلتا الضبعة الجديدة تنفيذ مشروع مستقبل مصر الزراعي والذي شهد زراعة 200 ألف فدان، ويتوقع أن تصل إلى 350 ألف فدان بداية العام المقبل.
وتتوازى مع ذلك مشروعات يتم تنفيذها في مناطق أخرى في شمال ووسط سيناء في الشرق، وتوشكى في الجنوب، والوادي الجديد في الغرب، ومشروع الريف المصري في الظهير الصحراوي لعدد من المحافظات، ليصل إجمالي المساحات المطلوب إضافتها إلى الرقعة الزراعية خلال العامين المقبلين إلى أكثر من مليوني فدان.
وتضيف فورة المشروعات الزراعية التي يعلن عنها الرئيس المصري السيسي رسالة طمأنة للمستثمرين في مجال الزراعة، وأن مناوشات سد النهضة الإثيوبي لن تنال من خارطة مصر الزراعية أو تؤثر على حصة مصر من المياه.
ويرى نادر نورالدين أستاذ الأراضي والمياه بجامعة القاهرة أن المشروعات الزراعية التي أعلن عنها تحول يعكس خطة الدولة للاكتفاء الذاتي من الغذاء، وهي خطوة إستراتيجية.
وأضاف لـ”العرب” أن مشروع مستقبل مصر للإنتاج الزراعي المتاخم لمحور الضبعة كثيف الأمطار في الشتاء، الأمر الذي يزيد من مخزون المياه الجوفية في تلك المنطقة سنويا ويؤدي إلى وفرة في مياه الري، ويزيد من نجاح المشروع أن هذه المنطقة منبسطة تساعد على زيادة احتياطيات الخزانات الجوفية من المياه بكفاءة عالية.
وكشفت وزارة الزراعة المصرية أن نتائج الدراسات التفصيلية للأراضي للدلتا الجديدة أظهرت أنها تصلح لزراعة المحاصيل الإستراتيجية، على رأسها القمح والذرة الصفراء والبقوليات ومحاصيل الخضر وأنواع مختلفة من الفاكهة.
سيناريوهات توشكى
من العوامل المشجعة لمشروعي مستقبل مصر والدلتا الجديدة بالضبعة أنها تمثل امتدادا لترعة الحمام الخاصة بتنمية الساحل الشمالي، ويمكن أن تستخدم في ري المشروع أيضا، ما يعزز الوفرة المائية لتلك المنطقة.
ودعا نورالدين إلى التروي وعدم التسرع في تنفيذ المشروعات مجتمعة خشية من تكرار سيناريو مشروعي ترعة السلام في سيناء، وتوشكى في الصحراء الغربية جنوب مصر، حيث تم سحب مخصصات ترعة السلام لصالح توشكى، وفي النهاية لم يتم تنفيذ أي من المشروعين بنجاح.
وتشير دراسات جدوى المشروعين الجديدين إلى أنهما يحققان جزءا كبيرا من الاكتفاء الذاتي من القمح، إذ تعد مصر الأولى عالميا في استيراده، وكذا الذرة الصفراء وتتصدر المركز الثاني في استيرادها.
وتواصل مصر تحقيق الأرقام القياسية في استيراد غذائها فتعد الخامسة استيرادا لزيوت الطعام إلى جانب استيراد 32 في المئة لسد العجز في استهلاك السكر و80 في المئة من الفول ومئة في المئة من العدس.
وتحتاج للتحرك على مسارات متعددة في جميع الاتجاهات، حيث يفتح قطاع الزراعة صناعات كثيرة للقيمة المضافة على المحاصيل المرتبة بالنشطة الزراعية الأمر الذي يزيد من فرص تحقيق الأمن الغذائي.
وتأخرت مصر كثيرا في التوسع الأفقي بخططها الزراعية وأدى ذلك إلى تراجع كبير في نصيبها من الأراضي الزراعية، وأصبحت حصتها ضمن أقل البلاد بين دول حوض النيل، إذ تتم زراعة نحو 8.6 مليون فدان، بينما تزرع إثيوبيا 86 مليون فدان والسودان 32 مليون فدان. وتتواصل المعدلات لتصل في كل من أوغندا وكينيا، ولا تتعدى مساحة أي منهما نصف مساحة مصر، لأربعة أضعاف مساحة الأراضي الزراعية المصرية، وبالتالي تعاني مصر من قلة الأراضي المخصصة للزراعة بسبب الفقر المائي بالبلاد.
