تونس – آمنة جبران
يستغل السلفيون في تونس انشغال الحكومة بالمعارك السياسية الدائرة للعودة بقوة إلى البلاد، حيث يستثمر منتسبو هذا التيار الصمت الحكومي لفرض نمطهم الاجتماعي المتشدد مع كل موسم رمضاني بمراقبتهم المفطرين علنا والتحريض ضدهم، أو من خلال مساعيهم الزحف إلى مؤسسات الدولة، خاصة في قطاع التعليم من خلال الترويج للباس الطائفي واستقطاب الطلبة.
وفي الوقت الذي تغرق فيه الحكومة التونسية في أزمة كورونا بالتزامن مع انشغالها بخوض معارك سياسية يعود إلى الواجهة خطر التيار المتشدد الذي يحاول استثمار التوترات السياسية والاجتماعية للعودة بقوة.
وتكفي جولة في أحد الأسواق الشعبية في تونس العاصمة، لمعرفة ذلك. فهناك رجال بلحى كثيفة وملابس شبيهة باللباس الطائفي ينتشرون هنا وهناك. ومحلات لبيع “اللباس الشرعي” للنساء وللفتيات الصغيرات أيضا.
ومع قدوم شهر رمضان من كل سنة تظهر إلى العلن محاولات هذا التيار لفرض نمطه الإسلامي المتشدد على المجتمع، بتحريضه ضد المفطرين في تجاوز لمسألة الحريات، وذلك عبر نشر خطاب التعصب على مواقع التواصل الاجتماعي.
علية العلاني: السلفية في رمضان نوعان سلفية جهادية وسلفية علمية
ويلاحظ حقوقيون أن الشهر الكريم يستغله عناصر هذا التيار لتغذية التعصب الديني بدل نشر قيم التآزر والتسامح. فقد وجدوا في وسائل التواصل الاجتماعي الفضاء الملائم لذلك في ظل استمرار قيود التنقل بسبب حالة الطوارئ الصحية.
ونددت أوساط حقوقية بحملات قنص المفطرين المستمرة والتي تحولت إلى ظاهرة مع كل موسم رمضاني.
وانتقدت الباحثة التونسية آمال قرامي في مقال نشرته صحيفة المغرب المحلية “إلقاء القبض في الأيام القليلة الماضية على مجموعة من الأفارقة لم ينضبط أفرادها للنظام العامّ ولم يراعوا مشاعر المسلمين”.
ولاحظت أنه لا يكاد “يمرّ موسم رمضانيّ دون حدوث انتهاكات للحريّات الفرديّة، إن كان على المستوى الفرديّ أو الجماعيّ أو باسم دولة القانون” حسب تعبيرها.
وأوضح راشد مسعود الحفناوي رئيس جمعية تلاقي التي تراقب مسار الحريات في البلاد في حديثه لـالعرب” أنه “لم تسجيل أيّ حالات عنف في رمضان، ما عدا تدخل أجهزة الأمن في صفاقس بحق مواطنين أجانب في منزلهم واتهامهم بشرب الخمر في نهار رمضان.”
واعتبر الحفناوي أن” إغلاق المقاهي والمطاعم في نهار رمضان من قبل السلطات يعتبر خرقا للدستور.”
وفيما تبدو دولة الحريات في تراجع في تونس يستغل السلفيون انشغال الحكومة بنزاعها على الصلاحيات مع رئاسة الجمهورية للترويج لأفكارهم المتشددة واستقطاب الفئات الشابة والزحف نحو مؤسسات الدولة.
وأشار علية العلاني الخبير في الجماعات الإسلامية لـ”العرب” أن “السلفية في رمضان نوعان سلفية جهادية وسلفية علمية”.
وشرح بالقول “السلفية الجهادية يعتبر أنصارها رمضان شهرا أعظم فهو الشهر الذي وقعت فيع غزوة بدر، ويرون أن مضاعفة العمليات الإرهابية فيه له جزاء مضاعف في الآخرة”. مشيرا إلى وقوع عمليات إرهابية خلال شهر رمضان في سنوات 2014 و2015.
فريد عليبي: السلفية نائمة في الإدارة التونسية بما في ذلك التعليم
أما النوع الثاني من السلفية فهو السلفية العلمية وتنقسم أيضا إلى نوعين: سلفية حركية وسلفية إصلاحية فكرية.
ويتابع العلاني “السلفية الحركية لها نشاط في رمضان من أبرز سماته التشجيع على إغلاق المقاهي والمطاعم في رمضان خلال النهار ويكون تدخلها أحيانا بالحسنى وأخرى بالإكراه”.
كما أنها تتدخل في طريقة لباس الأشخاص وتتدخل كذلك فيما تعتبره مسّا بالشعائر الدينية حسب رؤيتها كالتصدي للتظاهرات الثقافية التي لا تتلاءم مع أفكارها. أما السلفية الإصلاحية الفكرية فهي تيار مسالم يمارس طقوسه بشكل فردي ولا يتدخل في الحريات الفكرية للآخرين، حسب تعبيره.
