كريتر نت – العرب اللندنية
لم يتوان خبراء اقتصاديون من التحذير من انعكاسات كارثية للحرب الاقتصادية المشتعلة بين الحكومة اليمنية والحوثيين بعد أن أخذت منحى أكثر حدة على خلفية تصاعد الإجراءات المتبادلة بين الجانبين خلال الأيام الماضية.
وعاش اليمن على وقع تصاعد لافت في الإجراءات المتبادلة في إطار حرب اقتصادية ستكون لها تأثيرات مباشرة على الوضع الاقتصادي والمعيشي للسكان، إضافة إلى الآثار السياسية التي يمكن أن تعقد مسار التسوية السلمية ومساعي وقف إطلاق النار التي يقودها المجتمع الدولي والأمم المتحدة.
وكان الحوثيون قد أصدروا الأحد الماضي قرارا مفاجئا يقضي بالحجز على أموال بنك التضامن الإسلامي، أحد أكبر البنوك اليمنية والذي تملكه مجموعة هائل سعيد أنعم. وأرجعت الجماعة الحوثية، التي تسيطر على صنعاء، القرار إلى خلافات قضائية بين البنك وجهات أخرى.
ويرى خبراء اقتصاديون أن القرار يأتي ضمن سلسلة من القرارات الحوثية الهادفة إلى السيطرة على القطاع المالي في اليمن بشكل كلي والاستحواذ على مدخرات شخصيات ومؤسسات اعتبارية وودائعها.
واعتبر المحلل الاقتصادي اليمني فاروق مقبل الكمالي في تصريح لـ”العرب” أن “القرار الحوثي لم يراع حساسية العمل المصرفي في بلد على وشك بلوغ ذروة الانهيار الاقتصادي”.
وبرر الحوثيون، الذين يسيطرون على البنك المركزي في صنعاء، قرار حجز أموال بنك التضامن الإسلامي بأنه جاء بناء على طلب من المحكمة الجزائية المتخصصة.
وأوضح الكمالي أنه “حين يرد اسم الجزائية المتخصصة في أيّ توجيه أو قرار فمن الطبيعي أن يذهب الناس للحديث عن الإرهاب وحين يرتبط ذلك بمصرف أو مؤسسة مالية عملاقة فالأمر يتهدد كل القطاع المالي وليس المؤسسة وحدها”.
وبيّن أنه لا يوجد ما يستحق لإصدار هذا القرار أو التوجيه في وقت لا يملك فيه بنك التضامن في صنعاء ترف الرفض خاصة في ظل وجود أرصدة مطلوب الحجز عليها.
ويقول المحلل الاقتصادي إن “لدى بنك التضامن أرصدة في البنك المركزي وكان يمكن الحجز عليها مباشرة دون إصدار أيّ توجيه، بل فقط عبر إشعار البنك بما تم اتخاذه وينتهي الموضوع بكل بساطة، لكن ربما أن وراء الأكمة ما وراءها وثمة من يريد استعراض قدراته على القطاع المصرفي ظنا منه أن هذا القطاع هو مثله مثل أيّ قطاع تجاري آخر”.
السيطرة على المال والاقتصاد
يرجع المحلل الاقتصادي اليمني عبدالمجيد المساجدي سبب التصعيد الحوثي في الملف الاقتصادي والمالي إلى الأزمة الاقتصادية والنقدية التي تمر بها الجماعة، والتي دفعتها إلى اتخاذ حزمة من القرارات غير المدروسة من بينها إصدار تعميم يمنع تداول الفئة النقدية ألف ريال من الفئة (أ)، والإعلان عن مكافآت لمن يبلغ عمّن يحمل أو يتعامل بهذه الأوراق النقدية.
ويشير المساجدي في تصريح لـ”العرب” إلى أن القرارات الحوثية التعسفية تهدف إلى أمرين أحدهما إيجاد مبرر وذريعة لنهب أموال الناس وتفتيشهم، ومداهمة الشركات والبنوك ومحلات الصرافة للبحث عن الأوراق المزوّرة حسب زعمهم. كما أن تلك الإجراءات تهدف إلى ابتزاز الحكومة الشرعية والمجتمع الدولي للسماح للجماعة الحوثية بطباعة كميات من الأوراق النقدية أو تقاسم الأوراق المطبوعة مع الحكومة لمواجهة الأزمة الخانقة في السيولة في مناطق سيطرتهم.
ويؤكد أن الميليشيات الحوثية تواجه أزمة خانقة سواء في السيولة أو في الموارد التي استنزفت في المعارك الانتحارية في مأرب، لذلك عملت على التصعيد في الملف الاقتصادي.
ويقول إنه بالإضافة إلى موضوع منع تداول العملة “هناك بحث حثيث عن جميع الحسابات المجمّدة، إضافة إلى وجود قوائم لدى النيابة الجزائية المتخصصة التابعة للحوثيين يجري تسريع فصلها بتجميد أموال وحسابات وشركات ونهبها وتحويلها إلى إشراف الحارس القضائي، الذي يتبع مباشرة لعبدالملك الحوثي”.
