كريتر نت – باريس
تبقى المراكز الدينية والثقافية منصات مهمة لاختراق المجتمعات الأوروبية والتأثير بعمق في هوية أفرادها ومحددات انتماءاتهم الأيديولوجية ومن ثمة تجنيدهم في أعمال إرهابية محتملة ذات دوافع عقائدية أو سياسية داخل مجتمعاتهم المحلية. وللإسلاميين السنّة بمختلف تفريعاتهم كم هائل من هذه المنصات التي توفر الحواضن الفكرية للتدرج الإرهابي، إلا أن الإسلاميين الشيعة كذلك لهم نفس التمشي والغايات.
ويغفل النقاش العام في جميع أنحاء القارة الأوروبية جانبا رئيسا من التحدي الإسلامي من خلال التركيز فقط على عنصره السنّي، وتجاهل المؤسسات الشيعية التي تمثل منصات أيديولوجية لترويج التطرف الإسلامي الشيعي الذي لا يقل خطورة عن نظيره السنّي.
وتسمح هذه المؤسسات بالتأثير العميق على السكان المسلمين الشيعة في القارة، فضلًا عن التقرب إلى السنة الساخطين، وحتى غير المسلمين الأوروبيين الذين ينجذبون إلى لغة التطرف المعادي للغرب ومواقفه.
وفي أعقاب الهجمات الإرهابية في فرنسا والنمسا، تحوّل الخطاب في أوروبا بشكل متنامٍ إلى طرح سؤال رئيسي حول ما الذي يمكن فعله لمراقبة وكبح أولئك الذين يحرِّضون على مثل هذه الهجمات من خلال إرساء الأساس الأيديولوجي له. وبما أن هذه الهجمات نفذها تنظيم داعش أو متعاطفون معه، فقد انصبّ معظمُ التركيز على تلك المراكز الدينية والمساجد السنية التي ساعدت الإرهابيين بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولئن اقترنت أغلب الهجمات الإرهابية التي أدمت أوروبا بالإسلاميين المتطرفين السنّة بمختلف تياراتهم سواء كانوا من الإخوان المسلمين أو السلفيين الجهاديين، فإن تغلغل الأيديولوجيا المتطرفة الشيعية داخل المجتمعات الأوروبية تمثل لبنة أولى للهجمات الإرهابية التي تستمد دوافعها الأولى من الحواضن الفكرية.
دور مشبوه في فرنسا
كريستوف كاستانير: أنشطة جمعية الزهراء الشيعية الإسلامية تضفي شرعية بانتظام على الجهاد المسلح
رغم أن مكتب شؤون الشرق الأدنى في الخارجية الأميركية اعتبر السبت الماضي في تغريدة على تويتر، أن مؤسسة الخوئي “منظمة خيرية وتعليمية دولية تقوم بعمل جيد منذ إنشائها في عام 1989”، إلا أن مركز “ألما” الإسرائيلي للأبحاث حذر في تقرير له من أن تكون هذه المؤسسة إلى جانب جمعية الغدير الشيعية منصات محتملة لنشر الأيديولوجية الشيعية المتطرفة في فرنسا، ما يمثل خطرا محتملا على التربة الأوروبية بأسرها.
وجاء في تقرير مركز “ألما” بأن منظمة “أهل البيت”، التي أسسها مرشد إيران علي خامنئي عام 1989. هي منظمة غير حكومية إيرانية نشطة دوليا، تعمل كهيكل جامع لشبكات من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية المدعومة من إيران والمكلفة بنشر الخمينية في جميع أنحاء العالم.
والمجمع العالمي لأهل البيت هو منظمة غير حكومية إيرانية نشطة دوليا، تعمل كهيكل جامع لشبكات من المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية المدعومة من إيران والمكلفة بنشر الخمينية في جميع أنحاء العالم.
