انخرط في صفوف الثورة الجزائرية ووضع ذكاءه وقلمه وثقافته وصوته الإذاعي وحنكته في خدمتها
أمين الزاوي كاتب ومفكر
حتى لا نظلم التاريخ الثقافي الجزائري، علينا رفع الستار عن الأسماء المسكوت عنها فيه، وهي أسماء مركزية، فاعلة في السياسة والشعر ومعركة الهوية.
الشاعر والإعلامي والسياسي جون عمروش (1906-1962) في سلة المهملات، مثقف كان من صناع السياسة، وإعلام الثورة الجزائرية، وإبداع النصوص الشعرية البديعة والمحافظة الدؤوبة على الثقافة الأمازيغية. جون عمروش مثقف من طينة الكبار، قلم ورجل نادر الوجود، مكتبة ورقية وإذاعية نادرة.
هو القائل اختصاراً لأزمة الهوية ومعاناة الأنا في مواجهة المستعمِر، “أكتب بالفرنسية وأبكي بالأمازيغية (القبائلية)”.
جمع جون عمروش المثقف ما بين الكاريزما السياسية والذكاء الثقافي والدهاء الدبلوماسي، ولد في قرية “إيغيل علي” بولاية “بجاية” من أسرة مسيحية جزائرية، انخرط في صفوف الثورة الجزائرية، ووضع ذكاءه وقلمه وثقافته وصوته الإذاعي وحنكته في خدمة الثورة من أجل استقلال الجزائر والتخلص من الاستعمار.
عائلياً، جون عمروش ليس غريباً عن الثقافة والفن، فهو من أسرة ثقافة وشعر وفن وذاكرة، فأمه فاطمة آيت منصور عمروش (1882-1967) شاعرة، وروائية، وراوية للشعر الشعبي، والمرويات، والحكايات، والألغاز القبائلية الشفوية، واحدة من رواد الكتابة باللغة الفرنسية، واحدة من مُؤسِّسات الحركة النسوية في الجزائر، في كتابها المتميز “قصة حياتي”(Histoire de ma vie) الذي نشر بعد وفاتها، أي في العام 1968، فصلت الحديث فيه عن واقع المرأة في بلاد القبائل والمعركة التي قامت بها من أجل تحررها من القيود الاجتماعية البالية والانخراط في دورة الاقتصاد والحياة الثقافية والاجتماعية العامة.
وأخته مارغريت طاووس عمروش (1913-1976)، هي الأخرى شاعرة، وروائية، وموسيقية، ومدونة للشعر الكلاسيكي القبائلي، ومناضلة نسوية، وقد نشرت كثيراً من الكتب الشعرية والنثرية التي جمعت فيها كثيراً من النصوص الشفوية الشعبية الأمازيغية من شعر وأمثال وألغاز وسير وحكايات خرافية وأساطير، وتعد مارغريت طاووس عمروش واحدة من عميدات الرواية الجزائرية بالفرنسية، فقد نشرت أولى رواياتها بعنوان “الزنبقة السوداء” (Jacinthe noire)، عام 1947، وقد ظلت طوال حياتها الإبداعية الأدبية والموسيقية مرتبطة بشكل عضوي بالثقافة والتاريخ الأمازيغيين، وبذلك تعد أيضاً واحدة من المناضلات اللواتي أسسن للحركة الثقافية الأمازيغية، وهو ما جعل السلطات الجزائرية تمنعها من إحياء أمسية غنائية قبائلية بعد أن تمت دعوتها للمشاركة في المهرجان الثقافي الأفريقي الذي انعقد عام 1969، وقد رد الطلبة على هذا المنع الذي سببه الأولي هو أنها كانت تغني بالأمازيغية ومحسوبة على المناضلات المدافعات عن اللغة الأمازيغية، التي كانت وقتها لغة محرمة، يمنع الحديث بها، فما بالك بالكتابة بها، ورد الطلبة، بأن أقاموا لها في المدينة الجامعية بالعاصمة حفلاً سرياً، غير مرخص، وكان من الذين حضروا هذا الحفل الفني السياسي الطالب سعيد سعدي الذي أصبح لاحقاً رئيساً لحزب “الأرسيدي” (التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية) وأحد المناضلين المفصليين في معركة المطالبة باسترجاع اللغة الأمازيغية والدفاع عنها وعن الثقافة الأمازيغية بشكل عام.
