كتب – د. محمد علي السقاف
في نهاية ولايته كأمين عام للأمم المتحدة 1992 – 1996 نشر الدكتور بطرس بطرس غالي، أول أمين عام عربي وأفريقي شغل ذلك المنصب الرفيع، كتاباً عن تجربته في الأمم المتحدة سماه «5 سنوات في بيت من زجاج»، وكان الدكتور بطرس غالي من القلائل من أمناء الأمم المتحدة الذين لم يحظوا بتجديد ولايتهم لدورة ثانية بسبب اعتراض الولايات المتحدة على ذلك.
وكاد أنطونيو غوتيريش يمتنع عن ترشيح نفسه لولاية ثانية عند نهاية مدته في ديسمبر (كانون الأول) 2021 لو أعيد انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة بسبب سياسة الرئيس الأميركي المشجعة على الأحادية في العلاقات الدولية مما يعرقل ذلك عمل الأمين العام، إضافة إلى قرارات الرئيس السابق انسحاب الولايات المتحدة من عضوية عدد من هيئات الأمم المتحدة كمنظمة الصحة العالمية.
ولذلك لم يكن مفاجئاً بعد ظهور نتائج الانتخابات الأميركية بفوز الرئيس جو بايدن أن أعلن غوتيريش ترشحه لولاية ثانية من 5 سنوات أميناً عاماً للمنظمة الدولية خلال الفترة الممتدة من يناير (كانون الثاني) 2022 حتى ديسمبر 2026.
فقد أعلن الناطق باسم الأمين العام ستيفان دوجاريك أن غوتيريش أبلغ رئاسة الجمعية العامة ومجلس الأمن «أنه مستعد لولاية ثانية أميناً عاماً للأمم المتحدة، إذا كانت تلك هي رغبة الدول الأعضاء» وقد وافق مجلس الأمن الدولي بالإجماع في جلسة مغلقة يوم 7 يونيو (حزيران) بشأن التوصية بإعادة تعيين غوتيريش بنفس المنصب (الأمين العام للأمم المتحدة) لفترة ثانية مدتها خمس سنوات.
وستذهب التوصية التي قدمت في قرار تم اعتماده بالتزكية إلى الجمعية العامة المكونة من 193 عضواً للحصول على الموافقة الرسمية.
وفي بيان، قال السيد غوتيريش إنه «لشرف عظيم» أن يتم اختياره، شاكراً السفراء العاملين في مجلس الأمن على ثقتهم به. كما أعرب عن امتنانه للبرتغال على ترشيحه للمرة الثانية وفق ما ذكرته نشرة أخبار الأمم المتحدة.
وللتذكير أن السيد غوتيريش البالغ من العمر 72 عاماً تولى منصب رئيس وزراء البرتغال في الفترة بين 1995 و2002، ومنصب المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الفترة من يونيو 2005 إلى ديسمبر 2015.
لم يتضمن ميثاق الأمم المتحدة الذي هو بمثابة دستور المنظمة الذي تم التوقيع عليه في عام 1945 حول كيفية اختيار الأمين العام سوى النص المختصر الذي جاء في المادة 97 من الميثاق الذي نص على أن المرشح «تعينه الجمعية العامة بناء على توصية مجلس الأمن» وهو ما دفع في الدورة الأولى للجمعية العامة في عام 1946 إلى تحديد عملية الاختيار بقرار أصدرته بأن يتولى مجلس الأمن زمام المبادرة في عملية الاختيار، والاتفاق على اسم واحد في جلسة خاصة، ونقل هذا الاسم إلى الجمعية العامة لاعتماده بتوافق الآراء، ولا يتم التصويت إلا إذا طلبت دولة عضو ذلك، ويتطلب الأمر حينها الحصول على أغلبية بسيطة من المقترعين حتى يتسنى للجمعية العامة اعتماد القرار خلافاً إلى ما كان يتبع في عهد عصبة الأمم باختيار الأمين العام من بين مواطني الدول الكبرى، فضلت الأمم المتحدة اختيار مرشحي منصب الأمين العام للمنظمة من مواطني الدول المتوسطة مثل النرويج، السويد، النمسا، البيرو.
ومع ذلك فإن عمليات الترشيح للمنصب ظلت بيد الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن التي تتحكم في إنجاح أو إفشال الترشيحات عبر حق النقض (الفيتو) وبإمكانها تعطيل طلبات الترشح الأولي أو في مرحلة تجديد الولاية لفترة ثانية وهذه السلطات نادراً ما لجأت إليها الدول الكبرى.
