كتب – د. عيدروس النقيب
مواصلةً لما توقفنا عنده من تناولات سابقة لصاحب نظرية “الحقيقة بدون مكياج”، يمكننا اليوم تناول القضايا التالية التي حاول من خلالها الكاتب أن يقنعنا بما أورده من ثرثرات وخبطات عشوائية، أراد من خلالها التوصل إلى استنتاج مفاده استحالة توفر ظروف تسمح بقيام دولة في الجنوب وقبل تفنيد تلك الأقاويل والأحجيات يمكن الإشارة فقط أن أخانا هذا يعتمد منهاجية تعسفية غير علمية تضع الاستنتاج المستهدف الوصول إليه في البدء ثم البحث عن مؤيدات لهذا الاستنتاج حتى لو اضطر إلى تعسفها أو اختراعها أو تجميع عناصرها من هنا وهناك أو تحريف وتزييف ما يتوفر من معطيات، فالمهم عنده هو الاستنتاج وليس المقدمات والتحليل والتفنيد والمؤيدات والبراهين، وهذه طريقة لا علاقة لها لا بالعلم ولا حتى بالسياسة، لأن العلم يقوم على فرش الحقائق ونشر المعطيات، وتقديم الحجج والمقارنة بينها وبين نقائضها وبعد ذلك يأتي الاستنتاج، الذي ليس بالضرورة أن يكون مرغوب لدى الباحث أو يشبع رغباته السياسية والأيديولوجية، . . . وسأتوقف عند هذه القضية من خلال استعراض النقاط الأساسية التي لفتت نظري في سياق مقالته المحشوة لغوا وهذياناً.
هناك مغالطة مكشوفة يقوم بها صاحب المقال، من خلال مقارنة الوضع الاقتصادي بين الشمال والجنوب في زمنين مختلفين، فعندما يتحدث عن الجنوب يرجع بنا إلى زمن حكم الرئيس الشهيد سالمين، أما عندما يتحدث عن الشمال فإنه يستخدم أرقام 2014م، أي بفارق نحو أربعين عاماً ليحاول البرهان على استحالة قيام دولة في الجنوب.
يقول صاحب المقالة ” كانت ميزانية الجنوب ايام سالمين جمهورية اليمن الديمقراطية 14 مليون دينار اي اقل من 50 مليون دولار, لذا لم يقومون بمشروع واحد و لم يتحسن الحال الى قبل الوحدة اي لم تصل ميزانية الجنوب حتى 200 مليون دولار ، . . واصلا الدولة الجنوبية كانت دولة فقيرة تنتظر مساعدة الروس, و الخليج و المملكة لم يقدم لها دعم كما الشمال”.
وبغض النظر عن دقة هذا الرقم من عدمها،حيث لم يشر الكاتب إلى المرجع الذي استند إليه كعادته، أقول بغض النظر عن هذا فتمكن الإشارة إلى ما يلي:
1. الفترة التي يتحدث عنها أخونا هي فترة البدايات المبكرة لقيام دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وكانت فترة الحصار وشحة الموارد والخطوات الأولى لبناء الدولة الجديدة، ولا تصلح معيارا لقياس إمكانية أو عدم إمكانية قيام دولة في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، أي بعد نصف قرن من هذه الفترة.
2. ومع ذلك وبرغم هذا الوضع الابتدائي، فقد قامت دولة امتلكت مقومات النظام والقانون والحياة المؤسسية والقضاء العادل والخدمات شبه المجانية والأمن والمساواة أمام القانون، والكثير مما فشلت فيه شقيقتها الشمالية التي لم يقل لنا الكاتب عنها شيئا، رغم فارق الامكانيات والموارد التي يتفاخر بها أخونا.
3. يتهكم الكاتب على الجنوب بأنه كان دولة فقيرة، ويتباهى بأن الجيران لم يقدموا للنظام الجنوبي الدعم، وأنه كان يعتمد على الدعم السوفييتي، ويتفاخر بأن الجيران “السعودية وبلدان الخليج” كانت تدعم الشمال، أي إن نقطة التفوق التي تتميز بها دولة الشمال الشقيقة هي فقط دعم دول الخليج، وليس القدرة على إنتاج القيم الجديدة وتفعيل الموارد الاقتصادية، وتنمية العنصر البشري، وبمعنى آخر فإن الفرق بين البلدين كان الاختلاف في مصدر الدعم والإعانة ليس إلا.
