“يرى أرسطو أن السعادة لا يمكن إدراك طبيعتها من غير إدراك طبيعة النفس وقواها”
عماد الدين الجبوري
تناولنا في الحلقة الأولى سقراط وأفلاطون وتصوراتهما العقلية في الأخلاق، إذ يُعد سقراط من أوائل الذين وضعوا نظاماً أخلاقياً متماسكاً يقوم على أُسس استقرائية، وعلى نمطه سار تلميذه أفلاطون بدرجة أمتن في ترسيخ مبادئ ومفاهيم الأخلاق، التي قسّم الفضيلة فيها وفق تقسيم النفس: الناطقة والغاضبة والغاذية، وكذلك إلى أنواع الجمال: الجسمي والروحي والمطلق.
أرسطو (384-322 ق. م)
يُعد أرسطو أكثر وضوحاً وأدق تشخيصاً من سقراط وأفلاطون في علم الأخلاق، فهو يرى أن الفضيلة واللذة والسعادة والخير وما إليها، كلها ألفاظ مترادفة لها دلالة واحدة، ولذلك تُطلَب لذاتها وليست وسيلة لشيء آخر يعلو عليها، وهي من شروط السعادة الأساسية. وفي هذا الصدد ألّف كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس” لمعالجة هذه المشكلة. إذ “كل فن وكل دراسة وكل عمل ومتابعة بالمثل يعدّ أنه يهدف إلى بعض الخير. ومن ثم تم تعريف الخير على أنه “ما تهدف إليه الأشياء جميعاً” (طبعة إنجليزية). وبجانب هذا الكتاب إلى ابنه نيقوماخوس، وضع أرسطو كتاب آخر قبله “الأخلاق إلى يوديم”، إضافة إلى “كتاب الأخلاق الكبرى” الذي جمعه تلامذته.
على أي حال، يرى أرسطو أن السعادة لا يمكن إدراك طبيعتها من غير إدراك طبيعة النفس وقواها، فالسعادة ليست أكثر من إحدى حالات النفس البشرية. وعلى نمط أفلاطون، يقسم أرسطو النفس إلى ثلاثة قوى: الغاذية والحساسة والناطقة. الأولى، مشتركة بين الإنسان والحيوان والنبات. الثانية، تخص الإنسان والحيوان فقط. الثالثة، تخص الإنسان وحده. وسعادة الإنسان تنفرد بمزاولة ما يمتاز به من دون سائر الموجودات والكائنات، ألا وهي ممارسة الحياة الناطقة على أحسن وجه. وهذا هو المعنى الحقيقي والشرط الأساسي إلى “السعادة” بحسب مفهوم أرسطو. فالسعادة هي عمل النفس الناطقة وحدها بحسب فضيلتها الخاصة، وإن تعددت فضائلها، فذلك يكون بحسب أفضلها وأكملها، من خلال طول العمر وليس فعل يوم واحد أو مدة زمنية قصيرة، حتى يصبح ذلك لها عادة راسخة.
إن عمل النفس الناطقة وفق فضيلتها تكون مصدر لذة حقيقية لها، لأن فيه سعادتها وخيرها الأقصى. وهكذا يدمج أرسطو بين اللذة والسعادة، لكنه لا يقصد اللذة المادية بل الروحية. فالمعنى الروحي متجرد من اللذة الحسية المألوفة، إذ تأتي بعد تحقيق الفعل المطابق للفضيلة من غبطة وانشراح، إنها تحقيق الحياة النظرية القائمة على التأمل والتفكير، وهي أعلى درجات الكمال.
أما ضرورة المتطلبات المادية في الحياة بغية الحصول على السعادة وتحقيق الخير والفضيلة، فأرسطو يقر بأن من شروط نجاحها أن يتوافر للشخص المال والعائلة والصحة والجاه والسلطة وما شابه ذلك من زينة الحياة الدنيا، وإلا يتعذر عليه أن يفعل الخير. إذ الكثير من المكارم لا يمكن الإتيان بها من غير الاستعانة بهذه الأمور، التي هي شروط لتحقيق السعادة إن عدمت أفسدتها، فلا يمكن لأي شخص أن يكون تام السعادة وهو فقير أو عقيم أو محتاج. وبما أن شروط السعادة ليست في متناول اليد دوماً، لذا يعاني الإنسان من حياة مليئة بالآلام، ولكن هذه الآلام نفسها تحقق له أكبر قسط من السعادة. فالرجل الفاضل أسعد من الشرير مهما ينزل به من كوارث، فهو يتمسك بالفضيلة بغض النظر عن المأساة. وهذا هو دأب الفضيلة في كل زمان ومكان.
ويقسم أرسطو الفضائل إلى صنفين رئيسَين: عقلية ونزوعية. الأولى، خاصة بالقوة الناطقة، وتُسمى الفضائل العقلية. والأخرى تطيع أوامر العقل، وتُسمى الفضائل الأخلاقية.
من الفضائل العقلية، العلم والفن والحكمة وغيرها بنوعَيها النظري والعملي، إذ تُكتسب بالتعليم، لذلك تستغرق وقتاً طويلاً. والحكمة النظرية هي أم الفضائل جميعها، لأنها الفضيلة الوحيدة التي يشارك الإنسان بها الله. فالله عقل وتأمل وتفكير، ولذلك فهو سعيد سعادة مطلقة. وقد يُتاح للإنسان أحياناً أن يحظى بها في لحظات نادرة، ولهذا فإن سعادته تبقى ناقصة، لكنه كلما أوغل في حياة التأمل والنظر استمتع بهذه السعادة العظيمة. فالتأمل، برأي أرسطو، فيه الفضيلة العليا التي تسمو على جميع الفضائل الأخرى.
