كريتر نت – لندن
تزداد يوما بعد يوم الضغوط الداخلية والخارجية على كبرى شركات النفط في العالم للعمل بجدية على الحد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون واتخاذ خطوات محددة وواضحة لمكافحة التغير المناخي في المستقبل.
يسابق دعاة حماية البيئة الزمن لحماية كوكب الأرض من كوارث طبيعية ومناخية سببها الأساسي عمليات التنقيب الواسعة عن النفط والغاز، والتي استنزفت الكثير خلال العقود الماضية وتسببت في المساهمة في ازدياد درجات الحرارة وتغيرات كبيرة على المناخ والبيئة.
وسيجبر أول حكم قضائي من نوعه في أوروبا شركات النفط الغربية على المضي قدما في خطط الحد من الانبعاثات والعمل على اتخاذ خطوات لمكافحة التغير المناخي.
ولم يكن هذا الحكم القضائي الوحيد في ظل وجود ضغوطات من المستثمرين داخل عمالقة شركات النفط لاتخاذ خطوات ملموسة واستباقية لخفض الانبعاثات والتفكير في استثمارات لا تجلب شكاوى إضافية من دعاة حماية البيئة والحكومات أيضا.
ولا تبدو الشركات الغربية قريبة من التخلي عن عمليات التنقيب عن النفط والغاز، لكنها مجبرة على البحث عن حلول تجنب الأرض الكثير من الكوارث. ويتهم نشطاء عمالقة النفط باللامبالاة لدعوات متواصلة منذ سنوات تجاه العمل على حماية البيئة والمساعدة على الحد من التغيرات المناخية.
وقضت محكمة هولندية بأن شركة شل مسؤولة بشكل جزئي عن تغير المناخ وأمرت المجموعة جنبا إلى جنب مع مورديها وعملائها بخفض انبعاثات الكربون بنسبة 45 في المئة بحلول العام 2030 عن مستويات 2019.
مركز ستراتفور للدراسات والأبحاث الجيوسياسية: شركات النفط ستضع المزيد من الخطط لخفض الانبعاثات بحلول عام 2030 ضمن خطوات أكثر استباقية بشأن تغير المناخ
صحيح أن شركة شل يمكنها الاستئناف على الحكم القضائي الهولندي ويمكن استخدامه كسابقة في الدول الغربية في حالات مماثلة، لكنه أيضا سيجبر شركات النفط على اتخاذ المزيد من الخطوات للحد من الانبعاثات، حتى لو كان ذلك يقلل من ربحيتها على المدى القصير.
ويتوقع مركز ستراتفور للدراسات والأبحاث الجيوسياسية الإستراتيجية أن تدفع الضغوط القضائية وأخرى من داخل شركات النفط إلى دفع تلك الشركات على التوجه نحو الطاقة المتجددة وتعزيز الاستثمارات في التقنيات المحايدة للكربون.
ويرى مركز الأبحاث الأميركي أن هذا التوجه تدعمه خسارة شركات إكسون موبيل وشيفرون ورويال داتش شل، وهي أكبر ثلاث شركات غربية للنفط والغاز، قضايا قانونية وأصوات المساهمين.
ويؤكد في تقرير جديد أن تلك الإجراءات ستجبر الشركات على اتباع نهج أكثر صرامة لخفض الانبعاثات في مشاريعها النفطية المختلفة.
ويعكس الحكم القضائي الهولندي تحولا في إستراتيجيات التقاضي بشأن تغير المناخ في السنوات الأخيرة، حيث يبدو الآن أن حجج حقوق الإنسان وحماية المستهلك التي تركز على تصريحات الشركات الكاذبة أو المضللة بشأن تأثير تغير المناخ تحقق نجاحا.
وسيضع الحكم القضائي إشعارا لشركات النفط بأنها قد تضطر قانونيا إلى اتخاذ تدابير أكثر صرامة بشأن تغير المناخ إذا لم تفعل ذلك بنفسها. ويمثل هذا الحكم أول أمر يجبر شركة نفط وغاز كبرى على تغيير عملياتها بطريقة وقائية لمكافحة مخاطر المناخ في المستقبل.
ضغوطات من الداخل
حكم قضائي هولندي يشكل تحولا في إستراتيجيات التقاضي بشأن تغير المناخ في السنوات الأخيرة، حيث يبدو الآن أن حجج حقوق الإنسان وحماية المستهلك تحقق نجاحا
يواجه عمالقة النفط ضغوطات على أكثر من صعيد للعمل على الحد من الانبعاثات والمساهمة في الحفاظ على البيئة ومكافحة التغير المناخي.
