أحمد حافظ
أسدل القضاء المصري الستار على المعركة التي استمرت سنوات بين المؤسسة الدينية والشيخ محمد عبدالله عبدالعظيم، والذي أطلقت عليه بعض وسائل الإعلام قبل تسع سنوات لقب “الشيخ ميزو” للسخرية من آرائه الفقهية والتقليل من شأن الأفكار التي يطرحها، والإيحاء بأنه عالم أزهري مهووس بالشهرة.
قضت محكمة النقض بحبس الشيخ ميزو أخيرا عامين بدلا من خمسة بتهمة ازدراء الأديان، واستندت في حكمها إلى أنه تعمد التشكيك في أركان الإسلام، وأنكر عقوبة قطع يد السارق، وفتح الباب للتطاول على الشريعة الإسلامية والتشكيك في حدودها، وطعن في صحيح البخاري وأحاديثه.
ظل ميزو طيلة السنوات التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011 بمصر العالم الأزهري الوحيد الذي يمارس نقد التراث بأسلوب الصدمة بدعوى أنها الوحيدة القادرة على إفاقة المسلمين من الغيبوبة التي يعيشون فيها، ودفع المؤسسات الدينية لليقظة من سباتها العميق والثورة على الأفكار الظلامية.
برر أسلوب الصدمة بأن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى صدمات كهربائية لأنها صارت مثل المريض الذي فقد وعيه ويعيش لحظاته الأخيرة، ولا يمكن عودتها إلى الحياة بكامل عافيتها دون صدمتها، وهذه المجتمعات تتهم الغرب بالكفر، رغم أن هؤلاء الكفار لو أغلقوا الإنترنت لماتت الأمة.
اصطدم بأطراف كثيرة لديها تقارب فكري حول قدسية التراث، ولم يسلم من الأزهر ووزارة الأوقاف والإخوان والسلفيين، وانطلق أنصار كل فريق للنيل منه والمطالبة بمحاكمته إلى درجة أن بعض المحسوبين على المؤسسة الدينية وتيار الإسلام السياسي أفتوا بإباحة قتله، لأنه مرتد وبلغ مرحلة الكفر.
ضد سيطرة رجال الدين
مشروعه يقوم على خمسة محاور هي نبذ الطائفية، التعايش السلمي بين أصحاب العقائد، تكريس الأخوة الإنسانية، تطبيق العدالة الاجتماعية، وأخيرا تنقية التراث الديني مما لحق به من شبهات
ليست هذه هي المرة الأولى التي يُحكم فيها على الشيخ ميزو بالسجن بتهمة ازدراء الأديان، حيث تعرض لنفس العقوبة قبل أربعة أعوام بسبب هجومه على البخاري ووصفه بـ”المسخرة”، لكنه لم يتراجع عن طرح أفكاره بشجاعة وبطريقة أقرب إلى الكوميديا الساخرة، ما استفز خصومه المتشددين.
تبرأت منه مؤسسة الأزهر ولحقت بها وزارة الأوقاف المصرية ورفضت الأخيرة أن يكون ضمن خطباء مساجدها بدعوى أنه يصدر للناس دعاية سلبية عن الدين الإسلامي، وليس لديه صفة وقار العلماء، ويتعمد اقتحام قضايا شائكة واستخدام عبارات متدنية المستوى في التعبير عن وجهة نظره.
عندما سُئل عن سبب رفض تعيينه بوزارة الأوقاف أجاب بأنه يعادي سيطرة رجل الدين على عقول الناس، مضيفاً قوله إن “هذا الكلام مرفوض في المؤسسة الدينية التي لا تقبل أن يكون هناك أي حراك فكري في المجتمع، بحيث يعمّ الجهل والظلامية ولا يجد الناس إلا عالم دين ومفتياً للسير خلفهما في كل شيء”.
تمرد على القيود
يعتقد البعض أن عداء الشيخ ميزو للمؤسسة الدينية يرتبط بالظلم الذي وقع عليه بعد تخرجه في جامعة الأزهر عام 2003، ورفض عمله إماما وخطيبا بأحد المساجد، في حين تم تعيين زملاء أقل منه في المستوى والتحصيل العلمي، ما أصابه بما يوصف بـ”عقدة الاضطهاد”.