ويعتبر هذا المجمع من الناحية الوظيفية حلقة الوصل بين المؤسسة الدينية الشيعية الإيرانية، ورجال الدين الشيعة الأجانب، كما أنه يربط المجتمعات الشيعية في جميع أنحاء العالم ببعضها البعض. ويقوم المجمع بدور إداري، حيث ينسق العلاقات مع الفروع المحلية والمنظمات الدينية والثقافية المنتسبة في جميع أنحاء العالم.
ويقول مراقبون إن مراكز الثقافة والمجتمعات الاجتماعية الشيعية في فرنسا تنتج نفوذاً طائفياً بتوجيه من المحور الشيعي الراديكالي. وهو ما يخلق منبرًا محتملاً للنشاط الإرهابي على الأراضي الأوروبية.
وفي سبتمبر 2020 حققت السلطات الفرنسية مع مسؤولين سابقين في جمعية الزهراء الشيعية التي أغلقتها السلطات في 2018 وجمدت أرصدتها بسبب تورطها في أنشطة إرهابية.
وذكر مصدر قضائي آنذاك أن أربعة مسؤولين سابقين في “مركز الزهراء بفرنسا” في غراند سانت (شمال) قيد التحقيق لدى الشرطة للاشتباه في استمرارهم بممارسة نشاط في هذا الموقع رغم حل هذه الجمعية للمسلمين الشيعة.
وقالت النيابة حينها إنّ المسؤولين الأربعة السابقين الذين اعتقلوا واصلوا على ما يبدو “نشاطات مثل خطب ولقاءات دعوية” في الموقع أو على شبكات التواصل الاجتماعي. وكانت السلطات الفرنسية حلّت في مارس 2019 الجمعية. وأدان وزير الداخلية آنذاك كريستوف كاستانير نشاطاتها “التي تضفي شرعية بانتظام على الجهاد المسلح”.
محللون أمنيون يحذرون من مغبة التقاعس في مراقبة وتتبع المنصات الإسلامية الشيعية رغم أنه لا يوجد أي دليل ملموس حتى الآن على تورطها بطريقة مباشرة في تنفيذ أعمال إرهابية
كما أشارت محكمة ليل الإدارية إلى “الدعاية التي تهدف إلى تمجيد الكفاح المسلح وإثارة الكراهية والعنف من خلال نقل رسائل معادية للسامية، ما يمكن أن يؤدي إلى خطر ارتكاب أعمال إرهابية”.
واستهدف مقر الزهراء في غراند سانت في الثاني من أكتوبر 2018 بعملية لمكافحة الإرهاب. وأدت عمليات التفتيش الإداري إلى اكتشاف أسلحة نارية تمت حيازتها بطريقة غير مشروعة.
وكانت السلطات الفرنسية قد أصدرت رسميا في أكتوبر 2018 أمرا بإغلاق مركز جمعية الزهراء الشيعي لمدة 6 أشهر وتجميد أصوله على إثر المداهمة الأمنية ومصادرة أسلحة.
ونفذت الشرطة الفرنسية حينها عملية مداهمة واسعة شارك فيها نحو 200 شرطي لمكافحة الإرهاب وصادرت أسلحة غير مرخصة كما داهمت منازل المشرفين على الجمعية واعتقل في العملية عدة أشخاص.
وكشفت شرطة منطقة غراند سانت حينها أنها كانت “تراقب نشاطات هذه الجمعية، بسبب الدعم الذي يقدمه المشرفون عليها لجماعات إرهابية ولحركات تروج لأفكار المعادية لمبادئ الجمهورية”.
وكانت صحيفة لوفيغارو قد نقلت عن مدير شرطة منطقة غراند سانت قوله إنه قرر غلق الجمعية الشيعية بتهمة نشر الإسلام الشيعي المتطرف في أوروبا. وتشتبه السلطات الفرنسية بأن الجمعية “تشرعن الإرهاب” و”تمجد حركات متهمة بالإرهاب” على غرار حركة حماس وحزب الله المدعومين من إيران.
