كريتر نت – العرب
المصالحة الخليجية لم تنجح في إذابة الجليد بسبب الحسابات الخاصة لكل دولة، لكن الضغوط الخارجية، وخاصة التحديات التي فرضتها إدارة جو بايدن ورغبتها في الانفتاح على إيران دون قراءة حساب للمصالح الخليجية وغموض أفق الحرب في اليمن، كلّها عناصر باتت تضغط على الخليجيين من أجل التهدئة الداخلية لتنسيق المواقف.
وعكست زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى السعودية للمرة الأولى بعد قمة المصالحة وتكرار الزيارة هذا الأسبوع، خطوة إضافية في مساعي الدول الخليجية لإعادة تفعيل مجلس التعاون الخليجي في ظل تحديات إقليمية تفرض على المجلس الذي يطفئ شمعته الأربعين، أن يكون أكثر تماسكا وتحملا لتنوع المواقف داخله.
ويقول مراقبون إن التحديات الخارجية المختلفة قد تقود إلى تسريع تقارب المواقف في الخليج والتخلي ولو مؤقتا عن الخلافات الثنائية.
واستحوذت موجة من النشاط الدبلوماسي على انتباه مراقبي الخليج في الأسابيع الأخيرة، حيث تعمل الدول الخليجية على تخطي مرحلة المقاطعة التي استمرت لثلاث سنوات وتلطيف الأجواء بما يعكس تفاعلا مع تطور المناخ الدولي في ظل الانتقال من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إلى إدارة جو بايدن.
وفي حين أن بعض أسباب هذا التصالح بين الدول الخليجية يسبق تنصيب بايدن، فإن التغيير في اللهجة والسعي إلى القفز على الخلافات بالرغم من استمرار بعض أسبابها يشيران إلى عدم اليقين بشأن مواقف الإدارة الأميركية الجديدة التي بدأت خطواتها في الشرق الأوسط بالضغط على الخليجيين والسعي للتقارب مع إيران في استعادة لمرحلة الرئيس الديمقراطي باراك أوباما التي قادت إلى توتر في العلاقة بين واشنطن وأغلب العواصم الخليجية.
ووسط التركيز على التصريحات الأخيرة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، التي تمد غصن الزيتون لإيران والمتمردين الحوثيين في اليمن، والتقارير عن اجتماعات عُقدت بين المسؤولين السعوديين والإيرانيين في بغداد، يحتفل مجلس التعاون الخليجي بهدوء بذكرى انعقاده الأربعين في 25 مايو الجاري.
وتأسس مجلس التعاون الخليجي في مايو 1981 إلى حد كبير كاستجابة للصدمات الإقليمية المزدوجة للثورة الإيرانية في عام 1979 واندلاع الحرب الإيرانية العراقية في عام 1980. وكانت المقترحات الخاصة بإنشاء منظمة إقليمية، تتضمن أيضا إيران والعراق، موجودة منذ منتصف السبعينات، ولكن في نهاية المطاف، اجتمعت دول الخليج الست في غضون أشهر كآلية دفاعية في مواجهة خطاب تصدير الثورة الذي كان يرفعه الخميني، ويضع هذه الدولة كخطوة لاحقة في خططه قبل أن تصدمه الحرب على العراق وتعيده إلى الرشد.
الدول الخليجية تعمل على تخطي مرحلة المقاطعة وتلطيف الأجواء بما يعكس تفاعلا مع تطور المناخ الدولي في ظل الانتقال من إدارة ترامب إلى إدارة بايدن
وخلال معظم تاريخها، عملت دول مجلس التعاون الخليجي كمجموعة مرنة من دول متشابهة في التفكير والمصالح. ووافقت بشكل نسبي على الاختلاف حول القضايا التي تمس السيادة الوطنية، بما في ذلك قضايا السياسة الخارجية والدفاعية والأمنية، وخاصة في التقارب مع إيران، وهو موضوع الخلاف الرئيسي.
