كريتر نت – بروكسل
التحاق مواطنين أوروبيين خلال العشرية الماضية بصفوف تنظيم داعش في سوريا والعراق خلّف وضعا شاذّا لا تملك البلدان التي يحمل هؤلاء جنسياتها تجربة سابقة في معالجته والتوقّي من تبعاته متمثلا في وجود المئات من النساء الأوروبيات اللاتي انتمين للتنظيم عالقات في البلدين مع أطفالهن. وإذ اختارت دول أوروبية التغاضي عن الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية في التعاطي مع القضية، فإنّها لم تدرأ عن نفسها الأخطار الأمنية، بقدر ما أوجدت قنبلة موقوتة ستنتهي يوما بالتفجّر على أراضيها وفي وجه مجتمعاتها.
وحوّل ارتباك دول أوروبية وتردّدها في معالجة ملف مواطنيها المعتقلين في سوريا والعراق بتهمة الانتماء لتنظيم داعش، إلى نموذج يفسّر غلبة الدواعي الأمنية على الاعتبارات الإنسانية والحقوقية التي لطالما رفعت تلك الدول لواء الدفاع عنها، بل اتّخذتها في الكثير من الأحيان أداة للضغط على دول أخرى.
وسعت دول أوروبية من خلال تشدّدها في رفض إعادة مواطنيها من نساء وأطفال عالقين في المخيّمات والسجون العراقية والسورية إلى تحصين أمنها وحماية مجتمعاتها، لكنّها كانت على العكس من ذلك، تضاعف من المخاطر وتغذي التطرّف بهزّ الثقة في قوانينها وقيمها لدى طبقات هشّة من مجتمعاتها ثبت في السابق أن لديها استعدادا للانجرار خلف إغراءات الخطاب الديني السطحي والتبسيطي الذي استخدمته منظمات إرهابية مثل داعش والقاعدة في تصيّد أتباع من داخل الفضاء الأوروبي والزجّ بهم في بؤر الصراعات المسلّحة.
جوسي تانر: إعادة عوائل داعش في أسرع وقت أفضل من وجهة نظر أمنية
ويمثّل مصير الأطفال أكبر نقاط ضعف معالجة ملف مخلّفات حقبة داعش القاتمة في سوريا والعراق، فبالإضافة إلى المآسي الغامرة التي يعيشها الآلاف من هؤلاء الأطفال مع انعدام مختلف ظروف العيش العادي لهم من مأكل ومشرب ورعاية صحية وتعليم، فضلا عن وعي بعضهم بالانتماء إلى طرف منبوذ ومجرّم ما يخلق لديهم جروحا نفسية غائرة وعُقدا من الصعب التخلّص منها، فإنّ ترك هؤلاء لمصيرهم هو بمثابة تشكيل خزّان بشري لحلقات قادمة وموجات جديدة من التطرّف والعنف.
وأورد تقرير نشرته مؤخّرا صحيفة نيويورك تايمز تحت عنوان “معضلة أوروبا: استيعاب عوائل داعش أم تركها في سوريا” قصّة امرأة بلجيكية مقيمة مع طفليها في مخيّم للاعتقال داخل الأراضي السورية بسبب انتمائها لتنظيم داعش، وأصبحت ترى بارقة أمل في قرار بلادها إعادة النساء اللاّئي انتمين للتنظيم، رغم معرفتها المسبقة بأنها ستقضي جزءا من حياتها في السجن لدى عودتها إلى بلجيكا.
وتقول الأربعينية جيسي فان إيتفيلدي إن حلمها هو أن ترى طفليها اللذين قاتل والدهما في صفوف داعش يذهبان إلى المدرسة في بلجيكا، وهي مستعدة لأجل لذلك ولدفع ثمن الانضمام إلى التنظيم المتشدّد في 2014.
وتضيف في رسالة صوتية عبر تطبيق واتس آب “ربما أدركت السلطات أن أولئك الذين يريدون العودة يشعرون بالأسف ويريدون فرصة ثانية”.
وامتنعت العديد من الدول الأوروبية عن السماح بعودة الأشخاص المرتبطين بداعش لكن بعض تلك الدول مثل بلجيكا وفنلندا بدأت تستجيب لنصائح الحقوقيين والخبراء الأمنيين الذين يقولون إنّ إعادة هؤلاء إلى أوطانهم هي الخيار الأكثر أمانا.