وتأسست جمعية الزهراء الإسلامية الشيعية في العام 2005 والتي كانت تغطي نشاطات نشر الإسلام الشيعي المتطرف والتحريض على العنف تحت ستار الأنشطة الاجتماعية والفعاليات الدينية.
وتُمثل محاولة الهجوم على مؤتمر للمعارضة الإيرانية التابعة لحركة مجاهدي خلق- المصنفة إرهابية بطهران – في باريس عام 2018، والتي تورطت بها الاستخبارات الإيرانية عبر دبلوماسيين سابقين وعملاء نقطة تحول في تعامل المسؤولين الفرنسيين مع المراكز الشيعية التي أرادت لها إيران أن تكون قوة ناعمة لاختراق البلاد ومن ثم تأهيل المناسبين لتنفيذ عمليات تفجير إذا ما احتاجت السلطة إلى ذلك، إذ كشفت تحقيقات الواقعة عن العثور على سيارة متفجرات كان من المفترض تسليمها للدبلوماسي الإيراني أسدالله أسدي لتصفية معارضي النظام الإيراني.
وفسرت السلطات الفرنسية تلك الواقعة بوجود سيولة في الاتصالات والتمويل بين طهران وعملائها في الداخل الأوروبي، لاسيما المراكز الثقافية.
ويشكل انتشار التطرف عبر الجمعيات الشيعية التي تتخفى كنظيرتها الإسلامية السنية تحت عباءة العمل الخيري والجمعياتي تهديدا للتماسك الاجتماعي الأوروبي. ومن هناك يحذر محللون من مغبة التقاعس في مراقبة هذه الجمعيات الشيعية رغم أنه لا يوجد أي دليل ملموس حتى الآن على تورطها بطريقة مباشرة في أعمال إرهابية.
شبكة أوروبية معقدة
تنتشر الجمعيات والمساجد الشيعية تقريبا في كامل أنحاء القارة العجوز من فرنسا إلى ألمانيا وإيطاليا والنمسا والمملكة المتحدة والبلدان الأسكندنافية وهي تتمتع بترابط وثيق في ما بينها وتخدم نفس الأجندات والأيديولوجيا الإسلامية المتطرفة بدعم مالي قوي من إيران الدولة الأم الراعية لهذه الأجندات وحتى بتمويل أوروبي محلي أيضا.
وتعتمد هذه الجمعيات المترابطة على التخفي والتظاهر باحترام قيم الديمقراطية الغربية للتغلغل داخل هذه المجتمعات وتكوين مجتمعات موازية لا يستبعد محللون أن يوكل إليها بعد اختراقها فكريا وعقائديا مهام أخرى على رأسها التحريض على هجمات إرهابية أو المشاركة فيها.
وفي ألمانيا يوجد عدد من المؤسسات والجمعيات الشيعية ينتشر في أغلب مدنها؛ ومن أهمها جمعية الطالب الإسلامية بإيسن، ومعهد التعليم الإسلامي بهامبورغ، ومؤسسة تراث أهل البيت ببرلين.
وذكر تقرير هيئة حماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) لعام 2018، الصادر صيف 2019، أن “المركز الإسلامي في هامبورغ أسس شبكة واسعة في عموم الأراضي الألمانية، تمارس نفوذاً كبيراً على الجاليات الشيعية المنحدرة من جنسيات مختلفة إلى حد يصل إلى السيطرة الكاملة”. وقالت الحكومة الفيدرالية في مذكرة بعثتها إلى البرلمان في 21 أغسطس “إن محتوى رسائل وخطب المركز الإسلامي الشيعي في هامبورغ يعد ثمرة للاتصالات مع إيران التي تعمل لتصدير ثورتها، وهذا يتعارض مع الدستور الألماني والنظام الديمقراطي”.
