كتب : د.احمد عبد اللاه
يهيمن أفق أيار مجدداً ليحمل الضالع على مراجعة الزمن منذ عام ٢٠١٥م، حين دخلت عليها سنوات عجاف.. كانت الأسوأ في كل تاريخها على الإطلاق دون أن تصرخ أو تمد يدها إلى قدور الغير مقابل أي ثمن يمس مواقفها، حتى اصبحت الحياة وكأنها مجرد سلعة من الكماليات، مع انتشار المجاعة والأمراض الغريبة وانعدام الأمن ووفرة الظلام.. واستثمرت فيها كل الأطراف لخلق الأضداد وزرع أدوات الفوضى وتجريدها من كل شيء عدا الهواء الربّاني.
وبالطبع لم تعش الضالع وحدها حالة البؤس بل عاشته كل المناطق المحررة، لكن الضالع من موقعها تحملت ما هو أكثر خارج عن عيون الإعلام واجتهاد النخب. فقد اشتغلت أطراف على تقويض نسيجها الصعب وتمنى آخرون لو أن دماءها تُحقن بمستحضرات “خيميائية” تقاوم فطرتها وطبائعها.. لصناعة جيل من “المعدمين إلى ربّهم” فاقد القدرة على الفعل والحضور. وهو أمر متمم لكل استثمارات الأيادي السوداء في حملات الإرهاب الإعلامي ومحاولة شيطنة الأحياء والأموات من أهلها، وعزلها عن محيطها الجيوسياسي وإنكار تاريخها الأميري الطويل المتجذر في عمق الأزمنة المقروءة واللامقروءة، وجغرافيتها ومساراتها، وتحويلها إلى شماعة وطنية تتحمل كل ذنوب الآخرين.
وحين تبرر الغايةُ الوسيلة تصبح كل الأسلحة مباحة في أيدي أولئك الذين يديرون معاركهم السياسية من خلال قواميس التسفيه والتلفيق.
اليوم هناك هجوم واسع وغير مسبوق من قبل الحوثيين على المديريات الواقعة شمال الضالع وغربها بعد أن تركها “الآخرون”، والهدف ليس مريس وقعطبة وغيرها… (وهي مناطق عزيزة على قلوب أهل الضالع) وإنما الضالع الجنوبية، حائط الصد المتقدم، التي دفعت عبر التاريخ الإمامي والجمهوري وكذلك الوحدوي أثمان الجغرافيا من دمها وترابها وبيوتها وأشجارها، وهي لو تعلمون أثمان باهظة ومُرّة. كل شبر فيها كان ومايزال يقاوم.. وتلك بالتأكيد ليست وظيفة بل قدر شاق ومخيف.
وبصورة موازية للحرب الواسعة والحشد الحوثي الهائل على تخوم الضالع ما تزال القيعان تزدحم بمطابخ إعلامية توجه العقول المرتبكة في سياق تكاملي.. فالبعض لا يتردد في أن يتمنى للضالع ليس فقط تصفيد رياحها أو تقطيع شمسها إلى “مناور” لا تصلح إلّا لإضاءة الكهوف المائلة على منحدرات الهاوية… وإنما أن تموت دفعة واحدة أو تُحرق كاملة أو على الأقل تُهزم وتنكسر ثم تُخلع عليها كل المثالب والأخطاء، وتُلبسها أوهام العقليات الراكدة أثواباً قبيحة من قماشة اللاوعي المثبتة مسبقاً في أعماق بعض النفوس التي ما تزال مُقعدة في دهاليز التواريخ السوداء.
من كان يجرؤ على التصديق بأن الشعبوية وبعض الميديا العنصرية هي نسخ للفاشيات الجديدة؟ أو أن هناك عقول تمارس السياسات المصيرية من زاوية الوعي الشعبي الجهوي…؟ تلك بالتأكيد ظواهر مدمرة مهما كان تموضعها… ولا يكفي أن يقال في هذا المستوى ما قاله مظفر النواب “وأهبلتكم أمكم”!
الضالع ليست مهبط الأنبياء ولا كهف لملوك الجن. الضالع منطقة جنوبية أصيلة لديها
مخزون من العقول والقيم والشجاعة ولديها قبل كل شيء تنوع لا تراه العيون المائلة والموظفة لتجريحها.
على تخومها اليوم يتحفز الحوثيون بكل وسيلة وبصورة هيستيرية للانتقام التاريخي وذلك أمر مفهوم، لكن لا يجب إغفال حقيقة أن إسقاط الضالع لم يعد هدف حوثي وحسب بل هو رهان لكل الاصطفافات من داخل “الشرعية”، فهم يدركون أن إسقاط مشروع دولة الجنوب يبدأ من هناك، من الضالع.
ولأن إلحاق هزيمة نهائية بالحوثيين، أو حتى جلبهم لمفاوضات تحفظ ماء الوجه، أصبح وفقاً لأداء الشرعية، بعض من الذكريات المشوشة لبدايات عاصفة الحزم.. ولأن (أيضاً) حزب الإصلاح مدرك تماما بأن الشمال (عدا اجزاء مؤقتة) لم يعد مسرحه لزمن طويل آت.. فلا بأس إذاً من استنزاف القوات الجنوبية و إضعافها وتركها وحيدة على حدود النار لكبح طموحها في استعادة الدولة وتقليص دور حلفائها. وهكذا حسب الخيال السياسي يتحقق “حلم الإصلاح” المتمثل في التمدد جنوباً باسم الشرعية وباسم منهم تحت عباءته -الائتلافات والتحالفات المخبوزة و بقايا الأحزاب أو ما تسمى بالمصطلح السوداني الحديث “أحزاب الفكّة”. ويصبح الجنوب وكل شيء آخر مجرد أوراق في التفاوض.
وبالتأكيد تلك أوهام فالأمور لا تخضع لمعادلات الجمع والطرح. الجنوب لديه القوة الكافية ومن خلفه غالبية شعب يعتبر استعادة دولته عقيدة راسخة، وباستطاعته تجهيز جيوش من الاحتياط إذا تطلب الأمر.
الدماء على جبهات الضالع دماء جنوبية متكاملة وموحدة، متجاوزة محاولة الخصوم خلط الأهداف. وهي لا ترسم فقط الخط الفاصل بين شجاعة الرجال وفحولة المناصب، بل ما هو أبعد من ذلك بكثير.
القوات الجنوبية، رغم غياب الإعلام الفضائي الجنوبي، تدرك أنها معارك المصير، لهذا تستبسل باقصى درجات التضحية.. فقد يصبح المستقبل السياسي كله متوقف بدرجة رئيسية على هذه التخوم.