ونقل تقرير الصحيفة عن كريس هارنيش، المسؤول السابق في مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأميركية والذي نظم عملية إعادة المواطنين الأميركيين في عامي 2019 و2020 قوله “لطالما انتقدت أوروبا الولايات المتحدة بسبب خليج غوانتانامو، لكن لديك الآن غوانتانامو في الصحراء”.
خطر مضاعف
أوروبا التي لطالما انتقدت الولايات المتحدة بسبب معتقل خليج غوانتانامو أصبحت متواطئة في إنشاء غوانتانامو آخر في الصحراء
بعد عامين من خسارة تنظيم الدولة الإسلامية لآخر موطئ قدم له في سوريا والعراق تعيش أكثر من 200 امرأة من 11 دولة أوروبية و650 طفلا في مخيّمي الهول وروج بالشرق السوري وفقا لأرقام جمعها توماس رينارد الباحث في المعهد الملكي للعلاقات الدولية (معهد إيغمونت) الذي يتّخذ من بروكسل مقرّا له.
وعلى الرغم من أن الأوروبيين يمثلون جزءا صغيرا من ستين ألف شخص محتجزين في سوريا ومعظمهم من العراقيين والسوريين، إلا أن الحكومات الأوروبية تواجه ضغوطا متزايدة لإعادة البالغين ومحاكمتهم في بلدانهم باعتبار أنّ تقاعس تلك الدول عن إعادتهم ينتهك التزاماتها بحقوق الإنسان.
ويقر خبراء أمنيون وجماعات حقوقية ومحامون بأن الحكومات الأوروبية تواجه مخاوف أمنية مشروعة وتتعرّض لضغوط سياسية. لكنّ عددا متزايدا من مسؤولي تلك الحكومات ورجال الاستخبارات يقولون إنّ ترك مواطنين أوروبيين في سوريا والعراق يأتي بمخاطر أكبر ويغذّي تلك الجماعات الإرهابية التي تستهدف أوروبا بالمزيد من المقاتلين.
وأعادت دول مثل الولايات المتحدة وكازاخستان وتركيا العديد من مواطنيها لمقاضاتهم، وفي بعض الحالات لإعادة دمجهم في المجتمع.
ولا تُحاكم إدارة المناطق الكردية التي تشرف على المخيمات في سوريا “نساء داعش” لأنّ دورهن في ظل حكم التنظيم للمناطق التي احتلّها ظلّ غير واضح، ولأن الإدارة غير معترف بها دوليا، ولذلك فإنّ أي ملاحقات قضائية من قبلها لهؤلاء النساء لن يعفي الدول الأصلية لهنّ من المأزق القانوني.
وتقول معظم الدول الأوروبية إنه ليس عليها أي التزام قانوني بمساعدة مواطنيها في المخيمات وإن البالغين الذين انضموا إلى داعش يجب أن يحاكموا في العراق وسوريا.
ومع ذلك يقول وزير العدل البلجيكي فنسنت فان كويكنبورن إن حكومة بلاده ستنظم عمليات إعادة 13 امرأة و27 من أطفالهن في غضون أشهر بعد أن ذكرت أجهزة المخابرات في البلاد أن داعش يكتسب المزيد من القوة داخل المخيمات، موضحا أن السلطات البلجيكية تلقت نصيحة واضحة بأن إحضار النساء والأطفال إلى بلجيكا هو الخيار الأكثر أمانا.
ويقول رينارد “سيشكل العائدون (من القتال إلى جانب داعش) خطرا بعضه منخفض الدرجة وبعضه مرتفع جدا حيث يمكن لهؤلاء العائدين أن يتسببوا في تطرف السجناء داخل السجون أو ينخرطوا في محاولات لشنّ هجمات. ومع ذلك فإن عواقب عدم إعادتهم إلى بلدانهم تفوق بشكل متزايد تلك المخاطر”.
وتقول جماعات حقوقية إن الأطفال لم يرتكبوا أي خطأ وإنهم يعانون من المرض وسوء التغذية والاعتداء الجنسي. وقد توفي المئات منهم وتم الإبلاغ عن العشرات من حالات الإصابة بفايروس كورونا في المخيمات، وفقا لمنظمة سايف سايف ذي تشلدرن غير الحكومية.