وتعكس تحركات القاهرة في قطاع الزراعة رغبتها في إنتاج الغذاء والاعتماد على الأراضي المتاحة بدلا من الخطط السابقة التي كانت تستهدف تأجير مساحات في عدد من الدول الأفريقية.
وقبل ثلاث سنوات تحركت وزارة الزراعة على هذا المسار وكشف تقرير أعده مركز البحوث الزراعية حول فرص الاستثمار الزراعي المصري في أفريقيا لدول الشرق والجنوب عن إمكانيات زراعية كبيرة في كل من موزمبيق وتنزانيا وزامبيا وبتسوانا وزيمبابوي.
حسين أبوصدام: استصلاح الأراضي الجديدة يضيف أربعة ملايين فدان
وقال التقرير إن زامبيا تمتلك 102 مليون فدان ولم تتم زراعة سوى 14 في المئة من مساحتها، فيما يصل نصيب الفرد فيها من المياه إلى 7500 متر مكعب سنويا، وترتبط بخطوط سكك حديدية مع تنزانيا وموزمبيق وزيمبابوي.
وخفت صوت هذه الدعوات من تداخل محادثات سد النهضة الإثيوبي، وفضلت القاهرة التركيز على تنمية أراضيها الزراعية بدلا من سيناريو الزراعة الخارجية، وأعدت تشريعا جديدا للري يستهدف ترشيد المياه ومنع التعديات على نهر النيل، فضلا عن الاستفادة من مياه السيول، وكثفت جهودها لتطوير منظومة الري الزراعي، وتحديدا في منطقة دلتا النيل القديمة التي لا تزال تتبع طرق الري بالغمر.
وشكل مجلس الوزراء المصري لجنة تضم وزراء الأوقاف، الموارد المائية والري، العدل، المالية، والزراعة واستصلاح الأراضي، لتطبيق منظومة جديدة للري الحديث من شأنها ترشيد استهلاك المياه.
وكشفت وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي عن ملامح منظومة الري الحديثة الجديدة للتحول من الري بالغمر إلى النظم الحديثة التي تستخدم الري بالتنقيط والرش والري السطحي والمحوري.
وشرعت الوزارة في تطبيق المنظومة الجديدة في مساحة تصل لنحو 328 ألف فدان من مشروع يستهدف تطبيق المنظومة على مليون فدان مقرر الانتهاء منها في 30 يونيو المقبل.
وسوف يتم العمل في تطبيق الري الحديث في مساحة أخرى تتجاوز 5 ملايين فدان وفقا لخطة مشتركة مع وزارة الموارد المائية والري، عبر حوافز تشجع المزارعين على التحول لهذا النظام الحديث، تضم حزم دعم وتسهيلات في تطبيق المنظومة الحديثة.
واستخدمت القاهرة جميع أسلحتها في معركة الحفاظ على المياه وتوعية الناس بأهمية الحفاظ عليها وتحريم الدين للإسراف في استهلاك المياه. ورغم خطوات التحديث المستمرة، إلا أن مشكلة الدلتا القديمة تظل صداعا مزمنا للحكومة، حيث تحتاج منظومة الري الجديدة مساحات زراعية كبيرة ومن ثم لا تصلح الطرق الحديثة في الملكيات الزراعية الصغيرة التي تم تفتيتها بشكل كبير، فضلا عن أن التربة في منطقة الدلتا من النوع الطيني الثقيل، وبالتالي تستغرق المياه وقتا للنفاذ إلى مسام التربة.
وتصل حصة مصر من مياه نهر النيل نحو 55.5 مليار متر مكعب، ويستهلك القطاع الزراعي نحو 85 في المئة منها بنحو 47 مليار متر مكعب. وتوقعت دراسات كلية الزراعة بجامعة القاهرة أن تفقد مصر نحو 17 في المئة من أراضيها الزراعية حال اتجاه إثيوبيا لملء سد النهضة خلال ست سنوات، ونحو 51 في المئة إذا تم تقليل فترة الملء لنحو ثلاث سنوات.