ويعد المركز أحد أهم أركان منظمة المجتمع الإسلامي للمنظمات الشيعية في ألمانيا التي تأسست في ألمانيا في 1999. وجاء في مذكرة الحكومة إلى البرلمان أن “المنظمات والمساجد الألمانية التي تخضع للنفوذ الإيراني، تعمل نظرياً تحت مظلة المجتمع الإسلامي للمنظمات الشيعية، لكن المركز في هامبورغ هو المحرك الأساسي لها”.
ووفق موقع “غوته” الألماني، فإن منظمة المجتمع الإسلامي للمنظمات الشيعية حصلت على تمويل من الاتحاد الأوروبي في 2019، بلغ 137 ألف يورو، فيما بلغ حجم التمويلات الألمانية لها في الفترة بين 2016 و2019 ما يقارب 120 ألف يورو.
مراكز الثقافة والمجتمعات الاجتماعية الشيعية في فرنسا تنتج نفوذاً طائفياً بتوجيه من المحور الشيعي الراديكالي
ووسّعت إيران شبكتها في أوروبا انطلاقاً من الأراضي الألمانية، حيث أسست في أكتوبر 2015، حسينية في العاصمة الدنماركية وتخضع مباشرة للمركز الإسلامي في هامبورغ. وتبقى المراكز الدينية والثقافية متغيرات مهمة لاختراق المجتمع والتأثير بعمق في هوية أفراده ومحددات انتماءاتهم السياسية والأيديولوجية.
ويبلغ عدد المسلمين في ألمانيا حوالي 4.7 مليون نسمة، طبقًا لإحصائيات وزارة الداخلية، يشكل معتنقو المذهب السني منهم الأغلبية بنسبة 75 في المئة، بينما يمثل الشيعة حوالي 7 في المئة، والعلويون 13 في المئة، وعلى الرغم من قلة أعدادهم فإن الجهود المبذولة لاحتواء هذه الطائفة كبيرة وتؤثر اضطراديًا على الأعداد المنتمية لها.
وتختلف إستراتيجية التوغل الإيراني في بلجيكا عن جيرانها الأوروبيين، فالنفاذ عبر الأساليب الناعمة كالمراكز الثقافية والمساجد وتوسيع عدد الناطقين بالفارسية لا يزال في طور المقدمات الأيديولوجية التي يفوقها التجنيد الإرهابي المباشر وعمليات التمويل غير المشروع، إذ جندت المنظمات الشيعية التابعة ماليا وعقائديا لإيران انتحاريين لتفجير اجتماع للمعارضة الإيرانية في باريس انطلاقا من بروكسل.
وفي إيطاليا أيضا، هناك خطر حقيقي من أن تتحوّل العناصر المتطرفة التابعة للطائفة الشيعية في إيطاليا إلى التطرف العنيف، هذا الاحتمال مدعوم فقط من قبل الدعاية الراديكالية للدعاة في إيطاليا، فعلى الرغم من أنّه من غير المحتمل أن يشكل هذا تهديداً مباشراً للأمن القومي، إلا أنه قد يُحفّز المهاجرين الشيعة على مضاعفة نشاطهم في تقديم الدعم، اللوجستيّ أو الماليّ، للجماعات الإرهابيّة الأجنبيّة، أو حتى أن يصبحوا مقاتلين أجانب.
ومن غير الواضح في هذه المرحلة ما إذا كانت الدعاية الشيعية المتطرفة في إيطاليا قد أدّت إلى تطرف أي عضو في المجتمع إلى حد الانضمام إلى الجماعات المسلحة أو حتى القتال في الخارج. ومع ذلك، تنشط الأجهزة الإيرانية في إيطاليا، حيث نفذت عمليات سرية وهجمات إرهابية واغتيالات. وعلى مدار العقود القليلة الماضية، شهدت إيطاليا سلسلة من الهجمات من قبل المقاتلين الشيعة.
المصدر : العرب اللندنية