وفيما خفت صوت هذا التيار في السنوات القليلة الماضية إلا أن ذلك لم يعن اختفاءه وانتصار أصوات العلمانية وأنصار الدولة المدنية، بل إن تلك الأصوات تراجعت وتركت المجال لـ”الإسلاميين المعتدلين” لخوض معاركهم السياسية، في حين كان السلفيون يعملون بصمت ليستغلوا الثغرات والأزمات. ويؤكد فريد عليبي الباحث والمحلل السياسي في حديثه لـ”العرب” أن السلفية نائمة في الإدارة التونسية بما في ذلك التعليم، وهى تعلن عن نفسها بين الفينة والأخرى من خلال سبل مختلفة، مرة بالرصاص والمتفجرات ومرة برموز مثل اللباس”.
وتابع “عندما تقوى التناقضات ضمن السلطة السياسية تستغل السلفية ذلك لتذكّر الجميع بأنها حية ترزق، وهي تختار أشكال التعبير نفسها وفق اللحظة الموضوعية من خلال أعمال ورموز تحيل عليها تحديدا”.
ويؤكد حديث العليبي تحقيقا قامت به إذاعة محلية في الآونة الأخيرة في إحدى المدارس التابعة لمحافظة المهدية، شرق البلاد، أظهر سلوكا متطرفا لبعض المدرّسين حيث يرتدون اللباس الطائفي ويفصلون بين الإناث والذكور ويفرضون على التلميذات أزياء “محتشمة”، وفق شهادات لأولياء بعض التلاميذ.
وأوضح التحقيق أن “مدرستين ابتدائيتين في جهة ‘شربان’ التابعة لمحافظة المهدية تُدرّس مناهج إسلامية موازية للبرنامج الرسمي لوزارة التربية. كما أن المُدرسين محل الجدل ينبهون التلاميذ بأن الصور والتلفاز حرام ويمررون رسائل متطرفة للأطفال، كما يرفضون اعتماد المجسمات العلمية خلال الدروس.
ولا تتوقف ممارسات السلفيين في مدارس المدن الداخلية بل تنتشر في مختلف المحافظات التونسية خاصة في المناطق والأحياء الفقيرة والمهمشة مثل “حي التحرير” “وحي التضامن”.
ونقلت تقارير شهادات لبعض الأولياء الذين يؤكدون تعرض أطفالهم للعنف وخطاب التخويف باسم الدين على يد السلفيين. واعتبروا أن مثل هذه الممارسات والطقوس الغريبة التي يروّجون لها جرم في حق الطفل والتربية والتعليم.
وكشف رئيس فرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمهدية جمال الدين السبع في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية أن “عددا من ممثلي الرابطة زاروا المدرستين ورفعوا تقريرا جاء فيه تأكيد لوجود فصل بين الذكور والإناث من التلاميذ”.
وتضمّن التقرير تعمّد بعض المعلمين التدريس “باللباس الأفغاني” والصلاة داخل القسم وأثناء الدرس مع عدم التقيّد بالمناهج العلمية والتعليمية لوزارة التربية و”السعي لدمغجة عقول التلاميذ عبر أفكار متطرّفة وغريبة عن الثقافة التونسية”.
رياض الصيداوي: ارتداء اللباس الطائفي خروج عن الدولة والمجتمع
وردا على ما تم تداوله بشأن ارتداء المدرسين للباس الطائفي في المدرسة أكد وزير التربية التونسي فتحي السلاوتي أن “اللباس الأفغاني مرفوض تماما داخل المدارس التونسية”، مشيرا إلى أنه “سيتم اتخاذ إجراءات ضد المدرسين المخالفين”.
كما أصدرت الوزارة بيانا دعت فيه إلى تجنب السلوكيات التي من شأنها المساس بمقومات المنظومة التربوية بما في ذلك اللباس غير المألوف، مشيرة إلى أنها “لن تتوانى عن اتخاذ الإجراءات التي يخولها القانون ضد كل من تثبت مخالفته التراتيب القانونية الجاري بها العمل أو توظيف المؤسسة التربوية لأغراض غير التي بعثت من أجلها”.
وحذّرت أوساط حقوقية في تونس بما وصفته من “زحف داعشي على مؤسسات الدولة، فيما تنشغل الحكومة في تصفية الحسابات بعد تورطها في فخ المناورات والتجاذبات بين الأحزاب، وأهملت قضايا الشارع الحقوقية”.
وأدان المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة صمت المسؤولين ووزارة الإشراف أمام خطورة القضيّة التي تؤثر مباشرة على الناشئة والصحة النفسية للأطفال عبر تعريضهم لأشخاص متطرفين يبثون سمومهم في مؤسسة تربوية عمومية ويحولونها إلى محتشد إرهابي.
وأكّد المرصد أن هذه الحادثة الخطيرة تأتي في إطار الانقلاب الأيديولوجي الرجعي المُسلّط على المجتمع التونسي داعيا إلى عزل هؤلاء المعلمين عاجلا من مهامهم، والتحرّي الممنهج والصارم مع من تُوكل إليهم مهام تسمح بالتأثير على المجتمع.