وجادل محامو منظمة “أصدقاء الأرض” البيئية، التي تتخذ من أمستردام مقرا لها، بأن شركة شل تنتهك حقوق الإنسان من خلال عمليات النفط والغاز والتكرير مما يقوض أهداف اتفاقية باريس لعام 2015 الخاصة بخفض معدل النمو في درجات الحرارة العالمية.
وأيدت المحكمة الهولندية حجة المنظمة إلى حد كبير، قائلة إن على شركة شل واجب العناية بخفض انبعاثاتها وأن خطتها الحالية لم تحقق ما فيه الكفاية.
ويرى مركز ستراتفور أن مطالبة شركة شل باتخاذ إجراءات وقائية تتناقض مع الدعاوى القضائية المتعلقة بالمناخ والبيئة، والتي ركزت إلى حد كبير على الأضرار العقابية الناتجة عن تأثير إنتاج النفط والغاز (مثل الانسكابات النفطية).
وكانت المحكمة الدستورية العليا الألمانية قد اتخذت في حكم تاريخي في أبريل 2021 موقفا مماثلا للمحكمة الهولندية عندما قضت بأن قانون حماية المناخ في البلاد تصرف ببطء شديد في معالجة تغير المناخ بحجة أنه يهدد حقوق صغار السن في عيش مستقبل إنساني أفضل.
وعلى الرغم من أن زاوية حقوق الإنسان تشهد الآن بعض النجاح، إلا أن هذه الحجج فشلت في كسب قضايا أخرى. وفي يناير 2021 على سبيل المثال رفضت المحكمة العليا النرويجية قضية جادلت فيها مجموعات بيئية بأن التنقيب عن النفط والغاز في القطب الشمالي ينتهك حقا دستوريا في بيئة صحية.
ويلاحظ مساهمون ومؤسسات مالية المخاطر القانونية والهجوم الأكثر صرامة لدفع شركات النفط إلى اتباع نهج أكثر استباقية تجاه تغير المناخ، حيث ضغطت الحكومات الأوروبية بشدة بشأن تغير المناخ على شركات النفط الأوروبية لتقديم التزامات أكثر صرامة مقارنة بنظيراتها في الولايات المتحدة.
ويرى مركز ستراتفور أن عملاقي النفط الأميركيين شيفرون وإكسون موبيل لم يحددا أهدافا للتقليل من الانبعاثات، وذلك عكس شركات “بي.بي” وإيني وإنكوينور وريبسول وشل وتوتال في أوروبا.
ويعتبر المركز أن هذا الأمر قد يتغير قريبا في ظل ضغوطات من المساهمين والمستثمرين والمؤسسات المالية داخل الشركتين الأميركيتين لسد الفجوة، حتى لو ظلت البيئة التنظيمية والالتزامات الحكومية في أميركا الشمالية أكثر ملاءمة وموافقة لصناعة النفط والغاز من تلك الموجودة في أوروبا.
وكان الرئيس التنفيذي لشركة إكسون موبيل دارين وودز صريحا في معارضة الدعوات التي تطالب الشركة باتخاذ موقف قوي بشأن تغير المناخ. ويرى مركز الأبحاث أن هذا الأمر قد يتغير في ظل تمرد المساهمين الذي قد يقود إكسون موبيل إلى اتخاذ المزيد من الإجراءات لتقليل الأثر البيئي لعملياتها، وقد يجبر وودز على ترك منصبه.
وصوت مساهمو إكسون موبيل لتعيين ما لا يقل عن عضوين جديدين معارضيْن في مجلس إدارة الشركة المكون من 12 عضوًا. وكانت هذه ضربة كبيرة للقيادة الحالية للشركة بعد أن ضغطت بشدة على المستثمرين للتصويت ضد الاقتراح الذي قدمه مستثمر ناشط صغير انتقد إستراتيجية أعمال إكسون موبيل المتعلقة بتغير المناخ.
كما صوَّت مساهمو شيفرون بالأغلبية لخفض ما يسمى بانبعاثات الكربون المنتجة في جميع أنحاء السلسلة الكاملة للشركة، بما في ذلك تلك المنبعثة من مورديها وعملائها.
ويمتلك المستثمر الذي اقترح في البداية تعيين أعضاء جدد واعين بالمناخ في مجلس إدارة إكسون موبيل 54 مليون دولار فقط من الأسهم في الشركة، التي تبلغ قيمتها حوالي 250 مليار دولار. لكن محاولاته نجحت بالرغم من ذلك بفضل الدعم الذي حصل عليه أيضاً من بعض أكبر مساهمي إكسون موبيل، بما في ذلك شركة بلاك روك.
خطط مستقبلية
يرى مركز ستراتفور أن شركات النفط والغاز ستضع المزيد من الخطط الملموسة حول كيفية خفض الانبعاثات بشكل كبير بحلول عام 2030 ضمن مواقف أكثر استباقية بشأن تغير المناخ.
