كريتر نت – تونس
لم تعرف تونس في تاريخها الحديث مؤرخا ومفكرا أكثر جرأة من هشام جعيّط، الذي كرس أغلب كتبه لترسيخ فكر ديني جديد، إضافة إلى تقديمه لقراءة تاريخية عميقة للإسلام، قراءة كشفت الكثير من الحقائق المثيرة للجدل.
وتوفي الثلاثاء غرة يونيو 2021 المفكر والمؤرخ التونسي هشام جعيط عن عمر ناهز الـ86 عاما بعد صراع مع المرض.
وولد جعيط لعائلة من المثقفين والقضاة وكبار المسؤولين من البرجوازية الكبيرة في تونس العاصمة، وهو حفيد الوزير الأكبر يوسف جعيط وابن أخ العالم والشيخ محمد عبدالعزيز جعيط.
ورغم انتمائه إلى وسط عائلي محافظ، مكتسب لثقافة دينية عتيدة، ومتأصّلة في الثقافة العربية الإسلامية، وخلافا لما جرى عليه الأمر بالنسبة إلى أبناء العائلة الكبيرة الذين كانوا يوجّهون إلى التعليم الديني، انتسب الطفل هشام إلى المدرسة الصادقية ليتعلم اللغة الفرنسية مبكرا، وهذا ما ساعده في ما بعد على اكتساب معرفة عميقة بالثقافة الفرنسية في مختلف عهودها.
وفي مطلع شبابه، وبسبب ولعه بالثورة الفرنسية وبفلاسفة الأنوار، شرع الراحل يبتعد شيئا فشيئا عن الوسط المحافظ الذي ينتمي إليه. وقد أحدث اكتشاف الفلسفة منعرجا في حياة الشاب جعيط الذي كان آنذاك في الثامنة عشرة من عمره.
وعن ذلك يقول “كان اكتشافي للفلسفة أمرا حاسما، وكان بمثابة الفتح والتجلي، ولست أعني بذلك الميتافيزيقا فقط، وإنما أيضا علم النفس والأخلاق والمنطق. عندئذ بدأت تذوب عندي بديهيات أساسية، وفي الآن نفسه اكتشفت علم البيولوجيا، ونظرية التطور، وهذا كلّه أثار إعجابي واندهاشي في نفس الوقت”.
وعندما سافر إلى فرنسا لمواصلة تعليمه العالي في دار المعلمين العليا، أين تحصل على شهادة التبريز في التاريخ سنة 1962، لم يهتم جعيط بالسياسة بل بالفكر.
وحصل جعيط على دكتوراه في التاريخ الإسلامي من جامعة السوربون بباريس سنة 1981. والراحل هو أستاذ فخري لدى جامعة تونس، درّس كأستاذ زائر بعدة جامعات عربيّة، أوروبية وأميركية منها جامعة ماك غيل (مونتريال) وجامعة كاليفورنيا، بركلي وبمعهد فرنسا. وكان قد تولى رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” بين سنتي 2012 و2015، وهو عضو في الأكاديمية الأوروبية للعلوم والفنون.
مؤلفات هشام جعيط التي عرّت خفايا التاريخ الإسلامي ومواقفه المثيرة للجدل، منحته مكانة هامة كأهم المؤرخين العرب
ولا يخفي جعيط أنه تأثر كثيرا عام 1968، أي بعد هزيمة العرب المدوية في حرب الأيام الستة، بكتاب ميشيل عفلق “في سبيل البعث”، ووجده “جريئا وقوميا وحداثيا في آن واحد”. كما أعجب بكتاب المفكر المغربي عبدالله العروي “الأيديولوجيا العربية”، وأيضا كتاب الشاعر والمفكر الباكستاني محمد إقبال “تجديد الفكر الديني في الإسلام”.