لكن هذا التماسك سرعان ما وصل إلى نقطة الانهيار بسبب الاستجابات السياسية المتباينة للربيع العربي، إذا انقسمت المجموعة إلى خطين واحد ضد “الثورات”، ويضمّ الأغلبية، والآخر مع سيطرة الإسلاميين على تلك الثورات. وظهرت قطر كلاعب رئيسي في دعم صعود هؤلاء الإسلاميين وسعت إلى استثمار هذا الدعم في إظهار نفسها طرفا إقليميا مؤثرا وعرضت التعاون في ذلك مع إدارة أوباما قبل أن يسقط هذا الحلم بسقوط حكم الإسلاميين في مصر في صيف 2013.
وأدى صعود جيل جديد من القادة إلى السلطة، مثل الشيخ تميم في قطر وكذلك ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في الرياض والشيخ محمد بن زايد في أبوظبي، إلى تقوية النزعة الوطنية والتركيز على العلاقات الثنائية لكل دولة من خارج التكتل الخليج، ما زاد من صعوبة حل الخلافات، خاصة مع زيادة طموح البعض ورفع سقف آماله لتبدو أكبر من مجلس التعاون نفسها مثلما حصل مع الشيخ تميم الذي أعطى لتحالفه مع الإسلاميين وعلاقاته مع تركيا وإيران أولوية قصوى ما قاد إلى توتر حادّ خاصة مع السعودية والإمارات.
وصمد مجلس التعاون أمام التوترات الداخلية التي قادت كلا من السعودية والإمارات والبحرين إلى سحب سفرائها من الدوحة لمدة تسعة أشهر في 2014، ومرة أخرى اعتبارا من يونيو 2017 عندما سعت الدول الثلاث نفسها بالإضافة إلى مصر إلى مقاطعة قطر سياسيا واقتصاديا بسبب دعمها للإسلاميين وشن حملات إعلامية وسياسية تستهدف خصومها.
واستمرت المقاطعة المفروضة على قطر 43 شهرا بالضبط حتى تم تبريد الخلافات في قمة المصالحة في موقع التراث السعودي في العلا في 5 يناير 2021، قبل خمسة عشر يوما من مغادرة ترامب منصبه.
ورغم أن القمة أسست لتهدئة بين الخصوم بضمانات من قطر لدى السعودية، إلا أن الإعلام القطري سرعان ما عاد إلى حملاته على البحرين والإمارات، والسعودية نفسها، في مسعى كان الهدف منه إظهار أن المصالحة لا تمنع قطر من استمرار حملاتها. كما سعت إلى استهداف البحرين بصفة أكثر مقابل التهدئة مع السعودية والتقارب منها، بهدف تفكيك التحالف القديم ضدها خاصة مع انشغال السعودية بملفات خارجية أخرى منها ضغوط إدارة بايدن، وترتيبات حرب اليمن، والتصعيد الإيراني.
ولا تزال تفاصيل اتفاقية “المصالحة” الخليجية سرّية، ولا يعرف إلى الآن ما هي الالتزامات التي قطعتها قطر على نفسها، تماما كما لم يتم الإعلان عن اتفاق الرياض الذي أنهى تكرار الخلاف في عام 2014 حتى تم تسريب محتوياته إلى وسائل الإعلام في عام 2017.
ومن الانتقادات الموجهة لاتفاق الرياض بعد أن أصبح معلنا، أن بنوده كانت عامة ولا تحتوي على تدابير محددة ملزمة لجميع الأطراف إلى جانب تدابير يمكن التحقق منها لمراقبة الامتثال وضمانه.
وهناك دلائل على تعلم الدروس من عام 2014 ومن الإخفاقات التي نتج عنها أن اتفاق الرياض لم يمنع أزمة 2017 فحسب، بل أصبح أيضا موضع نزاع حيث اتهم الطرفان الآخر بخرقه. وهناك وعي أكبر هذه المرة بأن المصالحة مضمونة من خلال عملية المشاركة بدلا من عقد اتفاق لمرة واحدة.