ويرى المساجدي أن الضغط على بنك التضامن بتسليم ما يقارب من مليار ريال سعودي جاء على الرغم من أن هناك تحذيرات أممية من لجنة العقوبات بعدم التعامل مع أيّ أحكام بخصوص تسليم أموال المودعين في البنوك.
ويوضح أن جماعة الحوثي تعمل على اختلاق المبررات والذرائع لدفع القطاع المصرفي نحو الفشل والإفلاس من أجل تسهيل السيطرة عليه، مشيرا إلى أن حالة بنك التضامن واحدة من صور هذا النهج الحوثي الهادف إلى السيطرة على البنوك المموّلة لحركة التجارة، مرورا إلى السيطرة على النقد والتجارة والاقتصاد بشكل كامل والقضاء على مراكز القوى الاقتصادية.
ويقول في هذا السياق إن الجماعة تعمل على إنشاء مجلس اقتصادي أعلى مشترك من قياداتها مع بعض رجال الأعمال الموالين، كما أصدرت تعميما على جميع التجار بموافاتها بجميع البيانات المتعلقة بالمخزون من السلع والبضائع وحركة المبيعات، كما مارست ضغوطات لتسليمها أنظمتهم المحاسبية.
ويعتبر المحلل الاقتصادي اليمني أن الإجراءات الحوثية في القطاع الاقتصادي والمصرفي يقابله “تراخ من قبل الشرعية في إدارة هذا الملف”، وذلك في الوقت الذي جعلت فيه الجماعة القطاع المصرفي والتجاري نصب عينيها للسيطرة عليه بشكل كامل.
ويؤكد أن “هناك صراع مراكز قوى في الجانب الحكومي يتيح للحوثي النفاذ والتسلل لتحقيق مآربه” في السيطرة على الاقتصاد، مشيرا إلى أن الملف الاقتصادي في الجانب الحكومي يتعلق بتحقيق مصالح ذاتية لأشخاص.
ويبين أن ملفات النفط وحشد الموارد والسياسة النقدية تشير إلى فشل ذريع للشرعية التي ينبغي لها أن تغير منهجها في جعل الملف الاقتصادي على سلّم أولوياتها في ظل الحرب الحوثية الاقتصادية.
خلفيات وأبعاد سياسية
من جانبه يرى رئيس مركز فنار لبحوث السياسات عزت مصطفى أن الحكومات المتعاقبة التابعة للشرعية ارتكبت أخطاء فادحة في سياساتها الاقتصادية والنقدية في مواجهة ميليشيا الحوثي.
واعتبر مصطفى في تصريح لـ”العرب” أن مقدرة الحوثيين على فرض أشكال متعددة من القيود والإجراءات النقدية في مناطق سيطرتهم يرجع إلى تأخر الحكومة في انتزاع مفاتيح إدارة السياسة النقدية تحت ما كان يوصف حينها بالهدنة الاقتصادية، التي مكنت الميليشيا من استنزاف الاحتياطي النقدي لدى البنك المركزي في صنعاء.
وأشار إلى أن الإجراءات الحكومية الصائبة التي جاءت متأخرة تحوّلت إلى إجراءات كارثية نتيجة ما شابها من ضعف في التنفيذ والفساد، وهو الأمر الذي وظفته الميليشيا الحوثية عبر إجراءات تعسفية، لكنها شديدة الصرامة في التطبيق.
ويقول إن “الفساد قد تحكّم في صياغة السياسات الاقتصادية والنقدية خلال الحرب، لكنه اختلف لدى الطرفين، حيث أن الفساد لدى الميليشيات رغم ضخامته كان مقوننا ويصب في وعاء واحد يتم تقاسمه لاحقا ورافقته صرامة في التنفيذ، وفي المقابل بقي الفساد في الطرف الآخر منفلتا تماما”.
ويوضح أن خلفيات الإجراءات الحوثية الأخيرة لاستهداف بنك التضامن الإسلامي جاءت لتنفيذ إجراءات انتقامية بحقه على خلفية أن مجموعة هائل سعيد التجارية، أكبر مساهم في البنك وهي مجموعة تجارية واستثمارية تملك ميليشيا الحوثي نقطة ضعف كبيرة ضدها وتمكنها من ابتزازها لتقديم تنازلات تتمثل في وقوع القاعدة الصناعية للمجموعة – وهي عمودها الفقري في اليمن – ضمن نقاط التماس العسكرية في منطقة الحوبان في تعز.