كان جون عمروش على طريقة أخته مارغريت طاووس، وأمه فاطمة آيت منصور عمروش، مثقفاً حصيلة جَمْعٍ بين الثقافة الأمازيغية العميقة الضاربة في أعماق التاريخ من جهة، والثقافة الفرنسية الإنسانية من جهة أخرى، ولأن اللغة الأمازيغية كانت مغيبة ومنفية من المدرسة، ولأن المثقفين باللغة العربية لم يقوموا بواجبهم في جمع هذه الثقافة الأمازيغية من خلال الحرف العربي، توجساً من التاريخ، فلم تجد مجموعة من الكتاب إلا اللغة الفرنسية ملجأ لحفظ الآثار الأدبية الأمازيغية من الضياع، فاستعانوا بها لحفظ هذا التراث وهذه الذاكرة الجزائرية العريقة، من أمثال بوعلام خلفة، ومولود معمري، ومولود فرعون، وجون عمروش، وأمه طاووس عمروش، ومالك واري، ورابح بلعمري، وتسعديت ياسين، وغيرهم.
كان جون عمروش المثقف الوسيط، ذو الخطاب الشفاف الدبلوماسي والسياسي المطلبي، الذي استطاع إقناع الجنرال شارل ديغول من خلال مجموعة من اللقاءات السرية على الدخول في المفاوضة مع جبهة التحرير الوطني في ما سمي باتفاقية “إيفيان” في مارس (آذار)1962 التي تولّد عنها الاستقلال الوطني للجزائر الجديدة بعد 132 سنة من الاستعمار.
ولأن جون عمروش شخصية مثقفة متميزة، حكيمة وشجاعة وجذابة، فقد كان واحداً من المقربين الذين أعجب بهم مبكراً الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، هذا الأخير الذي كان متميزاً في فلسفة الحكم، مختلفاً عن جميع الرؤساء العرب والأفارقة، فقد كان رئيساً مثقفاً حمل مشروع مجتمع جديد يقوم بالأساس على المساواة ما بين الرجل والمرأة، وأيضاً على العلمانية واحترام الحريات الشخصية والدينية. وكان فخوراً بمفهوم “التونسة”، وهو الذي علق على مقولة الرئيس أحمد بن بله حين صرخ قائلاً، “نحن عرب، نحن عرب”، مضيفاً، “هذا الرئيس لا يعرف تاريخ بلاده العظيم”.
عمل جون عمروش إعلامياً بارزاً بين الجزائر وتونس وباريس فاعلاً ومؤثراً في الأوساط الأوروبية والجزائرية على طريقته الخاصة، كان خطابه الإعلامي متماهياً مع المرحلة التي مرت بها الجزائر من 1960 حتى 1983، يعرف كيف يزاوج ما بين الديبلوماسية السياسية والإعلام الثوري، كان صديقاً ومحاوراً لأهم الوجوه التي صنعت الفكر والفلسفة والأدب في فرنسا وأوروبا من أمثال، فرنسوا مورياك، وأندريه جيد، وغاستون باشلار، وإدغار موران.
حين نتأمل مسار حياة جون عمروش ندرك أن هناك عقدة يحملها النظام الجزائري بالوراثة من أيام الثورة وحتى ما بعد الاستقلال، وهي معاداته للمثقف، والتوجس منه، والعمل على استبعاده فيزيقياً ورمزياً، وقد عانى جون عمروش من ذلك، وربما إبعاد اسمه هو نتيجة مسيحيته أيضاً، وقد عبر الكاتب الكبير محمد ديب عن وضعية جون عمروش المثقف المتميز بالانفتاح والتسامح والشجاعة قائلاً، “إنه التراث المدفون لكنه ليس المنسي”.
نقلا” عن أندبندنت عربية