ركز هيوم بفكره الأخلاقي على المبادئ التجريبية
عماد الدين الجبوري
تطرقنا في الحلقة الخامسة إلى سبينوزا الذي يعد منعطفاً مهماً في الولوج إلى فلسفة الأخلاق في العصر الحديث، إذ تناول جميع الموضوعات الماورائية والمعرفية والطبيعية والكونية من منطلق أخلاقي عقلاني. وأن السعادة والرغبة والجهد الذي يبذله كل شخص لحفظ كيانه، إنما هي ماهية الإنسان نفسه لا أكثر.
ديفيد هيوم (1711-1776)
ركز هيوم بفكره الأخلاقي على المبادئ التجريبية، فعلى نتائج التجربة يمكننا دراسة وتفسير كل ما يتصل بالعقل البشري والطبيعة، لا سيما أن الحس هو مصدر المعرفة لا العقل، كما أن الانطباعات الحسية والتفكيرية أكثر قوة من الأفكار الحاصلة منها، فهي ذات حيوية وحياة أكثر من الأفكار من جهة، وسابقة بالوجود عليها من جهة أخرى. ومن هنا، نبذ هيوم الأخلاق القائمة على تصورات دينية روحية أو عقلية نظرية، وشكك في جدواها، كما نظر إلى العواطف الأخلاقية وباقي الفضائل بصفتها معطيات طبيعية فحسب.
فالطبيعة الإنسانية انفعالية أصلاً، والسلوك الإنساني مشروط بها، كما أن دور العقل والحرية والإرادة محدود ومقيد، نظراً لما لدى الإنسان من انفعالات تضم السعي إلى نيل اللذة وتفادي الألم والحصول على المنفعة. وبذلك، فإن هذه الانفعالات تشكل أسباباً ودوافع للفعل، شأنها شأن كل حادثة في الطبيعة تسبقها حادثة أخرى تسببها. كما أن الأهداف الإنسانية ناتجة عن طبيعتها الانفعالات بالدرجة الأساس، وليس نتاج مبادئ عقلية أو سلوك الإنسان وفق قواعد العقل، لأن العقل وحده ليس بمقدوره أن يكون الدافع لأي فعل. إلا أن صدور الأفعال الإنسانية من العواطف والرغبات والأهواء لا يجعلها ثابتة تسير على خط واحد ومعروف، وإنما يجعلها متقلبة ومتغيرة، فلا يوجد كائن غير الإنسان الذي بلحظة واحدة يمكن أن ينقلب سلوكه ويتغير من النقيض إلى النقيض.
وبحسب تصور هيوم، فإن السببية هي اعتقاد يوجه السلوك، لكنها ليست سببية حقيقية، بل مفترضة ومتوهمة، لأن الآخر يمكن أن يصدر منه رد فعل مغاير عما كنا نتوقعه. إذ إن السببية في الأفعال مثلها مثل السببية في الطبيعة، مجرد اعتقاد نتمكن من خلاله التعامل مع المجتمع مثلما نتمكن من التعامل مع الطبيعة. وعن الحرية الإنسانية، فهي صادرة من إمكانية تغيير الإنسان لسلوكه بناء على رغباته وأهدافه ليس إلا. معنى ذلك، كما رفض هيوم خضوع السلوك الإنساني إلى قواعد عقلية ثابتة، فإنه يرفض أيضاً أن تكون حرية الفعل الإنساني تقترن بالقدرة على القيام بأفعال بناء على الإرادة الحرة، التي هي الإرادة العقلانية التي تؤدي إلى سلوك عقلاني سليم وفق قواعد العقل. فالحرية الإنسانية تتمثل في إطار الطبيعة الانفعالية المتغيرة للبشر، إذ إن طبيعة الإنسان المتغيرة والمتقلبة والمشروطة بالانفعالات هي حريته نفسها، وليس للعقل دور في أن يجعل الإنسان حراً، فلا يمكن أن يكون العقل مصدراً للحرية، وبمقدور الإنسان الإفلات من الضرورة والحتمية وفق طبيعته المضادة للعقل. وهذا لا يعني أن مثل هذا السلوك هو خروج عن العقل، وأنه سلوك غير منتظم وبلا أسباب، بل يعني أن السلوك الإنساني مبدأه الأساسي العاطفة والانفعال والرغبات لا أكثر.
وهنا هيوم، إنما ينظر إلى السلوك الإنساني على ما هو عليه من فعل، وليس كما يجب أن يكون عليه الفعل، فالحرية والإرادة لا ترتبطان بالسلوكية الإنسانية مثلما يشير إليه معظم الفلاسفة لكي يثبتوا أنها لا يمكن أن تتحقق إلا بالعقل، ولذلك اتجه هيوم إلى وصف السلوك الإنساني كما حدث بالفعل، ضمن مفهومه التجريبي من دون توجيه خارجي. ومثلما دحض هيوم أي دور للعقل في السلوك الإنساني، فكذلك يدحض دوره في مجال الأخلاق، ويؤكد أن “الرذيلة والفضيلة هما من أكثر أسباب هذه الانفعالات وضوحاً”. (رسالة في طبيعة الإنسان. طبعة إنجليزية).
