عندما تضع السينما نفسها في خدمة أيديولوجية الدولة
إبراهيم العريس
منذ ولدت السينما أواخر القرن التاسع عشر كانت علاقتها بالتاريخ وثيقة. وفي لحظات بدا وكأن السينما وجدت أصلاً لكي تعبر عن التاريخ وأحداثه. وحين يذكر المرء التاريخ في مثل هذا المجال لا شك أنه ينحو للكلام عن الأيديولوجيا،حيث في السينما، وبأكثر مما في أي مكان آخر، ارتبطت السينما بالتاريخ بالأيديولوجيا في بوتقة واحدة تشهد على هذا اهتمامات متزامنة بذلك الفن الجديد شغلت بال لينين من ناحية وغوبلز، بالتالي هتلر من ناحية ثانية، إنما دون أن ننسى الخطوات المبكرة (“مولد أمة” لغريفيث) التي خطتها هوليوود في هذا المجال، ولكن على الدرب التي ربما كانت إيطاليا أول من اتبعها، إذ نعرف أن هذا التلاقي حدث في المقام الأول خصوصاً، في إيطاليا، حيث اكتشف باكراً الفعل الأيديولوجي لفن قادر ليس فقط على استقطاب الجمهور العريض، بل كذلك على تعبئته أيديولوجياً أيضاً.
ومن هنا لم يكن غريباً على وطن الاستعراض بامتياز، لنراجع هنا تاريخ عصر النهضة واستعراضية أعماله الفنية، أن يشهد أول اهتمام حقيقي للسلطات الحاكمة باستخدام فن السينما كوسيلة للتعبئة. ولئن كان سيقال لاحقاً إن لينين كان من أوائل الزعماء السياسيين الذين ركزوا على إمكان استخدام فن السينما كقرين أيديولوجي لسياسة التعبئة السياسية، يتبعه في ذلك موسوليني وهتلر وغيرهما، فإن ما يمكن قوله هنا هو أن الإيطاليين كانواهم البادئين. ومن قبل وصول الفاشية التوتاليتارية إلى الحكم. ولعل خير تعبير عن هذا القول فيلم “كابيريا” الذي حقق في عام 1914، بعد أن سبقته سلسلة أفلام تاريخية إيطالية أخرى، لها الهدف نفسه والطموح نفسه، لكنها لم تتمتع بالإمكانات نفسها.
على الطريقة العربية
نعرف أن السينما العربية، وفي مقدمتها المصرية،لم يفتها أن تسلك الطريق نفسها، على الأقل منذ قامت ثورة الضباط الأحرار في مصر لتكتشف عن قدرة هذا الفن العجيب على تجنيد “الجماهير” وتعبئة الطاقات. ولعل النموذج الأول لما يمكن اعتباره “المزج الخلاق” بين السينما والتاريخ والأيديولوجيا يتمثل في أمر قد يبدو للوهلة الأولى بسيطاً: منذ بدء اهتمام الدولة المصرية بالسينما، كان المنطق يفرض مثلاً أن يكون فيلم عن سعد زغلول أول سيرة سينمائية تنتجها الاستديوهات المصرية، لكن التفضيل جرى نحو فيلم عن مصطفى كامل، وهو بدوره زعيم مصري كبير. لماذا؟ لأن سعد زغلول، مؤسس حزب الوفد، كان لا يزال في أذهان الناس وأفئدتهم، أما مصطفى كامل فكان نصف قرن مر على رحيله بالتالي لا يشكل منافساً في وجدان الناس لبطل الثورة الجديدة جمال عبدالناصر، على عكس زغلول. وكان الوقت لا يزال أبكر من أن يتيح إدخال عبدالناصر نفسه في البوتقة التاريخية – الأيديولوجية، ولكن لن يكون ثمة ما هو أسهل من ذلك، شرط أن ننتظر قليلاً. وهكذا كان حتى وإن كانت الطريق مواربة كما سنرى!
إسقاط الماضي على الحاضر
في العادة، حين يجري الكلام على سينما يوسف شاهين، لا يحتسب فيلمه “الناصر صلاح الدين” بين أفضل أفلامه، حتى وإن كان يعترف له بمكانته التاريخية، وبالفعل السياسي والأيديولوجي العميق الذي مارسه حين تصويره وعرضه، بالنسبة إلى هيبة النظام الناصري في مصر. والمعروف أن مجرد الربط في اسم الفيلم بين جمال عبدالناصر وصلاح الدين الأيوبي، حتى ولو لم يكن ذلك الربط واضحاً كل الوضوح، كان له فعل السحر، على الجماهير المصرية والعربية في فترة كان فيها النظام المصري يخوض العديد من المعارك التي كان يعتبر أنها فرضت عليه من الخارج: معركة ما بعد انفصال سوريا وتحطم حلم الوحدة العربية، ومعركة اليمن ضد الإماميين هناك، وبخاصة المعركة الداخلية في سبيل تحقيق الحلم الاشتراكي.
يقظة الفيلم بعد غياب
إذاً، لئن كانت العادة قد جرت على اعتبار”الناصر صلاح الدين”(1963)، فيلماً ذا هدف ورسالة سياسيين، مما يقلل بالتالي من قيمته الإبداعية، فإن استفتاءً مهماً جرى في مصر عند نهايات القرن العشرين، لاختيار أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية، أسفر، بالنسبة إلى هذا الفيلم، عن مفاجأة وضعته في المرتبة الحادية عشرة، وجعلته يحتل المرتبة الثالثة من حيث أهميته بين أفلام يوسف شاهين نفسه، بعد “الأرض” (المرتبة الثانية في الترتيب العام لأفضل مئة فيلم)، و”باب الحديد” (المرتبة الرابعة).