وكانت شركة بريتيش بتروليوم قد أعلنت في أغسطس الماضي أنها ستخفض إنتاجها من النفط والغاز بنسبة 40 في المئة بحلول العام 2030، وستوقف أنشطة الاستكشاف في الدول التي لا تعمل فيها حاليا.
ويعتبر مركز الأبحاث أن هذه الخطة ربما تكون طموحة جدا بالنسبة إلى الشركات الكبرى الأخرى، إلا أن خطة شركة بريتيش بتروليوم لخفض الإنتاج بوتيرة متسارعة قد تكون نذيرا لما يتعين على شركات النفط والغاز القيام به لتحقيق أهداف مناخية جديدة.
ويرى أنه في حال لم يتم استئناف حكم المحكمة الهولندية الأخير، فستحتاج شل إلى اتباع خطى شركة بريتيش بتروليوم المتمثلة في التخلص من الإنتاج والأصول بشكل كبير من أجل خفض انبعاثاتها بنسبة 45 في المئة بحلول العام 2030.
ويتوقع المركز في حال أجبر المساهمون أيضا إكسون موبيل وشيفرون على اتخاذ خطوات نحو الحد من الانبعاثات، فمن المحتمل أن تضطر كلتا الشركتين إلى زيادة مبيعات أصولهما وتقليل الإنفاق الرأسمالي على المشاريع الجديدة من أجل تقليل الإنتاج الكلي.
الزخم المتزايد وراء تعريفات الكربون والضرائب والأشكال الأخرى لتسعير الكربون في الولايات المتحدة وأوروبا عوامل ستزيد الضغط على المنتجات المصنوعة في أماكن أخرى
وتطالب الوكالة الدولية للطاقة دول العالم إلى عدم القيام بأي مشروع تنقيب جديد الآن بهدف إبقاء الاحترار المناخي تحت السيطرة.
وتعتبر وكالة الطاقة أن “الانخفاض السريع في الطلب يعني أنه لا توجد حاجة إلى التنقيب ولا توجد حاجة إلى حقول جديدة للنفط والغاز غير تلك التي تمت الموافقة عليها سلفا”.
وتحدد الوكالة تغير المناخ بالالتزامات القصوى لمنتجي النفط والغاز حول العالم من أجل الوصول إلى صافي انبعاثات الكربون العالمية بحلول عام 2050 بما في ذلك وقف الاستثمار في أي مشاريع جديدة.
لكن مركز ستراتفور يرى أن “متطلبات وكالة الطاقة الدولية الطموحة ليست مستساغة على المستوى السياسي بالنسبة إلى معظم الحكومات، وستتطلب عمل تحولات كبيرة في السياسة المتعلقة بالموافقة على مشاريع النفط والغاز الجديدة”.
ويتوقع المركز أن تتحول شركات النفط والغاز إلى المزيد من الاستثمارات نحو الغاز الطبيعي والموارد الأقل كثافة في الانبعاثات من أجل تحقيق أهداف خفض الكربون الجديدة.
ويرى أن الشركات ستشعر من وراء تلك الإجراءات بالقلق بشأن كيفية تأثير المشاريع الجديدة على توقعات الانبعاثات طويلة الأجل، وذلك بالنظر إلى أن مشاريع النفط والغاز تميل بطبيعتها إلى الاستمرار لعدة عقود وهو ما يرجح إبطاء النفقات الرأسمالية على المشاريع التي تحتوي على نسبة عالية من الكربون.
ويؤكد المركز الأميركي أن التحول نحو الاستثمارات الأقل كثافة في الانبعاثات سيكون مؤلما من الناحية المالية لشركات النفط. كما يتوقع أن تضطر الشركات إلى التحول نحو التقنيات الخضراء وتقليل انبعاثات الكربون والاستمرار في الإنفاق على مشاريع الوقود الأحفوري من أجل الحفاظ على الإنتاج بشكل كاف.
أداء سيء
تمكنت الشركات الأميركية الكبرى من النجاة من تداعيات أزمة كورونا العالمية بشكل أفضل بكثير من نظيراتها الأوروبية. وقد يرجع هذا الأمر بشكل جزئي إلى تركيز تلك الشركات على النفط والغاز.
ومنذ ظهور الوباء أوائل العام 2020 ارتفعت أسعار أسهم إكسون موبيل وشيفرون بنحو 60 في المئة و50 في المئة على التوالي. وفي الوقت نفسه ارتفعت أسعار أسهم إيني وتوتال وشل و”بي.بي” بأقل من 25 في المئة خلال نفس الفترة.
ويرى مركز ستراتفور للأبحاث الإستراتيجية أن هناك أسبابا مختلفة وراء الأداء السيء للشركات الأوروبية خلافا لأداء نظيراتها الأميركية خلال العام الماضي بما في ذلك مستوى الإغلاق في أسواقها الأولية.