4. يقول الكاتب أن الجنوب كان دولة فقيرة، مشيرا إلى ذلك الرقم الذي لم يقل لنا من أين أتى به، لكنه لم يحدثنا عن شقيقتها الدولة الغنية التي كانت موازنتها لا تزيد عن 2.03 مليار ريال1 أي حوالي 200 مليون دولارا، بما لا يزيد عن 4 أربعة أضعاف موازنة الجنوب، بينما كان سكان الشمال قرابة 7 اضعاف سكان الجنوب وهو ما تعمد الكاتب عدم التعرض له لأسباب لا تخطئها عين كل ذي فطنة ولو قليلة.
5. وأخيرا وهو ألأهم إننا نتحدث عن العام 2021م وما بعده، وليس عن العام 1971م وشتان بين المهمات والتحديات والمعطيات والسياسيات والظروف والممكنات والملابسات بين الفترتين، وهو ما لم يعره صاحب المقالة أي التفاتة، فكل همه هو البرهان على استحالة قيام دولة في الجنوب ما دامت موازنة 1973 كانت 50 مليون دولار.
وفي موقع آخر يقول الكاتب إن ” كل المؤشرات تقول أن موارد الجنوب قبل الحرب كانت لا تمثل 28% من إجمالي موازنة الدولة اليمنية بينما موارد الشمال تمثل نسبة 72% من الموازنة العامة للدولة و يشمل ذلك نفط و غاز و ضرائب و جمارك و زراعة و سياحة و متحصلات و إيرادات زكوية و غيرها هذه واحدة”، ثم يسترسل في الحديث عن الإنتاج النفطي والمقارنة بين إنتاجية الحقول الشمالية والجنوبية مشيرا إلى أن مساهمة الجنوب في الإنتاج النفطي لا تزيد عن 120 ألف برميل يوميا، من جميع القطاعات الجنوبية التي أشار إليها ببعض التفصيل، لكن مؤشرات وزارة النفط والثروات المعدنية تقول شيئا آخر سنتناوله بعد قليل، بيد إن الأمر المؤسف أن هذه النصوص المضببة والملتبسة التي أوردها صاحبنا تحتاج إلى تفكيك لتفنيد ما تتضمنه من أغاليط وتضليلات وانتقائية مقصودة، وفي هذا السياق أشير إلى الأمور التالي:
1. لم يقل لنا الكاتب عن أي حربٍ يتحدث عندما يقول ما قبلها وما بعدها لأن تاريخ اليمن هو تاريخ الحروب، ولكننا سنفترض أنه يقصد الحرب الحالية، التي جاءت بعد الانقلاب الحوثي على شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، كما لم يشر إلى المراجع التي استمد منها هذه الأرقام غير تقرير تفجير الأنابيب ولم يقدم أي رابط أو إشارة إلى موقع نشر التقرير ومتى جرى نشره فالرجل يبدو واثقاً بأن لا أحد سيناقشه أو يطلب منه براهين ملموسه على ما يقول به.