رغم انتمائه لأسرة منضبطة بحكم عمل والده في القوات المسلحة سابقا، لكنه تمرد على كل ما يرتبط بالتعليمات ومحاولات توجيهه إلى مسار لا يقبله، فحصل على شهادة عليا في كلية أصول الدين قسم الدعوة الإسلامية، وقرر العمل بشكل مستقل في مجال تحفيظ القرآن ليستفيد الأطفال في حي شبر الخيمة الشعبي في شمال القاهرة من مؤهله الأزهري ولم يتقاض أموالا نظير ذلك.
عانى في بدايات حياته من الإصابة بمرض التهاب الكبد الوبائي، وانتقل للعيش بعيدا عن عائلته، وأقام بحي السيدة زينب في وسط القاهرة، واستأجر منزلا صغيرا بسقف خشبي قبل أن تراوده أحلام الشهرة ليقتص بنفسه مما يعتبره ظلما وقع عليه في الماضي، ويثأر من المؤسسة الدينية وأنصارها.
مشكلة ميزو أنه بدأ حياة الشهرة بخوض معاركه بشكل مندفع في مواجهة خصومه، ما أوقعه في أزمات كثيرة وسقطات كلامية ضاعفت من دائرة أعدائه، وكان يتعمد استخدام هذا الأسلوب باعتبار أن التغيير لن يتحقق سوى بالصدمة.
مشروعه يقوم على خمسة محاور هي نبذ الطائفية، التعايش السلمي بين أصحاب العقائد، تكريس الأخوة الإنسانية، تطبيق العدالة الاجتماعية، وأخيرا تنقية التراث الديني مما لحق به من شبهات وأكاذيب وترويج لسفك دماء غير المسلمين
عرفه المصريون بعد أن رفع حذاءه في وجه الإخوان في ميدان التحرير الشهير خلال ثورة 25 يناير، وبعدها أصبح خطيبا للميدان يتحدث أمام الثوار ليلهب حماسهم ويتلو مطالبهم، وهو من أوائل الأزهريين الذين تصدوا للإسلاميين بجرأة غير معتادة ووصفهم بأعداء الوطن، في ذروة ما كان انتفاضة الشارع ضد نظام حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك، وبمختلف فئاته وتياراته وألوانه السياسية، لكنه صعد على منصة التحرير ليحذر الناس من الإخوان والسلفيين.
شارك بعدها في تأسيس جبهة “أزهريون مع الدولة المدنية” وأصبح المنسق العام لها، وكان ذلك في ذروة خروج الإسلاميين من الجحور بعد رحيل نظام مبارك، فأصبح عدوا للإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية كلها من الذين كانوا يتمسكون بإسلامية الدولة وإقرار دستور بعيد تماما عن فكرة المدنية.
وبات ضيفا دائما على الإعلام بعد تصنيفه كعالم أزهري ليبرالي يكن العداء المطلق للإسلاميين، وبدأت شهرته تأخذ منحى تصاعديّا عقب دخوله في سجالات ومعارك كلامية مع شيوخ وأنصار التيار الإسلامي حول الفتاوى والمواقف السياسية والتراث، وإنكار الكثير من الأحاديث التي تعتبرها الأغلبية ثابتة إلى حد التقديس.
أمام اندفاعه بتهور ضد المتاجرين بالدين أقحم نفسه في صدام محتدم مع الأزهر والأوقاف، حتى اشتبك مع الجميع دون هوادة، مستغلا مهارته وقدرته على المراوغة واطلاعه على كتب التراث، وكثيرا ما كسب معارك كلامية، وأحرج خصومه، فكانت تهمة ازدراء الدين السبيل الوحيد للتخلص منه.