والسؤال المطروح الآن ماذا عساه بإمكانه أن يفعله غوتيريش في ولايته الثانية بشكل مختلف عن مدة ولايته في الفترة الأولى؟ وذلك من منطلق مقاربة بعض الكُتاب الذين يرون في الأمين العام شبيها برئيس الدولة، وهو بهذه الصفة يستطيع كرؤساء الدول التي نظامها الدستوري تقييد فترة ولايته بدورتين فقط، وبالتالي يشعرون في الدورة الثانية بأنهم بإمكانهم أن يعملوا بجرأة أكبر في ممارسة مهامهم عن مدة الفترة الأولى التي يسعون فيها بعدم أخذ مبادرات، وطرح مشاريع قد لا تحظى بقبول من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن عند طلبه تجديد ولايته لفترة ثانية كما حدث مع الدكتور بطرس بطرس غالي في علاقته مع الولايات المتحدة.
في الحقيقة ميثاق الأمم المتحدة نفسه قيد سلطات وصلاحيات الأمين العام للأمم المتحدة، وكما أشار أحد رجال القانون بنوع من السخرية بالقول إن الاهتمام الواسع الذي توليه الميديا لأنشطة الأمين العام تتجاوز عدد مواد الميثاق المخصصة للأمين العام، حيث يحتل موقعه في ترتيب هيئات الأمم المتحدة في الميثاق في آخر القائمة في الفصل 15 وتحت مسمى الأمانة / السكرتارية، وفي هذا السياق سئل الأمين العام السابق كوفي أنان في مؤتمر صحافي في 18 / 9 / 2003 أثناء الأزمة العراقية هل دوركم يتمثل في اتخاذ موقف والتصريح بوضوح ما الذي تستطيع المنظمة عمله، أو أنك تنتظر أن يقال لك ما الذي يتوجب عليك عمله؟
وكان رد كوفي أنان «أنت تسألني إذا كنت سكرتيراً أم عاماً؟ سأجيبك بأنني الاثنان معاً، أعتقد أنكم لاحظتم أنني لا أنتظر ببساطة أن يقال لي ما الذي يجب علي عمله، وإنما أنا أقوم بأخذ زمام المبادرات.
وقد عرض غوتيريش خطته لولاية ثانية مدتها خمس سنوات في مارس (آذار) 2021 أمام الدول الأعضاء عن سبب ترشيح نفسه لهذا المنصب مرة أخرى.
وعرض غوتيريش دافعه الأول للترشح قائلاً وفق ما أشار إليه المركز الإعلامي للمنظمة الدولية، أنه سعى إلى تكريس طاقته «للعمل على معالجة الأسباب الجذرية للحرب والتخلف والعنف» وخلق الظروف التي «يمكن للناس النمو والازدهار فيها»، لكونه الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله، بل و«الشيء الذكي» وقال غوتيريش للدول الأعضاء من منصة الجمعية العامة في نيويورك في 7 مايو (أيار) الماضي إن الأمين العام المقبل بحاجة إلى «زيادة القوة الفريدة للأمم المتحدة إلى الحد الأقصى، ومضاعفة الجهود لزيادة الدبلوماسية من أجل السلام، وبث الطمأنينة، وبناء الثقة، وتحديد مجالات التقارب، والتوسط بحسن نية، والجمع بين الناس باستمرار» مضيفاً بالقول «إن إخفاقات العولمة، وتزايد اللامساواة، وتدمير الإنسان للطبيعة والمناخ، جعلته يدرك أن العقد الاجتماعي المتجدد أمر حتمي»…. وفي الخلاصة يمكن القول بأن غوتيريش سيواجه تحديات كبيرة بأن تلتف بعض الدول الكبرى على أعمال الأمم المتحدة وتحل بعض الأزمات الدولية خارج إطار المنظمة الدولية، ولعل أكبر التحديات التي ستواجهه عودة ظلال الحرب الباردة من خلال الصراع بين الولايات المتحد وحلفائها مع القوة الصاعدة العملاق الصيني وحليفه الاتحاد الروسي؟
فهل غوتيريش سيكون على مستوى هذا التحدي ويصل إلى مستوى التحديات التي واجهها قبله أمثال داج هامرشولد وويوثانت؟ هنا السؤال الكبير وإجابته لدى غوتيريش نفسه.
نقلا” عن الشرق الأوسط