الثنائي “غريب” و”مها” يعيشان تناقضات الواقع ولا ينقذهما الحب
سلمان زين الدين
يشكل العنوان في الرواية التاسعة للكاتب الفلسطيني المجري أنور حامد اسماً على مسمى، فعنوان “غريب” الذي تحمله الرواية (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ومكتبة كل شيء) هو خير تعبير عن المتن الروائي. فهي ترصد غربة البطل “غريب”، الذي يطلق الكاتب اسمه على الرواية، في وطنه، في مستوياتها العديدة؛ الاجتماعية والثقافية والسياسية. ولعل الغربة بين الأهل، وفي الوطن بالذات، هي الأقسى على الإطلاق لأنها تصبح اغتراباً عن الذات وانقطاعاً عن الواقع، الأمر الذي يعيشه بطل الرواية.
تدور أحداث الرواية في الضفة الغربية، خلال النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي، وتتحرك بين عنتبا وطولكرم ونابلس ورام الله وبيرزيت. ولكل من هذه الأماكن قسطه من الأحداث، وحظه من حركة الشخصية المحورية في الرواية. ولكل منها وظيفته الروائية المختلفة عن الآخر؛ ففي حين تقوم عنتبا بوظيفة الحاضنة الأولى للشخصية حيث تولد وتنشأ، وتقوم طولكرم بالوظيفة الأمنية، حيث تستدعي مرات إلى مركز الاستخبارات الإسرائيلية، وتقوم نابلس ورام الله بالوظيفة السياحية الترفيهية، حيث يتسكع غريب فيهما مع حبيبته في محاولة للتعرف إلى المدينتين. تقوم بيرزيت بالوظيفة التعليمية والعاطفية، حيث يتابع دورة اللغة الإنجليزية، ويتعرف إلى مها، وينخرط معها في علاقة حب. وهكذا، تتعدد الوظيفة الروائية للفضاء المكاني بتعدد الأماكن. وينسحب التعدد على وظيفة الشخصية الروائية المتعددة، بدورها، بتعدد شخوص الرواية التي نجد بينها الأب، والأخت، والأم، والصديق، والحبيبة، والمسؤول الحزبي، وضابط الاستخبارات، وغيرهم. ولكل من هؤلاء وظيفته في الرواية المختلفة عن الآخر. والوظائف المكانية والشخصية جميعها تتمظهر في إطار اصطدام بين الفرد والواقع، تكون له تردداته على غير صعيد.
تمظهرات الواقع
الواقع في الرواية هو الواقع الفلسطيني في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي. وهو واقع متعدد، اجتماعي وسياسي وأمني. غير أنه، على تعدده، يتحد في محاولة فرض أحكامه على الأفراد، وترويضهم بما يتناسب مع هذه الأحكام، حتى إذا ما حاولوا التمرد على أحكامه، يكون عليهم أن يدفعوا الأثمان الباهظة، ما ينطبق على بطل الرواية وبعض الشخوص الأخرى فيها. على أن تمظهرات هذا الواقع تتنوع بتنوع مستوياته واختلافها.
يتمظهر الواقع، على المستوى الاجتماعي، بالتدين، والمحافظة، والسلطة الأبوية، والعقل الذكوري، وتقديس العادات والتقاليد. ويتمظهر، على المستوى السياسي، بالتحزب، والروح القطيعية، والأساليب التنظيمية الملتوية لاستقطاب المناصرين، والانخراط في الأنشطة السياسية المختلفة، والتشكيك في وطنية المتقاعسين عن الانخراط فيها، وتخوين الآخر لمجرد الشبهة. ويتمظهر، على المستوى الأمني، في القمع الممارس من أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، وفي آليات الترهيب والترغيب التي تستخدمها لتحطيم المعارضين لها أو توظيف المتعاونين معها. وغني عن التعبير أن مثل هذه التمظهرات، على أنواعها، كفيلة بسحق أي نزوع فردي للتمرد على الواقع ووقائعه القاسية، ما ينطبق على بطل الرواية وبعض المحيطين به.
