كتب : محمد علي محسن
ليلة رمضانية ، بلا هاتف ، بلا أصدقاء ، بلا أخبار الصاروخ الصيني ، بلا رسائل الواتساب ، بلا شاشة تليفزيون ، بلا ضوء الكهرباء .
يا الله كيف للواحد أن يحتفي بليلة هي أشبه بحكايات الإنسان القديم حين كان يقطن الكهف ولا يعرف من الدنيا غير مسافة بصره ؟.
وكيف أن ساعات الليلة مضت كئيبة موحشة ؟ وكيف انني عدتُ من عصر الذرة والنبضة الإلكترونية إلى زمن سحيق خيل لي أنه الحجري أو البرونزي ؟؟ .
الهاتف المحمول لم يعد وسيلة تواصل بالمعنى الحرفي الكلاسيكي للكلمة ، وإنما بات صديقك الحميم ، شقيقك الذي لم تلده أمُّك ، ولدك القريب ، أهلك ، فرحك ، حزنك ، ذاكرتك حافظة أسرارك وصورك وديونك ، وجهك الجميل والقبيح ، عملك ، حضورك في الحياة ، احلامك ، حنينك واشتياقك ووووالخ .
إنَّه وبكلمة وجيزة عالمك الذي يستحيل أن تكون كائنًا حيًا بدونه ، فهذا الرقيب العتيد هو أخر من يودعك عند نومك ، وأول من يوقظك ويصافحك مبشرًا بيوم جديد .
ذات يوم فقدت هاتفي في سوق المدينة ، فكم كان حزني عليه شديدًا ؟ كأنَّني فقدت شخصًا عزيزًا وقريبًا ، فتلك اللحظات المشؤومة لم تبرح ذاكرتي ولهذه اللحظة ، فرغم مواساة زملائي لي ، وكذلك تبرع أحدهم بهاتفه الحديث والأغلأ ثمنًا ، إلَّا أن مأساتي ظلت جاثمة على صدري .
فلم تنزاح عني تلك الكآبة سواء في اليوم الثالث ، عندما اتصل لي سفيان الشاعري رحمه الله والذي أبلغني بوجود هاتفي لديه ، إذ كان بائعه قد ضاقت به السبل عن بيعه أو تشغيله بسبب نظام الهاتف ، فقام ببيعه لموظف الاتصالات بخمسة الف ريال .
تكررت معي المأساة ولكن هذه المرة بشكل أقل وطأة من الفقدان ، إذ اضطررت مجبرًا لتسليم هاتفي لمهندس سفري من عينة هذه الأيام ، كي يستبدل بطاريته .
أصدقكم أنني لم أعتد مثل هذا الفراق ، فساعات الليلة الرمضانية مضت رتيبة كئيبة ، كأنَّني شخص أخر لا أعرفه ، وكأنَّ الزمن قذف بي من مكان شاهق إلى بقعة غريبة نكرة ، فكل شيء في محيطي بلا قيمة ، بلا طعم ، بلا معنى .
لأول مرة أجدني مولعًا بشيء ولحد الهوس الذهني الذي يستبد بصاحبه ويجعله أسيرًا لفكرة ما استولت على جل تفكيره .
وأنا كذلك حين فارقت حبيب قلبي ولساعات يوم كاملة ، نعم اكتشفت كم أنني صرت مدمنًا مولعًا بهذا الكائن الرفيق لي وأين ذهبت أو حللت ؟ .
لقد صرت وأياه شخصًا واحدًا ، وإن كنَّا بوجهين ونبضين وذاكرتين .. والله لا أراكم فقدًا ، فيكفيكم فقدان وطنكم .