لم يبن الشيخ ميزو أرضية مجتمعية تتقبل آراءه وأطلق قذائفه بوجه الجميع، حتى صار عند الكثير من وسائل الإعلام مادة خصبة للسخرية والتسلية وإلهاء الناس، فشكك في حد السرقة وأباح الرقص الشرقي وأفتى بأن شرب الخمور حلال ونفى تهمة الزنا عن المتزوجين وألصقها فقط بغير المتزوجين. وبرر إباحته للرقص الشرقي بعدم وجود نصوص قرآنية وأحاديث صريحة تحرّمه.
ترهيب وتهكّم
المصريون يعرفون الشيخ ميزو منذ أن رفع حذاءه في وجه الإخوان في ميدان التحرير الشهير خلال ثورة 25 يناير، وهو من أوائل الأزهريين الذين تصدوا للإسلاميين بجرأة ووصفهم بأعداء الوطن. (الصور من فيسبوك)
أزمة المؤسسة الدينية مع أيّ مجدّد يحاول تنقيح التراث بالطعن في مصداقيته أنها لا تردّ بالحجة، ولا تدخل في نقاش طويل الأمد لإثبات صحة موقفها، وتسلك الطريق السهل بمقاضاة الشخص وترهيبه بالحبس بدعوى أنه يحرض على الدين، رغم أن الشيخ ميزو مثلا لم يقترب من صحيح الإسلام وأركانه.
أما هذا الشيخ المتهكّم فقد أظهر كيف أن المؤمنين بالتراث ضعفاء الحجة في مواجهته، وهو الذي كان يستند في أغلب معاركه إلى نصوص موجودة بالفعل ولا يصدقها عقل.
لكنه شعر لوهلة بوجود حالة من القبول والرضا عن معاركه داخل دوائر سياسية، حتى اطمأن على نفسه وضاعف من جرعة الهجوم وفتح جبهات كثيرة من المعارك، غير أنه أخطأ التقدير، حيث أظهرت الأيام أنه كان
جزءا من مشهد قديم لشغل الناس وله فترة صلاحية ثم يزول. تسرب إليه الشعور بأن خروجه للثورة على نظام مبارك، ثم الثورة على نظام الإخوان عام 2013، سوف يجعلانه في
مأمن من الحساب على التغريد خارج النص، والمداومة على صدمة المجتمع، لكنه لم يدرك أن اللعب على وتر استرضاء السلطة طوال الوقت مجازفة غير محسوبة العواقب.
كان يمكن تقبل رؤيته حول التجديد إذا انحصرت في نقد التراث الذي يحتمي به الإخوان والسلفيون لتمرير أفكارهم إلى الناس، لكنه تناسى أن هناك سلطة أخرى يمثل الاقتراب منها جريمة لا تغتفر وهي سلطة الأزهر.
تألف مشروعه من خمسة محاور هي نبذ الطائفية، التعايش السلمي بين أصحاب العقائد، تكريس الأخوة الإنسانية، تطبيق العدالة الاجتماعية بشكل إنساني، بغض النظر عن اللون والجنس والمعتقد الديني، وأخيرا تنقية التراث الديني مما لحق به من شبهات وأكاذيب وترويج لسفك دماء غير المسلمين.
مؤسسة الأزهر تبرأت من الشيخ ميزو، ولحقت بها وزارة الأوقاف المصرية، ورفضت الأخيرة أن يكون ضمن خطباء مساجدها بدعوى أنه لا يملك صفة وقار العلماء، وأنه يتعمد اقتحام قضايا شائكة.
استند في عدم التعويل على المؤسسة الدينية إلى أن علماءها لا يعنيهم سوى الحفاظ على المكانة الاجتماعية والخوف من مواجهة الناس، بأن ما يتم تدريسه من مناهج فقهية وتراثية مليء بالكوارث، وفضلوا بقاء الوضع كما هو عليه خشية زوال الهيبة وتشويه صورة العمامة الأزهرية.