النزوع الفردي
يتمثل النزوع الفردي للتمرد على الواقع القائم في الثنائي غريب ومها، اللذين تشكل العلاقة بينهما العمود الفقري للرواية. فغريب اسم على اسم وعنوان على متن. وإذا كان “الغريب” في اللغة هو الغريب عن الوطن ومن لا أهل له، فإن ما يتردى فيه بطل الرواية من الغربة وعدم التكيف مع الواقع والإحساس بعدم الانتماء يشكل ترجمة روائية للمعنى اللغوي للكلمة. وفي الوقائع، يعيد غريب النظر في تدينه، ويخضع مسلماته وموروثاته للمساءلة، ويضعها على طاولة البحث، في ضوء القراءات التي يقوم بها، في المرحلة الثانوية من دراسته. ويتحول بنتيجتها من متدين يحف به الأصدقاء إلى لا متدين ينفضون عنه. ويكون من النتائج الأولى لتحوله، شروده في الصف، غرقه في التفكير، رغبته في العزوف عن متابعة الدراسة الجامعية بعد التخرج لشكه في جدواها، ما يثير قلق معلميه وأهله.
آليات المواجهة
في مواجهة تمظهرات الواقع الضاغطة على الأفراد، وفي ضوء التحولات التي تطرأ على شخصيته، يعبر غريب عن عدم التكيف والتمرد بطريقتين اثنتين: سلبية وإيجابية. أما السلبية فتتمظهر في الشرود المستمر، والوحدة، والعزلة، والخوف من الأب، والرضوخ للمجتمع الأبوي، وعدم الرغبة في الالتحاق بالجامعة، ورفض الانخراط في أي عمل تنظيمي، والابتعاد عن تعاطي السياسة. وأما الإيجابية فتتمظهر في دراسة اللغة الإنجليزية في مستوياتها الأعلى؛ خوض تجربته الأولى مع الجنس الآخر من خلال علاقته بمها التي يجد لديها الانتماء والحرية والأمان، وانقطاعه عن حبيبته كي لا يضعها في مواجهة التنظيم الذي تنتمي إليه وإيثاره راحة ضميره على تحميلها تبعات دعمها له، مناصرة أخته رنا في رفضها الزواج بالإكراه، والتصدي للأب ومحاولته فرض العريس على ابنته، قراره الالتحاق بالجامعة بعد نيل الشهادة التوجيهية، مواجهته سلطة الاستخبارات الإسرائيلية ورفضه الابتزاز الذي يمارسه عليه تنظيم فلسطيني لضمه إلى صفوفه. وإذا كانت بعض هذه التمظهرات تعكس النزوع المثالي لدى الشخصية، فإن هذا النزوع يبلغ ذروته في واقعة تمنع غريب عن رفع العلم الفلسطيني، في ذكرى انطلاقة الثورة، رفضاً منه لأسلوب الأمر والنهي، الأمر الذي يحرج حبيبته مها، ويؤدي، معطوفاً على انقطاعه عنها، إلى الافتراق بينهما. ومن سخرية القدر أن تتحول هذه الواقعة إلى موضوع تحقيق من ضابط الاستخبارات الإسرائيلية في طولكرم، بعد عودته إلى قريته، فيقوم بزجه في “زنزانة انفرادية، صغيرة، داخل زنزانته الانفرادية الكبيرة” (ص 276)، ما يعني أن الزنزانة المادية، على بشاعتها، أصغر من زنزانة الغربة التي يحملها داخله. وهكذا، يكون الواقع بأنواعه وتمظهراته أقوى من الفرد ومحاولاته الخروج عليه والتمرد على أحكامه.