وهناك أيضا مخاوف بشأن المراهقين الذين سافروا عندما كانوا أطفالا إلى مناطق داعش مع أمهاتهم المولودات في أوروبا وهم أكثر عرضة لخطر التطرف. وقد تخلفوا عن الركب لأن البلدان لا تستقبل سوى الأطفال الأصغر سنا.
وتقول ليتا تايلر الباحثة في مكافحة الإرهاب في هيومن رايتس ووتش إن الحكومات الأوروبية “تصنّف طبقات من الأطفال (المنتمين لعوائل داعش)، فهناك المرغوب فيهم وهم الأيتام، والأقل قبولا وهم المراهقون”.
وتقول مجموعة ريبريف غير الحكومية المتخصصة في العمل القانوني والتي تعرّف نشاطها بأنّه نضال من أجل العدالة والدفاع عن الأشخاص المهمّشين الذين يواجهون انتهاكات حقوق الإنسان على أيدي الحكومات، إن العديد من النساء في مخيمات احتجاز عوائل داعش تعرضن للاتجار والاغتصاب وأجبرن على الزواج القسري وأعمال السخرة.
خوف وتردّد
قال مسؤول مخابرات فرنسي، طلب عدم الكشف عن هويته، إنّ عمليات إعادة عوائل داعش إلى أوطانهم مازالت غير واردة. ويقول محللون أمنيون إن جزءا من التردّد مأتاه أن النساء العائدات قد يتعرضن لعقوبات سجن مخففة، وقد لا يتعرّضن أبدا لتلك العقوبة لعدة اعتبارات قانونية وحقوقية.
وجرّدت بريطانيا نحو عشرين امرأة انضممن إلى داعش من الجنسية البريطانية وقامت في بعض الحالات بمحاكمتهنّ غيابيا لمنع عودتهن. وبينما قالت هولندا والسويد إنهما قد تستقبلان الأطفال لكن من دون أمهاتهم، رفضت فرنسا العديد من الدعوات لإعادة مواطنيها المنتمين لداعش، وذلك على الرغم من تنظيم فرنسيات منتميات للتنظيم في سوريا إضرابا عن الطعام لمدة شهر.
ولا تخفي حكومة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رغبتها في أن يحاكم مقاتلو تنظيم داعش الذين يحملون الجنسية الفرنسية في الدول التي قاتلوا على أرضها وقبض عليهم فيها، ذلك أنّ
القوانين الفرنسية والقيم الحقوقية المطبّقة في البلد تفرض الكثير من الشروط والضوابط الصارمة التي من شأنها أن تعقّد عملية محاكمة العائدين من ساحات القتال بالخارج، لاسيما النساء اللاتي يصطحبن أطفالهنّ المولودين في سوريا والعراق والمفتقرين للوثائق الثبوتية.
ويخشى طيف واسع من الأوروبيين من اختلاط المنتمين لداعش بأفراد المجتمعات الأوروبية سواء داخل السجون أو خارجها مما قد يكون سببا في نشر الأفكار الجهادية المتشدّدة.
وسافرت إيتفيلدي وهي موظّفة سابقة في قطاع الصرافة ولدت بالقرب من أنتويرب في شمال بلجيكا إلى سوريا مع زوجها في 2014. وتقيم الآن في مخيم روج وتأمل في العودة إلى بلادها لأجل طفليها البالغين من العمر ثلاثة وخمسة أعوام، لكنّها ما تزال معزولة عن العالم وحتى محاميها محمد أوزدمير يقول إنه لم يتمكن من التواصل معها في الأشهر الأخيرة. ولا يُسمح في المخيّم باستخدام الهواتف المحمولة لذلك تواصلت إيتفيلدي مع صحيفة نيويورك تايمز من خلال الرسائل الصوتية المرسلة عبر هاتف امرأة أخرى في المخيم وصلت الصحيفة إليها من خلال عائلة المرأة ومحاميها.
وقال المحامي إن محكمة بلجيكية أدانتها غيابيا في يناير الماضي بالمشاركة في أنشطة منظمة إرهابية. وحكمت عليها بالسجن خمس سنوات. بينما ذكر الوزير كويكنبورن أن أي امرأة ترغب في العودة إلى بلجيكا يجب أن تثبت أنها لا تشكّل أي تهديد للبلد، موضّحا “إذا لم ينْئين بأنفسهن عن أيديولوجية داعش فسيبقين حيث هنّ”.