ومن بين ما يستند عليه هيوم في إنكار شأن العقل بالأخلاق، يرى أن الأحكام الأخلاقية التي نصدرها حول ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة، صحيح أو خطأ، يوجب المدح والثناء أو الذم واللوم، فإنه لا يعتمد على فكرة مجردة أو قيمة عقلية نتوصل إليها باستدلال أو برهان، بل يعتمد على ما لدينا من رغبات وانفعالات وأهواء. إن إصدار حكم أخلاقي يعتمد على انطباع ما، وهذا الانطباع يأخذ صورة إحساس أو انفعال، فالناس يجدون أنفسهم مدفوعين نحو القيام بفعل ما لأنهم يعتقدون أنه خير أو صحيح، أو لأنهم يعتقدون أنه لن يؤدي إلى الخطأ أو إلى نتائج سلبية وخيمة. وهذا الوضع الذاتي ناتج عن الفطرة الإنسانية نفسها وليس البرهان العقلي أو الاستدلال من قيم أخلاقية عليا. فقواعد الأخلاق غير قواعد العقل عند هيوم. فالأخلاق نتاج اعتياد الناس على جني المنافع وتجنب الضرر، والسعي نحو المنافع وتجنب الأضرار شيء خاص بالانفعال لا العقل.
إن ما يجعل فعل ما فضيلة أو رذيلة ليس أي مبدأ عقلي أو قيمة أخلاقية، وإنما الدوافع الانفعالية التي أدت إلى هذا الفعل والظروف المحيطة بالفعل. وبما أن هذه الظروف المحيطة معطاة سلفاً ويجد الفاعل نفسه محاطاً بها، فإن أي سلوك إنساني يصدر وفقها لن يكون صادراً عن الاحتكام للعقل، بل سيكون مجرد رد فعل عليها أو استجابة لها. كما أن الفعل الصادر من الظروف المحيطة يكون دوماً مجرد رد فعل تنتفي فيه الإرادة العقلانية وتتحكم فيه الأهواء والمصالح الذاتية.
ويرى هيوم، أن الفضيلة والرذيلة هما وجهة نظر إنسانية بحتة صادرة من الطبيعة البشرية فحسب، وليس لهما وجود واقعي خارجي، لأنهما مؤسسان على فكرتي الخير والشر، وأن الخير والشر هما مجرد انطباع انفعالي ليس أكثر. إذ إن الفيضانات والبراكين والزلازل هي مجرد ظواهر طبيعية، بيد أنها في نظر الإنسان تصبح شراً أو عقاباً، وذلك لما لها من آثار سلبية للأفعال الإنسانية التي توصف بالفضيلة أو الرذيلة، أو الخير أو الشر، وهذه الأشياء ليست قيماً مطلقة، وكذلك ليس لها وجود في العالم مستقل عن انفعالات البشر، لكن يستخدمها الناس على أنها مبادئ أخلاقية بالنظر لما يعود عليهم من نفع أو ضرر.
وهكذا تعد الفضيلة ليست ذات أساس ثابت، بل هي نسبية. فالفعل الفاضل في ظروف معينة يمكن أن ينقلب إلى رذيلة في ظروف أخرى، والعكس صحيح أيضاً، فقد تتحول الرذيلة إلى فضيلة في ظروف مختلفة. وهذا يعني، أن القيم الأخلاقية نسبية ومتغيرة دائماً، وليست واحدة ثابتة، إذ تتحكم فيها الظروف المحيطة بها، فتحدد ما إذا كان فعل ما فضيلة أو رذيلة. كما أن الفضيلة والرذيلة لا تحددان السلوك قبل أن يقوم الإنسان بالفعل، بل هما نتيجة التأمل في توابع هذا الفعل بعد أن يحدث، ولذلك فهما لا يوجهان أي شيء وإنما هما مجرد انطباع أخلاقي عن الفعل الذي تحقق في السابق.
وفي هذا السياق، يورد هيوم مثالاً يوضح فيه “القتل المتعمد”، إذ يعتقد أن القتل العمد رذيلة، بيد أن الحرب ليست إلا هذا القتل المتعمد بعينه، ومع ذلك، ينظر إليها على أنها فضيلة، بل على أنها أسمى درجات الشرف. والبشر لا يخوضون الحروب بعد ما يحددون ما إذا كانت فضيلة أم رذيلة، وإنما يدخلون في الحرب أولاً ثم يبررون سلوكهم هذا بأنه فضيلة، وآخرون ينظرون إلى هذه الحرب نفسها على أنها رذيلة، لا سيما بعد أن تضع أوزارها، حيث ينظر إليها فريق على أنها كانت فضيلة، وهو الطرف المنتصر، بينما ينظر إليها الطرف الآخر المهزوم على أنها رذيلة أو اعتداء غاشم، على الرغم من أن هذا الطرف الخاسر كان يمكن أن ينظر إليها على أنها فضيلة في حال إذا كان هو المنتصر.
لذلك، ينظر هيوم إلى “العدالة” سواء كانت “فضيلة طبيعية أو مصطنعة” (المصدر السابق)، بأنها ضمن نطاق تفسيره للفضائل كونها جزءاً من حقيقة الأخلاق الطبيعية، وسبل تأسيس قواعد العدالة التي هي أفضل منظومة في الأعراف الاجتماعية. مع أن هيوم يؤكد أن المصلحة الذاتية هي الدافع الرئيس في إقامة العدالة، وأن التعاطف مع المصلحة العامة هي تسويغ أخلاقي مقترن بالفضيلة ليس إلا.
باختصار، وفق مفهوم هيوم، فإن الأخلاق غير قابلة للإثبات أو اخضاعها إلى منهج معين واحد، وموقفه هذا، مرتبط بالشكية في الدراية المعرفية التامة، إذ بحسب تصوره، ليس بمقدور الإنسان أن يحصل على ثوابت مطلقة البتة، باستثناء الحالات الساذجة والتافهة مثل قولنا: إن الأعزب غير متزوج، وإن المثلث له ثلاثة رؤوس، وهكذا.
نقلا” عن أندبندنت عربية