تحرر فكري وسلوكي
في المقابل، إذا كانت شخصية غريب يغلب فيها التحرر الفكري على السلوكي، فإن مها تعكس في شخصيتها درجة متقدمة من التحرر السلوكي. ولعل إقامتها في شقة مستقلة في بيرزيت بعيداً من أسرتها المقيمة في الكويت، واكتفاءها المادي، أسهما في تعزيز استقلاليتها وسلوكها التحرري. وهو ما نجد ترجمته في مجموعة من السلوكيات التي تعكس قوة شخصيتها، وثقتها بالنفس، وجرأتها، وقدرتها على المبادرة واتخاذ القرار. في هذا السياق، تنخرط مها في أحد التنظيمات الفلسطينية. لا تقبل أن يملى عليها ما لا تقتنع به. ترفض الأساليب الملتوية لاستقطاب الأعضاء. تبدي الاهتمام بغريب منذ لقائهما الأول في الجامعة، فتبادر إلى الكلام معه، ودعوته إلى الغداء، وتعريفه إلى البناء الجامعي، واصطحابه إلى صفها. تدعوه إلى بيتها، وتعرفه إلى أصدقائها، وتعترف له بحبها، وينخرطان معاً في علاقة حميمة. تعرفه إلى بعض المدن ومرافقها السياحية ويتناولان الطعام في غير مرفق. تقنعه بالالتحاق بالجامعة بعد التخرج الثانوي، وتشد أزره في مواجهة السلطات الأبوية والحزبية والأمنية، حتى إذا ما انقطع عنها كي لا يسبب لها المتاعب مع التنظيم، وأتى من الأفعال بما يحرجها، يكون افتراق بينهما. وبذلك، يحول الواقع ووقائعه الطارئة، مرة جديدة، دون تحقيق الفرد كل ما يتطلع إليه، على الرغم مما يتمتع به الفرد، في حالة مها، من قوة وتحرر فكري وسلوكي. وينسحب التحرر، بدرجة أو بأخرى، على صديقتي مها ليلى ولميس.
إلى ذلك، وعلى الرغم مما تتميز به الرواية من سلاسة في اللغة، وانسياب في الحركة، وطلاوة في السرد، ورشاقة في الحوار، وبساطة في البنية، فإنها لم تخلُ من هنات هيّنات تتعلق ببناء الشخوص الروائية. في هذا الإطار، نشير، أولاً، إلى عدم التناسب بين العمر الزمني للشخصية والسلوكيات المنسوبة إليها. فقيام غريب، ابن السابعة عشرة، بإجراء مراجعة نقدية لأفكاره، ووضع مسلماته على طاولة المساءلة، وتخليه عن معتقداته وموروثه الفكري، ما يترتب عليه تحولات جذرية في حياته، لا يتناسب مع اهتمامات مراهق لا يزال يتلمس طريقه في الحياة. ونشير، ثانياً، إلى الازدواجية الواضحة بين المستوى الفكري للشخصية والتصرف الصادر عنها، فكيف يستقيم انطواء غريب على نفسه وشروده وعزلته وخوفه من مواجهة الأب مع قيامه بمراجعة فكرية يتوصل بنتيجتها إلى قناعات جديدة؟ على أن الازدواجية تتخذ منحى سلوكياً في حالة الأب الذي يصر على احتفاظ ابنته سلمى براتبها من التعليم، بعد زواجها، حرصاً على استقلاليتها الاقتصادية، ويحاول، في الوقت نفسه، أن يفرض على ابنته الأخرى رنا شريك الحياة. ونشير، ثالثاً، إلى حرق المراحل في بناء بعض الشخوص الروائية، فهل يعقل أن تقوم مها، منذ اللقاء الأول، بالاهتمام بغريب ودعوته إلى الغداء وتعريفه إلى الجامعة واصطحابه إلى الصف؟ وأن ينخرطا في اللقاء الثاني في بداية علاقة جسدية؟ ومع ذلك، تظل “غريب” رواية جميلة تؤنس غربة القارئ.
نقلا” عن أندبندنت عربية