وكان هذا الاختيار جديداً، أعاد الاعتبار لفيلم كان لا يزال يثير الكثير من السجالات منذ عرضه الأول يوم الخامس والعشرين من فبراير (شباط) 1964 في صالات “قصر النيل” و”راديو” (القاهرة) و”راديو” (الإسكندرية).
ويحمل “الناصر صالح الدين” بين صانعيه، أسماء نخبة من كبار كتاب وفناني مصر، فإلى جانب يوسف شاهين، هناك يوسف السباعي كاتب القصة، ونجيب محفوظ، وعزالدين ذو الفقار كاتباالسيناريو إلى جانب عبدالرحمن الشرقاوي. أما التمثيل فقام به أحمد مظهر الذي يقال إنه كان من الضباط الأحرار (صلاح الدين)، ونادية لطفي وصلاح ذو الفقار وليلى فوزي ومحمود المليجي وحمدي غيث، وغيرهم. وأما الإنتاج فكان من نصيب اللبنانية، المقيمة في مصر، آسيا داغر، التي أنتجته لحساب المؤسسة المصرية العامة للسينما. ولا بد من أن نشير هنا إلى أن عزالدين ذو الفقار كان هو الذي سيخرج الفيلم، لكنه أبدل في اللحظات الأخيرة بيوسف شاهين بعد أن وقع مريضاً.
أفكار جديدة لحكاية قديمة
لقد تمكن يوسف شاهين، فيما وراء الدعاية الناصرية المباشرة والفعالة، من أن يحقق، على أي حال، فيلماً تاريخياً جيداً، وأن يفلت في أحيان كثيرة من فخ “الأبيض والأسود” حتى وإن كان فيلمه يندد بالغزو الصليبي دون لف أو دوران للأراضي العربية – الإسلامية.
فالفيلم من خلال تركيزه، في العديد من المرات، على فكرة “الدين لله والوطن للـجميع”، ومن خلال تقديمه صورة غير كاريكاتيرية لريتشارد قلب الأسد، يركز كذلك على المواقف الإيجابية التي وقفها مسيحيو المشرق العربي إلى جانب المسلمين وضد الصليبيين، وذلك عبر شخصية عيسى الذي يساعد صلاح الدين على الانتصار على الفرنجة.
ولئن كان الفيلم ينتهي على انتصار صلاح الدين وعلى توقيع معاهدة السلام مع ريتشارد قلب الأسد، فإنه في الوقت نفسه يركز على أن تكون للقدس وضعية المدينة المفتوحة التي يتمكن أبناء كافة الأديان السماوية من الحج إليها كما يشاؤون. تدور قصة الفيلم إذاً، حول الحملة الصليبية الثالثة، حين يأتي الصليبيون الفرنجة بقيادة ريتشارد قلب الأسد الإنجليزي وفيليب الفرنسي لغزو الأراضي العربية – الإسلامية، للاستيلاء على مدينة القدس بحجة “حماية مدينة السيد المسيح من المسلمين”، ولكن في الفيلم سرعان ما يقوم الصراع ومناورات الكواليس بين قادة الصليبيين، وينصرف بعضهم لتدبير المؤامرات ضد البعض الآخر. وتتكاثر الخيانات، لا سيما خيانة كونراد، ثم خيانة القائد آرثر الذي يدبر مؤامرة لاغتيال ملكه ريتشارد يتهم فيها صلاح الدين وخلال ذلك، كما تقول لنا قصة الفيلم الملخصة “تظهر الأخلاق العربية الكريمة لدى القائد صلاح الدين عندما يعالج عدوه من طعنة مسمومة. وفي وسط كل تلك المعارك تقوم قصة حب بين لويزا الصليبية والقائد العربي المسيحي عيسى العوام، وتنتهي بزواجهما، فيما يعود الصليبيون من حيث جاؤوا”.
صلاح الدين قومي عربي
إذاً، من حول هذه الحبكة التي ستبدو لنا اليوم تبسيطية، وتنسى أن صلاح الدين كان كردياً، لا عربياً، وأن القومية العربية التي ذكرت في الفيلم بمناسبة ودون مناسبة، لم يكن لها وجود في ذلك الحين، بنى يوسف شاهين الفيلم الذي جدد يومها في السينما التاريخية العربية، ونقل عبر شاشة كبيرة ملونة، وطبعاً بدءاً من دلالة عنوانه الذي يضفي على صلاح الدين صفة “الناصر” تسبق اسمه حتى بما يعنيه ذلك بكل وضوح، جزءاً من التاريخ الإسلامي كان من السهل جداً جعله ينسرد ليخدم الحاضر العربي، حيث لم يفت أي من المتفرجين أن يرى، عبر شخصية أحمد مظهر (صلاح الدين) الشفافة، قامة عبدالناصر، وهو يؤمم قناة السويس ويصد هجوم الإنجليز والفرنسيين على القناة، مستخدمين الإسرائيليين كممهدين لهم في ذلك، ويفشل كافة المؤامرات التي قامت من حوله، ثم يعزز الوحدة الوطنية، راسماً الخطوط لدولة علمانية ترتبط بالتراث العربي من دون أن يأسرها كل التراث، ولعل هذه العناصر بالذات هي التي أيقظت الفيلم من سباته العميق في الاستفتاء القاهري الأخير.
نقلا” عن أندبندنت عربية