ومن المرجح أن تؤدي خطة إعادة عوائل داعش التي ستنفّذها بلجيكا إلى الضغط على فرنسا المجاورة التي تحمل جنسيتها أكبر مجموعة من عناصر التنظيم الأوروبيين الموجودين في المعسكرات والسجون بالعراق وسوريا. ومع ذلك، وبينما تتراجع وتيرة الهجمات الإرهابية في فرنسا مقارنة بالسنوات السابقة، تواصل الحكومة الفرنسية رفضها الدعوات لإعادة مواطنيها الذين غادروا للقتال مع داعش.
وعلى الرغم من أن فرنسا استقبلت 35 طفلا كانوا في معسكرات الاعتقال، إلاّ أن 100 امرأة يحملن الجنسية الفرنسية و200 من أطفالهن مازالوا يقيمون في مخيم روج وفقا لما ذكره جان تشارلز بريسارد مدير مركز تحليل الإرهاب الذي يتخذ من باريس مقرّا له.
وكان من المقرر أن تعيد فرنسا مئة وستّين منهم على الأقل في أوائل عام 2019 وفقا لوثائق استخباراتية كشفت عنها صحيفة ليبراسيون في وقت سابق. لكنّ مسؤولا بالمخابرات الفرنسية قال إن الوضع في المعسكرات أصبح متقلبا للغاية وتم التخلي عن الخطة.
وقال هارنيش مسؤول مكافحة الإرهاب السابق في الولايات المتحدة “اعتقدنا أن ذلك سيحدث وأنّه سيطلق مفعول الدومينو في دول أوروبية أخرى معنية بقضية عوائل داعش.. لكن الحكومة الفرنسية قطعت التيّار”
عودة حتمية
رغم هذا التردّد والارتباك الظاهرين على طريقة معالجة الدول الأوروبية لملف عوائل داعش، فقد شرع عدد متزايد من تلك الدول في اتخاذ إجراءات لطي الملف. ففي الدنمارك قالت السلطات مؤخرا إنها ستعيد ثلاث نساء وأربعة عشر طفلا من سوريا. وأعادت ألمانيا وفنلندا خمس نساء وخمسة عشر طفلا في ديسمبر الماضي. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الألمانية إنّ بلاده تعمل بأقصى سرعة لاستقبال أطفال من المعسكرات، أمهاتهم مواطنات ألمانيات.
وفي بريطانيا دعا مشرّعون محافظون إلى إعادة بعض المواطنين البريطانيين بحجة أن محاكمتهم في البلاد ستكون أكثر أمانا من تركهم في المعسكرات.
ورفع والدا امرأة فرنسية مقيمة في معسكر بسوريا دعوى ضد حكومة فرنسا أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان مطالبين بإعادتها مع أطفالها. وطلب ثلاثة محامين فرنسيين من المحكمة الجنائية الدولية النظر في ما إذا كانت سياسة البلاد تجعل الرئيس إيمانويل ماكرون متواطئا في جرائم حرب.
وقالت امرأة فرنسية أضربت عن الطعام في مخيم روج وطلبت عدم نشر اسمها لأنها تقول إنها تلقت تهديدات بالقتل من عناصر داعش الذين يعارضون عودتها إلى فرنسا، إنه لا توجد مياه جارية في المخيّم وإن الكثير من الناس هناك يعانون من مشاكل في الجهاز التنفسي، بينما يظل من الصعب جدا رؤية الأطباء والحصول على أدوية، مضيفة أن مواطناتها الفرنسيات في المخيّم يرغبن في العودة إلى فرنسا والخضوع للمحاكمة وتمضية عقوبة السجن إن لزم الأمر.
ويعتبر جوسي تانر الدبلوماسي الفنلندي والمسؤول عن برنامج إعادة مواطنيه الذين انتموا لداعش خارج البلاد، إنّ السؤال ليس إن كانت إعادة النساء والأطفال ستحدث أم لا، ولكن متى وكيف ستحدث، قائلا “إعادة هؤلاء إلى أوطانهم في أسرع وقت أفضل حتى من وجهة نظر أمنية”، مؤكّدا أنه “يمكن تركهم هناك، لكنهم سيعودون على أي حال”.
المصدر : العرب اللندنية