لكن، وفق تقديرات خبراء الزراعة واستصلاح الأراضي، 90 في المئة من مشروع الدلتا الجديدة لن تتأثر بأزمة سد النهضة لأنها تعتمد على المياه الجوفية، لكن المياه الجوفية في صحراء مصر الغربية غير متجددة، وما يتم سحبه منها لا يعود إليها مرة أخرى، وبالتالي عمر المياه الافتراضي محدد.
المياه الجوفية
الفقر المائي يهدد مشاريع المزارعين
يصل العمر الافتراضي للمياه الجوفية منطقة شرق العوينات جنوب غرب مصر لنحو 125 عاما، ومناطق الوادي الفارغ بوادي النطرون بالصحراء الغربية نحو 50 عاما، فيما غالبية المناطق بالصحراء يتراوح عمر مياهها الجوفية بين 50 إلى 70 عاما. وبدأت مصر مشروعات لزيادة العمر الافتراضي للمياه الجوفية من خلال الزراعات المحمية وقننت حد السحب اليومي من المياه دون إفراط.
ودشن جهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة مشروعا للمزارع المحمية، وبدأ المرحلة الأولى بزراعة خمسة آلاف مزرعة محمية على مساحة ألف فدان، ومن المخطط أن تحقق هذه المرحلة قدرة إنتاجية بنحو 1.5 مليون طن سنويا من أصناف الخضروات المختلفة.
وتعادل إنتاجية هذه المرحلة أكثر من مئة ألف فدان من الزراعات المكشوفة، وتوفر نحو 40 ألف فرصة عمل مباشرة لمختلف التخصصات ومستويات التأهيل العلمي.
وتوفر تكنولوجيا المزارع المحمية ترشيد استخدام المياه في عمليات الري بنسبة 90 في المئة، ما يعزز من خطط القاهرة الرامية لترشيد استهلاك المياه.
وتأتي هذه الخطوات بعد أن دخلت البلاد مراحل متقدمة في الفقر المائي، حيث يصل متوسط نصيب الفرد من المياه نحو 660 مترا مكعبا للفرد، مقارنة بخط الفقر المائي العالمي عند 2000 متر مكعب.
وقال حسين أبوصدام نقيب الفلاحين إن جميع مشروعات استصلاح الأراضي تعبر عن خطة طموحة تستهدف إضافة أربعة ملايين فدان إلى المساحة الحالية، بما يعادل زراعة نحو نصف الأراضي الحالية بالبلاد.
وتعد هذه الخطوة نقطة الانطلاق الحقيقية، وفرصة ذهبية لتحقيق الاكتفاء الذاتي من معظم المحاصيل الأساسية عبر التوسع في زراعتها لتخفيف عبء الاستيراد عن كاهل الدولة، لاسيما الحبوب ومنها القمح.
وأكد أبوصدام أن هذا التحول من شأنه تحقيق رضاء شعبي كبير، والتعزيز من استقرار أسعار المحاصيل بالسوق المحلية بدلا من حالة التأرجح بسبب اضطرابات سلاسل الإمداد.
وتضع الإستراتيجية الزراعية الجديدة مصر على خارطة الإنتاج عالميا، في ظل حاجة الأسواق للغذاء بشكل كبير، حيث تضيف الدلتا الجديدة بعدا مهما لمنظومة الزراعة، لأنها ستبنى على أسس علمية تحسن من سمعة الصادرات من الحاصلات الزراعية في مختلف المقاصد الخارجية.
وتسببت عشوائية قطاع الزراعة بمصر في إحراج القاهرة أكثر من مرة في مختلف الأسواق الدولية والإقليمية خلال السنوات الماضية، بعد تكرار التحذيرات ضد صادراتها من الحاصلات الزراعية بشكل يكاد يفقدها القدرة على النفاذ إلى مختلف الأسواق الخارجية.
المصدر : العرب اللندنية