الشيخ ميزو يؤمن بأن كتب التراث نتاج فكر بشري ويحق لأي عالم أن يتصدى لها بالنقد ليتم الأخذ بالمزايا وترك السلبيات، لكن هذه القناعات لا تؤمن بها المؤسسة الدينية التي ترى التراث مقدسا لا يجوز الطعن في صحته، بل إنها تعتبره جزءا من التاريخ الإسلامي الذي لا ينفصل عن الإسلام كديانة سماوية.
شكك في مبادئ الأزهريين وقال إنهم في الماضي قالوا إن بعض الختان فريضة، واليوم يعتبرونه حراما شرعا، وخلال حقبة السبعينات نفوا علاقة الحجاب بالإسلام، وكانت بنات زوجات شيوخ الأزهر غير مـحجبات، ومع الغزو السلفي للمؤسسة الدينية أقروا فريضة الحجاب، واصفا إياهم بالمتقلبين.
في ذروة الضغط على الأزهر لتكفير تنظيم داعش وتمسك شيخه أحمد الطيب بالرفض بدعوى أن الدواعش مؤمنون عصاة، سأله الشيخ ميزو على الهواء “وهل المؤمن يقتل ويسبي النساء
ويقطع الرؤوس ويكفر رجال الجيش والشرطة ويبيح سفك دماءهم؟”، متهما إياه بالسير على هوى السلفيين.
يمكن اختصار الصراع ما بين المؤسسة الدينية والتيارات المتناغمة معها وبين الشيخ ميزو أن الأخير لا يعترف بالخطوط الحمراء عند التحرك في مسار التنوير وتنقيح التراث، لذلك جاءت آراؤه موجعة لخصومه، ووضعتهم في مواقف بالغة الحرج.
محكمة النقض تستند في حكمها بحبس الشيخ ميزو أخيرا عامين بتهمة ازدراء الأديان إلى أنه تعمّد التشكيك في أركان الإسلام، وأنكر عقوبة قطع يد السارق، وفتح الباب للتطاول على الشريعة الإسلامية، وطعن في صحيح البخاري.
ما كان يثير امتعاض المجدد الساخر أن خصومه لا يناقشون أفكاره بل يناقشون شخصه، لا يبحثون في خلفيات ما يطرحه، بل ينبشون وراء تصرفاته وسلوكياته ويشككون في عقليته، حتى أنه ذات مرة
لجأ إلى فكرة مجنونة ليثبت للناس أن أعداءه تستهويهم التفاهات لا القضايا الهامة.
وكتب على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك أنه المهدي المنتظر، فقامت الدنيا عليه وانتفضت المؤسسة الدينية وطالب وزير الأوقاف بحبسه، لكنه خرج بهدوء ليقول “اليوم كشفت عورات أعدائي، وسطحية أفكارهم وخواء عقولهم وضعف حججهم”.
بعدها شرح موقفه بالقول “أئمة التراث أوهمونا بأن المهدي المنتظر سيأتي لإصلاح حال الناس، مع أن القرآن والسنة لم يؤكدا ذلك، وكل الأحاديث المتوارثة مشكوك في صحتها، إلا عند المؤسسة الدينية، فهل تنتظرون مهديا بعينه، أم تعترضون على كوني المهدي المنتظر، أم ترفضون ظهوره في هذا التوقيت؟ الحقيقة أنكم تصدقون أساطير التراث وخرافاته وتوهمون أنفسكم بأنها حقيقة، وهو نفس تفكير الناس في عصور الجاهلية”.
إذا كان خصوم الشيخ ميزو يعتقدون أن عودته إلى السجن مرة ثانية قد تغيّر مواقفه أو تجعله نادما على أفعاله، فإن الشواهد السابقة تدحض ذلك، وهو الذي كان يدرك هذه النهاية، ومع ذلك أراد أن يترك بصمة خلفه، قال عنها ذات يوم “عندما أتعرض للحبس وتطول فترة سجني، سأكون بطلا في معركة تنويرية داخل دولة تكرس كهنوت الدين الذي سيزول لا محالة، وستصل أفكاري مهما حاولوا وأدها، لأن حجب المعلومة في عالم الفضاء المفتوح صار مستحيلا”.
المصدر : العرب اللندنية