ويؤكد الخبراء والمتابعون أن التيار السلفي هو المستفيد الأول من المناخ السياسي المأزوم، ويتحرك في ظل الصمت الحكومي لإيجاد التعبئة واستقطاب الناشئة والشباب. وبرأي هؤلاء فإن اللباس في حد ذاته رسالة استقطاب بطرق غير مباشرة، بترسيخ صورة اللباس الطائفي لدى الطفل الذي سيعتبره لباس “المسلمين”، فيما سيمتنع عن ارتداء زيه التقليدي الذي يمثل هوية المجتمع التونسي.
ويشير رياض الصيداوي مدير المركز العربي للدراسات السياسية والاجتماعية في حديثه لـ”العرب” إلى أن “اللباس الطائفي ظاهرة جديدة انتشرت في تونس بعد 2011. مثلما انتشر على سبيل المثال في الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988”.
وبرر الصيداوي تعمد السلفيين ارتداء هذه الملابس باعتبار أنهم يريدون أن يختلفوا عن غيرهم حتى في اللباس مخالفة للسائد وهو أيضا نوع من رفض الموجود: المجتمع الدولة النظام رفض الجمالية في الشارع محاولة للتفرد أو الانفراد بهذا اللباس.
وتابع “يريدون القول نحن لسنا مثلكم.. نحن خارجون عن ملتكم”. ويرى أن هذا اللباس هو “خروج عن الدولة والمجتمع باسم حرية التعبير”.
ويلفت إلى أنه في حالة لجأت الحكومة إلى منعهم بشكل بات فإنهم سيلعبون دور الضحية وسيروّجون على أنهم مستهدفون حتى يجدوا مجالا للتعبئة، مستدركا بالقول ” الصمت أيضا يعني أن المدرسة التونسية أصبحت مرتعا للظواهر الشاذة”.
رجاء بن سلامة: ما يثير القلق انتشار الأفكار المتطرفة لدى المربين
ويعتقد الصيداوي أن الحل في إصدار قانون يستهدف اللباس بشكل عام للطلبة والمدرسين، وهي معايير موجودة في جميع مدارس العالم وتطبق على الجميع.
ولا يوجد قانون يحدد لباس المدرس في تونس، حيث تكتفي وزارة التربية بمدوّنة سلوك وأخلاقيات العون (الموظف) العمومي، ولا تحدد صراحة نوعية اللباس.
وفيما سارعت وزارة التربية بتكليف متفقدين إداريين وماليين للتحرّي بخصوص ما تمّ تداوله حول وضعية بعض المؤسسات التربوية خاصة في ما يتعلق باللباس الذي وصفته بغير المألوف لعدد من المدرسين، إلا أن هذه الإجراءات غير كافية بالنسبة إلى المتابعين في ظل إصرار التيار السلفي على التوغل وتمرير رسائلهه المتطرفة واستقطاب الشباب والأطفال.
وتشير رجا بن سلامة الباحثة والأكاديمية تونسية لـ”العرب” إلى أن “الأفكار المتطرفة موجودة في المجتمع. لكن ما يثير القلق هو وجودها في وزارة التربية ولدى المعلمينé
وأبدت توجسها من استغلال هذه الأفكار في التأثير على الأطفال. وعزت انتشار هذه الظاهرة التي تعاني منها سائر دول العالم إلى استفادتها من مناخ الحريات الذي يجد زخما بالبلاد في أعقاب ثورة يناير 2011. وتقترح كحلول للتصدي للتيارات السلفية تطبيق القانون ومراقبة صارمة للمنظومة التعليمية.
ويجد التيار السلفي في المدارس القرآنية الوسيلة للتغلغل في المجتمع. وانتشرت المدارس والجمعيات القرآنية بشكل واسع بعد ثورة يناير مستفيدة من مناخ الحرية، غير أن الحكومة بدأت بحملة تعقب للجمعيات ذات التمويل المشبوه أو المتورطة في نشر التطرف، وأمر القضاء بإغلاق بعضها، بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية الدامية التي تعرضت لها البلاد.
وسبق أن فجرت حادثة ضبط مدرسة قرآنية في تونس في عام 2019 والتي تورطت في الاتجار بالبشر وسوء معاملة الأطفال جدلا واسعا، أمام مخاوف طيف واسع من الشارع التونسي من هذا النمط من التعليم لقلقهم من استدراج الناشئة إلى فخ الإرهاب.
ويؤكد الخبراء أن المدارس القرآنية تهدد نظام التعليم في البلاد بشقيه العمومي والخاص، إذ أنها تلقن التلاميذ مواد غير خاضعة للرقابة في تجاوز علني للمناهج الرسمية لوزارة التعليم، محذرين من التغافل الحكومي عن هذه الظاهرة التي تجد في ضعف الدولة فرصة للتسلل إلى مؤسساتها.
ويحذر عليبي بالقول “كلما قويت التناقضات مارست حضورا أكبر دون نسيان وجود روابط أيديولوجية على الأقل بين بعض من هم في السلطة وبين تلك السلفية”.
العرب اللندنية