2. وفضلا عن عدم وجود المرجع، فإن عدم دقة الأرقام يمكن استنتاجه من المعطيات المقارنة كما في تقارير المؤسسات الحكومية الرسمية، التي قد لا تقول الحقيقة كاملة:
أ. إن مؤشرات وزارة النفط والمعادن اليمنية تقول أن إيردات حقول المسيلة في حضرموت وحدها تمثل 39 % من إجمالي إنتاج النفط في اليمن، إذ يقول موقع وزارة النفط والمعادن إن ” قطاع المسيلة حضرموت يحتل المركز الأول بين القطاعات النفطية في الجمهورية اليمنية حيث بلغت طاقته الإنتاجية السنوية عام 2006م حوالي 51.7 مليون برميل أي ما يقارب 141643 برميل يوميا،(أي إن حقول المسيلة وحدها تنتج أكثر من 20 ألف برميل يوميا زيادة عما قدمه الكاتب كإنتاج لكل حقول النفط الجنوبية) وهذا يمثل 39% من إجمالي الإنتاج النفطي،2 فمن يلجأ إلى الكذب والمغالطة إذن؟؟
ب. وحيث إن موقع وزارة النفط اليمنية، يشير إلى أن إنتاج قطاع مأرب الجوف يمثل نسبة 19% من إجمالي الإنتاج بينما يمثل قطاع جنة المشترك نسبة إنتاج 12% ثم تأتي القطاعات الأخرى حيث تمثل القطاعات الثلاثة 70% فمن حق المتابع أن يتساءل3 ، أين ذهبت الـ 30% الباقية من الموارد النفطية، وهي بطبيعة الحال لن تكون إلا في الحقول المعلنة في المناطق المعروفة في شبوة وحضرموت، والمهرة وسقطرة وساحل أبين.
3. إننا نتحدث عن إحصائيات رسمية صادرة عن مؤسسات لا تؤتمن على ما تقدمه من أرقام، ولم نتعرض لما اشار إليه باحثون اقتصاديون وخبراء متخصصون، ومنهم أستاذ الجغرافيا الاقتصادية في جامعة عدن الدكتور حسين مثنى العاقل، الذي قدم أكثر من بحث ودراسة حول الجغرافيا الاقتصادية في اليمن ومناطق إنتاج النفط في محافظات الجنوب، حيث يقول في إحدى دراساته “إن القطاعات النفطية في محافظات الجنوب تتجاوز الـ 97 قطاعاً نفطياً تتراوح مساحة كل قطاع من هذه القطاعات الاستثمارية حسب الإحصائيات الرسمية ما بين 1000 –22.000 كم2”.
ويشير الدكتور العاقل إلى 56 قطاعاً نفطياً في حضرموت وحدها وأكثر من 18 قطاعاً نفطياً في محافظة شبوة، و 8 قطاعات في محافظة المهرة ثم 13 قطاعا نفطياً في محافظات عدن- لحج- أبين, مع مساحة المياه الاقليمية الجنوبية لخليج عدن والبحر العربي وأرخبيل سقطرى.
ويقدر د. العاقل عدد الآبار المحفورة المنتجة للنفط حتى ديسمبر 2012م حوالي ( 2202 )بئراً، في وادي المسيلة قطاع 14- لوحده أكثر من ( 300) بئراً نفطيا4 .
ويؤكد الدكتور العاقل بيقين بأن القطاعات الجنوبية المنتجة قد بلغ إنتاجها في العام 2006م في محافظتي حضرموت وشبوة فقط حوالي( 828.000 ) ثمانمائة وثمانيةٍ وعشرون ألف برميلٍ يومياً وهذه الأرقام تؤكد ما قلناه مرارا بأن ما يعلن للإعلام وللمواطن وحتى للمؤسسات الرسمية غير الموثوقة، كالبرلمان والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، يختلف كليا عن الأرقام الحقيقية لواقع الإنتاج والتصدير وتوزيع العائدات.
إن ما نشره صاحب نظرية “الحقيقة بدون مكياج” يبين أننا أمام مثقفين يخاطبون القارئ باستعلاء ونزعة فوقية متعالية تتعامل معه وكأنه تلميذ في الابتدائية في بلد متخلف، ينبغي عليه (أي القارئ) أن يصادر عقله ويتخلى عن ملكة التفكير، ويستمع إلى المعلم ويكرر بعده ما يقول ولا يحق له قول العكس أو حتى التساؤل حتى لو كان المعلم لا يفقه الفرق بين همزتي الوصل والقطع.
ولأن الحديث يتشعب والرجل يقدم لنا مجموعة من الأقاويل المضحكة كبراهين (علمية) على معطيات سياسية غريبة، فإننا سنضطر إلى وقفة قادمة لتفنيد بقية الأغاليط والأحجيات.
فإلى اللقاء