وبالمقارنة مع نظيراتها الأوروبية فإن شركة بريتيش بتروليوم هي الوحيدة التي لا يزال سعر سهمها أقل من مستويات ما قبل الوباء، والذي يرجع إلى رد الفعل العنيف من المستثمرين بشأن إصلاح الأعمال التي تركز على المناخ، والتي أعلنت عنها الشركة في أغسطس 2020.
ويتوقع أن تكون شركات النفط والغاز الحكومية في الدول غير الغربية هي المستفيدة من عمليات البيع القادمة للأصول الأميركية والأوروبية، لكن حتى هؤلاء لن يكونوا محصنين من المخاطر خاصة أن عملاءهم أصبحوا أكثر وعيا بالبصمة الكربونية للمنتجات.
ويوضح مركز ستراتفور أن عمليات سحب الاستثمارات من قبل الشركات الغربية لن يؤدي إلا إلى تحويل إنتاج الكربون من شركة إلى أخرى.
ويرى أن عمليات شراء الأصول من قبل شركات مثل أرامكو السعودية وشركة النفط والغاز الطبيعي الهندية وشركة بتروليس ميكسيكانوس إلى جانب شركة سينوبك الصينية والمؤسسة الصينية الوطنية للنفط البحري ستجعلها تستفيد من المكاسب غير المتوقعة المرتبطة بانخفاض إنتاج النفط العالمي وارتفاع الأسعار.
وينظر إلى المنتجات كثيفة الكربون على أنها ستواجه صعوبات في الأسواق مستقبلا في ظل شعور الشركات بالقلق المتزايد بشأن انبعاثاتها وتأثيرها على تغير المناخ.
بلا كربون
يعد الزخم المتزايد وراء تعريفات الكربون والضرائب والأشكال الأخرى لتسعير الكربون في الولايات المتحدة وأوروبا عوامل ستزيد الضغط على المنتجات المصنوعة في أماكن أخرى.
وكان البرلمان الأوروبي قد دعم في مارس الماضي آلية تعديل حدود الكربون اعتبارا من العام 2023، والتي ستفرض تعريفات جمركية على الواردات كثيفة الكربون.
وستدفع المخاوف المتزايدة لدى الشركات الغربية بشأن الانبعاثات إلى زيادة دعمها لمنتجات النفط والغاز الطبيعي المسال التي لا تحتوي على انبعاثات كربونية، فضلا عن عمليات التبادل المصممة لدعم موازنة الانبعاثات.
وبدأت شركات النفط والغاز بالفعل في زيادة الاستثمارات في برامج احتجاز الكربون وتخزينه، لكن الشركات في الصناعات كثيفة الكربون بشكل عام ستبدأ أيضا في البحث عن طرق لتعويض انبعاثاتها من أجل تحقيق أهداف صافي الصفر وتجنب ضرائب الكربون في بعض الولايات القضائية.
وعملت شركات نفطية على تقديم شحنات النفط والغاز الطبيعي المسال “المحايدة للكربون”، حيث يتم تعويض الانبعاثات عن طريق شراء الحلول القائمة على الطبيعة مثل الاستثمارات في مشاريع إعادة التحريج.
وظهرت في الآونة الأخيرة أسواق مالية لتجارة المنتجات التي تعوض الانبعاثات، مما سيمكن أصحاب المصلحة في المشاريع الخضراء مثل إعادة التحريج من العثور على المزيد من مصادر الاستثمار والمكاسب المالية غير المتوقعة.
وكانت شركة إكسون موبيل قد اقترحت برنامجا في أبريل لاحتجاز الكربون بقيمة 100 مليار دولار في هيوستن من شأنه تخزين ثاني أكسيد الكربون في خزانات المياه المالحة البحرية في خليج المكسيك.
وسيتم إنشاء سوق “كلايميت إمباكت إكس” العالمي الجديد في سنغافورة بحلول نهاية عام 2021 وسيركز في البداية على تسييل الحلول القائمة على الطبيعة وإنشاء أرصدة الكربون منها. ومنذ بيع أول شحنة غاز طبيعي مسال خالية من الكربون في العالم في عام 2019، بدأ عدد من الشركات في الإعلان عن بيع هذه الشحنات.
وفي مارس أعلنت شركة شل أنها تسلمت أول شحنة غاز طبيعي مسال خالية من الكربون في أوروبا. وفي يناير أعلنت شركة أوكسيدنتال بتروليوم كوربوريشن ومقرها تكساس أنها سلمت أول شحنة نفط محايدة الكربون في العالم إلى شركة ريلاينس إندستريز الهندية.
المصدر : العرب اللندنية