واستضافت الكويت اجتماعات متابعة بين وفود مصرية قطرية وإماراتية قطرية.
ويعتقد كريستيان كوتس أولريشسن، زميل الشرق الأوسط في معهد بيكر للسياسة العامة بجامعة رايس، أن عقد اجتماعات المتابعة في الكويت يظهر أن سمعتها كوسيط إقليمي كانت ناجحة حتى بعد وفاة الأمير صباح الأحمد الصباح، الذي نجحت دبلوماسيته المرنة وعلاقاته الجديدة بالقادة الخليجيين في منع تصعيد الخلاف.
كريستيان كوتس: التضامن هو طريق الخليجيين للرد على الشكوك تجاه واشنطن
ويشير أولريشسن صاحب كتاب “قطر وأزمة الخليج”، إلى أن تولي الكويتي نايف الحجرف أمانة مجلس التعاون الخليجي منذ فبراير 2020، يمكن أن يساعد وبشكل أفضل في عمل المجلس، كونه ينتمي إلى بلد محايد قياسا بمرحلة سلفه الأمين العام السابق البحريني عبداللطيف الزياني الذي كان يمثل بلدا طرفا في النزاع.
وظهرت دلائل على وجود موقف خليجي أكثر توافقية في أواخر فبراير من خلال الردود على نشر ملخص نتائج الاستخبارات الأميركية في مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول في أكتوبر 2018.
وأصدرت دول مجلس التعاون ومن بينها قطر بيانات دعم للقيادة السعودية وأكدت أن استقرار المملكة بالنسبة إليها عنصر لا يتجزأ من أمن الخليج.
ويقول أولريشسن إن نهج التهدئة والتضامن بالحد الأدنى “هو أحد الأمثلة على كيفية استجابة قادة الخليج للشكوك الاستراتيجية التي مرت عبر ثلاث إدارات رئاسية أميركية متتالية”.
وترك أوباما وترامب، كل منهما بطرق مختلفة، للشركاء الخليجيين شعورا واضحا بأن واشنطن قد تخلت عنهم، بعد أن استبعد أوباما دول مجلس التعاون من مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة، والتي وضعت التفاوض مع طهران كأولوية لها، فيما فشل ترامب في الرد على الهجمات المرتبطة بإيران.
وبالمقابل، أظهرت مواقف بايدن إلى الآن أن إدارته تنوي التركيز بشكل أقل على الشرق الأوسط وأن أولوياتها الإقليمية هي وقف حرب اليمن بقطع النظر عن الطريقة التي ستتم بها، وهل تحفظ الأمن القومي للحليف السعودي أم تزيد من ترسيخ نفوذ خصمه الإيراني.
وتاريخيا، كانت مواقف دول الخليج أكثر اتحادا في مواجهة التهديد الخارجي المشترك، وقد يكون عدم اليقين بشأن نوايا الولايات المتحدة والقضايا الإقليمية الأوسع، بما في ذلك إيران، هو الدافع الذي كان مفقودا في فترة ما بعد الربيع العربي، عندما كانت الدول الخليجية تنظر إلى بعضها البعض على أنها تهديدات.
ومن خلال النظر بتفاؤل إلى دول مجلس التعاون الخليجي، يمكن أن تتحرك المنظمة لملء الفراغ، ربما من خلال تنسيق وتقديم موقف خليجي عربي موحد بشأن الاتفاق النووي الإيراني ولمَ لا الحصول على مقعد على طاولة أي مفاوضات متابعة محتملة تشمل إيران ودول المنطقة.
ويخلص أولريشسن إلى أن ما سيحدث خلال الأشهر القليلة المقبلة هو الذي سيشكل العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والسياسة في الخليج على نطاق أوسع.