ويؤكد رئيس مركز فنار أن الإجراءات الأكثر خطورة على الوضع الإنساني بعد قرارات الحكومة والحوثيين على حد سواء فتتمثل في وضع الميليشيات حدا أعلى للمبالغ المنقولة من المناطق المحررة إلى مناطقهم والتي حددوها بمئة ألف ريال يمني من الطبعة القديمة (165 دولارا أميركيا)، إضافة إلى قرار البنك المركزي في عدن المتعلق بوقف التعامل مع شبكات التحويلات الإلكترونية غير المرخّصة التي تتعامل مع محلات الصرافة.
ويتوقع مصطفى أنه في ضعف التطبيق لدى الحكومة والبنك المركزي في عدن فإنه من المرجح أن يستمر تعامل الصرافين مع تلك الشبكات الإلكترونية، وأن القرار سينعكس بأن تتحول السيطرة في إدارة النقد المحلي إلى مديري تلك الشبكات في مناطق سيطرة الحوثيين.
كما يرى أن قرار الحوثيين بشأن الحد الأعلى المنقول من الأموال سيدفع إلى الزيادة في الطلب على النقد الأجنبي في مناطق سيطرة الحكومة وبالتالي تزايد الفارق بين صرف العملات الأجنبية في مناطق الحوثيين والمناطق المحررة، التي عادة ما تواجه هذا النوع من الضغوط بمعالجات تضخمية.
ويوضح أنه نتيجة لذلك سيواجه المواطنون في مناطق سيطرة الحوثيين الكثير من الإشكالات المتعلقة بصعوبة التفريق بين العملة القديمة المتداولة وبين الطبعة الجديدة التي أنزلتها الحكومة. وقال إن الناس سيكونون عرضة لعمليات ابتزاز كبيرة ستطالهم من ضمنها مصادرة أموالهم وتعرضهم لأنواع شتى من النّصب والاحتيال من قبل ميليشيا الحوثي للاستحواذ على عائداتهم التي تتضاءل يوما بعد يوم.
كارثة إنسانية
يحذر الباحث السياسي والاقتصادي اليمني ماجد الداعري من خطورة الحرب الاقتصادية على الوضع المعيشي للشعب اليمني المتردي أصلا وانعكاسات هذه الحرب الكارثية التي ستأتي على ما تبقى من قطاع مصرفي متهالك في اليمن، مشيرا إلى أن ضررها لا يقتصر على بنك التضامن أو بنوك معينة شملتها تلك العقوبات الحوثية التي تستهدف الإضرار بالقطاع الاقتصادي اليمني المتهالك في ظل استمرار الحرب وتداعياتها على مختلف مناحي الحياة في اليمن.
ويوضح الداعري في تصريح لـ”العرب” أن تلك الحرب والإجراءات لا تستقيم مع طبيعة المرحلة ولا تراعي ظروف الوضع المصرفي الهش الأمر الذي يستدعي ضرورة توافق جميع الأطراف على تحييد القطاع المصرفي لخدمة الصالح العام وإنقاذ ما تبقى من قيمة للعملة الوطنية وتجنيب الشعب اليمني المنكوب مآلات استمرار انهيار صرف العملة مع اقتراب صرف الدولار من حاجز الألف ريال لأول مرة كون ذلك سيشكل بداية العد التنازلي لكارثة الانهيار الأخطر.
ويعتبر المحلل السياسي أن حجز الحوثي لأموال بنك التضامن موضوع سياسي أكثر من كونه مصرفيا أو قضائيا، “كون الحكم قد صدر عن النيابة الجزائية لمحكمة ميليشيات غير شرعية وليس محكمة تجارية أو جزائية، ما يعني أن الحكم مرتبط بأموال عملاء ومساهمين أصحاب تصنيفات سياسية معينة.
ويقول إن الإجراءات “ستضر بالقطاع المصرفي كون بنك التضامن الأكبر بين البنوك اليمنية وتأثيره كبير على القطاع المصرفي اليمني برمته باعتباره يمثل واجهة لأكبر مجموعة تجارية يمنية مهددة بعقوبات دولية مرتقبة تتعلق بغسل الأموال وتهريبها وفق تقرير لجنة العقوبات الدولية وهو ما يعني أن هذا الخطوة الحوثية قد تخدم البنك في هذا المسار الأخطر وخاصة أن أموال البنك قد سبق نقلها إلى خارج البلاد منذ بداية الأزمة وليست هناك أموال حقيقة يمكن للحوثيين حجزها”.
ويضيف “حتى الحوثيون سيتضررون من تجميد أرصدة بنك التضامن أو تعطيل عمله لأنهم سيخسرون أكبر العوائد من الضرائب وأموال الجبايات التي يحصلون عليها من البنك ومجموعة هائل سعيد التابع لها، ولذلك فالقرار يخدم البنك دوليا ولا يضره كثيرا في تعاملاته المحلية كونه يحتل مكانة مصرفية ضاغطة على كل القطاع المصرفي اليمني المهدد بعقوبات متوقعة من الخزانة الأميركية”.