وفي الفصل العاشر، آخر فصول كتاب “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، ينص أرسطو على عظمة التأمل وسموه على سائر الفضائل، لا سيما “بالنسبة إلى الإنسان أيضاً، فإن الحياة الأفضل والأكثر متعة هي حياة العقل، لأن العقل هو الإنسان بكل معانيه. لذلك، ستكون هذه الحياة هي الأسعد أيضاً”. (المصدر السابق).
أما الفضائل الأخلاقية، مثل الشجاعة والعفة والكرم وما إليها، فإنها تُكتسب بالتعوّد والممارسة والإرادة الواعية، إذ لا تتكون فينا على سبيل الطبع، بل إننا مهيأون لاكتسابها، وإلا ما أمكن الاتصاف بأضدادها، كما إنها لا تضاد الطبع وإلا لما أمكن الاتصاف بها. وهكذا، فالتهيؤ الذي هو بالقوة إنما يُستكمل ويصير بالفعل بحكم العادة والمران والتدريب. إذ إن الاستعداد لقبول هذه الفضائل المكمونة في النفس ترتكز فيه بالطبع، وما غاية التربية وواضعي الشرائع إلا غرس هذه الفضائل في النفوس وتنشئة الناس عليها.
وهذا يقود إلى التسليم بأن الفضائل مكتسبة اكتساباً، وليست طبيعية، وبذلك يمكن القول في حدّها بأنها ملَكات أخلاقية متجذرة في النفس يكون الفعل فيها حراً صادراً بمحض الإرادة لا بأي تأثير خارجي، فيكون الشخص وفقها صالحاً قويماً يؤدي ما عليه بأحسن وأفضل وجه.
ويتشعب أرسطو في مفهوم الفضيلة، إذ يقرنها بمفهوم الوسط العدل بين رذيلتين وهما: إفراط وتفريط. فعلى سبيل المثال، الشجاعة تعد وسطاً بين التهور والجبن، والعفة وسط بين المجون والجمود، والكرم وسط بين الإسراف والتقتير… إلخ. وعليه، فإن خير الأمور أوسطها. فعندما تكون الفضيلة وسطاً بين رذيلتين، لا يعني بهذا الوسط وسطاً رياضياً ثابتاً، يُقاس بطريقة آلية مطلقة، مثل الوسط الذي نعنيه في الكم المتصل، وإنما وسطاً مترجرجاً لا يستقر على وتيرة واحدة، لأن أفعال الناس وانفعالاتهم لا تحتمل مثل هذه الدقة، ولأنهم يختلفون في الطباع والاستعدادات، ويتباينون في ظروف حياتهم وأحوالهم المعيشية والعقلية.
إذاً، اختيار الوسط يختلف باختلاف الأشخاص وتفاوت أحوالهم وظروفهم، لذا يجب أن يراعى فيه أدوات الاستفهام: مَنْ وأين ومتى وكيف ولِمَ. ومن هذا المنطلق يأطر أرسطو معنى الفضيلة بدرجة أعمق وأكثر دقة، فهو يسهب في تعريف الفضيلة، علاوةً على التعريف السابق، بأنها ملَكة خُلقية إرادية راسخة في النفس تجعل المرء قادراً على تجاوز الإفراط والتفريط واختيار الوسط بينهما، بناءً على مبدأ عقلي سديد. وفي الطرف المناقض تكون الرذيلة، التي تتخطى الوسط وتختار الإفراط أو التفريط، وكلاهما شر.
وعلى الرغم من تشديد أرسطو على هذه الوسطية، فإنه يحذر من الاعتقاد بأن لكل الأفعال والانفعالات أوساطاً، لأن منها ما لا وسط له. على سبيل المثال، من الانفعالات كالحسد والغيرة والغيظ، ومن الأفعال كالسرقة والقتل والزنا، ما يدل ذكر اسمه على شر، فهي رذائل بنفسها لا بحكم الأفراط والتفريط، إذ تفوح منها رائحة الإثم والفجور. كما أن الفضائل ما لا يمكن تحديد طرفيها المرذولين، مثل الصدق ليس سوى ضد الكذب، والنظر العقلي ليس سوى ضد بلادة الذهن. وبما أن الفضيلة هي الوسط بين رذيلتين، لكنها في ذاتها ليست نقصاً في الكمال، بل لها قيمة مطلقة هي في غاية الشرف والكمال. فاختيار الوسط لا يكون خبطاً عشوائياً، وإنما وفق ما تقتضيه الحكمة وأصالة الرأي بعد تقدير كل الظروف المحيطة بالفعل واستقراء كل جزئياته وأحواله، لمعرفة ما يجب فعله في الحالات الخاصة التي يتفاوت الحكم عليها بحسب المكان والزمان.
وهكذا صاغ أرسطو نظاماً فكرياً يبيّن فيه الأخلاق، إذ يُعد أحد أكثر الفلسفة الأخلاقية تأثيراً على مدى قرون، سواء الذين أيدوه أو نقدوه، لكن لا أحد يستطيع تجاوزه قط. كما أن أرسطو، بصورة أو أخرى، ساعد في تشكيل وصياغة الوعي الأخلاقي المشترك بين الناس. ومن بين أكثر الفلاسفة المسلمين الذين تأثروا بمذهب الأخلاق عند أرسطو، هما الفارابي وابن سينا.
نقلا” عن أندبندنت عربية