ولعل كل هذه القراءات هي التي دفعته إلى تأليف كتابه “أوروبا والإسلام” الذي سعى من خلاله إلى تحليل ماهية الإسلام وماهية الغرب، وتقديم نظرة حول فلسفة الثقافة. كما أثار فيه مسائل أخرى كانت تشغل ذهنه منذ فترة الشباب. وعن كتابه المذكور، يقول جعيط “باستثناء علي حرب، لم يهتم العرب كثيرا بكتابي ‘أوروبا والإسلام’. أما الغربيون فقد أعجبهم الكتاب. لذا ترجم إلى الإنجليزية والإسبانية. وتحدث عنه الباحثون ككتاب مهمّ على مستوى استقراء العلاقة الثقافية والحضارية بين الغرب المسيحي والشرق الإسلامي”.
شهرة جعيط لم تكن من عمله الأكاديمي بقدر ما مثلت في مؤلفاته ومواقفه المثيرة للجدل، فبعد أن أصدر كتابا ضخما عن تاريخ الكوفة، اهتم المفكر الراحل بالسيرة النبوية مقدما من خلالها قراءة فلسفية وعلمية مدهشة للإسلام، نذكر من بينها مؤلفاته الأشهر “الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر”، “جدل الهوية والتاريخ”، “في السيرة النبوية جزء 1: الوحي والقرآن والنبوة”، “في السيرة النبوية جزء 2: تاريخية الدعوة المحمدية”، “في السيرة النبوية جزء 3: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام”.
وفي حوار سابق مع “العرب” أكد جعيط أن أزمة المسلمين العرب عمّقها هوسهم بالدين، مشدّدا على أن هذا الدين يلعب دورا مجحفا في حياة هؤلاء.
ورأى جعيط أن “التاريخ الإسلامي منفتح على مجهودات المؤرخين، والمجال واسع لمزيد من العمل اليوم”. وسلّط المؤرخ الراحل الضوء على كيفية تناول المفكرين العرب لهذا الاختصاص، لافتا إلى أن أغلبهم اتخذ طابعا فلسفيا، في ما لم تقع دراسة التاريخ بمعناه الحقيقي.
ودعا مرارا إلى ضرورة التمييز بين الفكر التّاريخي وعلم التّاريخ وفلسفة التّاريخ، قائلا “إنّ الفكر التّاريخي ينفتح على الاهتمام بقضايا بعينها اجتماعيّا وثقافيّا، من وجهة التّناسق بين الوعي الفردي والحقيقة الموضوعية، مع عدم الالتزام ضرورة بصرامة المنهج التاريخي، وهذا اختلاف جوهريّ مع علم التاريخ الذي يفترض الدقة العلمية والمنهجية في عرض الأحداث وقراءتها.
أمّا فلسفة التّاريخ فهي دراسة الأسس النظرية للممارسات والتطبيقات والتغيرات الاجتماعية التي حدثت على مدى التاريخ، وهي تهتم بمعنى التاريخ وقوانينه واتجاهاته”.
ولم تتوقف آراء جعيط الجريئة والمثيرة للجدل حيث كان يرى في حديثه عن الواقع الراهن للبلدان العربية “الآن وبسبب التأخر الاقتصادي والاجتماعي، فالديمقراطية بالمعنى الغربي الدقيق لا تتماشى مع نفسية المسلمين الحالية”.
وأضاف “أعود وأكرر، ليست المشكلة في المؤسسات ولا في ممثليها، المشكلة تكمن في أن المسلمين لديهم هوس كبير بالدين وبالمحافظة عليه.. الدين يلعب دورا مجحفا في حياة المسلمين”.
وشدّد جعيط على أن “المشكلة مشكلة حضارة.. الحضارة الغربية مثلا كانت متأثرة بالدين لكن المراجعات جاءت في سياق النهضة الفكرية التي أفرزها عصر التنوير.. منذ ثلاثة قرون حسم الغربيون أمرهم في هذا الصدد، وهو ما لم يقم به المسلمون والعرب”.
المصدر : العرب اللندنية